انتـخابـات 2019 : الأجـنحة المتـكــسّـرة

انتـخابـات 2019 الأجـنحة المتـكــسّـرة

يُذكّر المشهد الذي أنتجته انتخابات 6 و13 أكتوبر بكتاب «الأجنحة المتكسّرة» لجبران خليل جبران. قرابة عشرة أحزاب، من اليمين واليسار على السواء، تترنّح تحت وقع الهزيمة، ولا ترى أفقا للتدارك في المستقبل، وفي المقابل مرشّحٌ مستقلّ يستحوذ على 77 في المائة من أصوات الناخبين، أمام مرشّح خسر السباق، بالرغم من كونه يملك وسائل تعبئة مُهيكلة، تفوق منافسه بعدة أضعاف. وتدلّ تلك النسبة الساحقة على أنّ التونسيين يريدون منح أوسع الصلاحيات للرئيس، كي لا يُكبّله البرلمان.

على الطرف الآخر من الصورة، تباين وضع الأحزاب المنتصرة، بين فوز أقرب إلى الهزيمة، واختراقات حقّقتها قوى لم يكن يُقرأ لها كبير حساب، قبل بضعة أشهر فقط. لكنّ الثابت أنّ الرابح الأوّل، وهو «حركة النهضة»، ماضيةٌ في استلام دفّة الحكم، على الرغم من اقتصارها على أقلّ من رُبع مقاعد البرلمان (52)، بالمقارنة مع ما حصدته من مقاعد في انتخابات المجلس التأسيسي وانتخابات 2014. لا بل إنّ عملية التركيب الراهنة أعسر من تركيب «الترويكا»، لأنّها كانت تحتاج آنذاك (في 2011) إلى حليفين فقط، أما اليوم فهي بحاجة إلى التحالف مع ثلاثة أو أربعة أحزاب، لنيل ثقة البرلمان، وهي مهمّة عسيرة.

استراتيجيا الاحتواء

تسعى «النهضة» إلى احتواء المرشّح الفائز بتأكيدها مرارا وتكرارا أنّه مرشّحها (الغنوشي) فيما ينفي هو مؤكّدا أنّه لا يتبع أيّ حزب، ويعد بمعاملة الجميع على قدم المساواة. وبعملية حسابية بسيطة، ندرك أنّ الملايين الثلاثة التي حصدها لا يمكن أن تساهم فيها «النهضة» بأكثر من 600 ألف صوت، وهو سقف خزّانها الانتخابي. من هنا ستكون الخطوة الأولى، التي تعتبر محكّا لعلاقات الرئيس الجديد بالحركة، هي تشكيل الحكومة. فبعد استكمال إجراءات أداء اليمين وترتيبات التسليم والتسلّم (مع القائم بأعمال رئاسة الجمهورية)، سيكلّف الرئيس الحزب الفائز بتشكيل الحكومة، طبقا لأحكام الدستور.

ويُخطئ من يعتقد أنّ «النهضة» ستوافق على تشكيل حكومة تكنوقراط، أو حكومة «كفاءات سياسية»، مسنودة من عدة أحزاب في البرلمان، لأنّها تُصرّ على أن تحكم، وأن تستأثر بمفاتيح القرار في القصبة، تماشيا مع حجمها الانتخابي. وما يشغلها هو الثمن الذي يطلبه شركاؤها في هذه العملية، فإذا كان أحد المكوّنات (التيار الديمقراطي) طالب بإسناده حقائب الداخليـة والعدل والاصلاح الاداري، فماذا سيشترط الآخرون؟ وكم الحصة التي ستتنازل عنها «النهضة»، وكم تلك التي ستحتفظ بها لنوّابها المستوزرين؟

محاصصة... محاصصة

الأرجح أنّ معايير تشكيل الحكومة النهضوية، ستكون المحاصصة التي انبنت عليها حكومة «الترويكا»، والتي عصفت بأركانها، وأكرهتها على مغادرة الحكم إكراها. وهي الآلية نفسها التي اعتُمدت في تشكيل الحكومات المتعاقبة منذ 2015، في أعقاب لقاء باريس الشهير بين الشيخين. لكنّ الواضح أنّ الحركة لم تعد بحاجة إلى حليفيها السابقين «النداء» و«المشروع»، بينما تحتاج إلى كل من «تحيا تونس» و«ائتلاف الكرامة» و«التيار الديمقراطي» وربما حزب الرحمة، إلى جانب عـدد من «المستقلين». لكـنّ هذا التحالف قد لا يكون كافيا للفوز بثقة البرلمان، ممّا يجعل التقارب مع الغريم اللدود «قلب تونــس» جسرا إجباريا للوصول إلى القصبة.

يستبعد كثيرون تحالف «النهضة» مع حزب نبيل القروي، غير أنّ الأمور تسير نحو التفاوض والتفاهم. صحيحٌ أنّ القيادي في حزب «قلب تونس» حاتم المليكي أكّد أنّ حزبه لن يتحالف مع «النهضة»، ولن يشارك في حكومة تُشكّلها الحركة، مُعتبرا أنّ «منظومة الحكم الحالية، وخاصّة حركة النهضة هي المسؤولة الأولى عن فشل السياسة الاقتصادية والاجتماعية، التي تتخبّط فيها البلاد».

غير أنّ هذا الكلام مُوجّه للاستهلاك، فمثلما كان يُقال إنّ «النداء» و«النهضة» خطّان متوازيان لا يلتقيان، والتقيا، سيُقرب التفاوض بين «النهضة» و«قلب تونس» أيضا، سواء بناء على اتفاق سياسي، أم باستقطاب «النهضة» عناصر من «قلب تونس»، بوسائل مختلفة. قد يتساءل المرء هنا: كيف سيلتقي حزبان يختلفان في المرجعيات الفكرية والمنطلقات السياسية؟ والجواب سهلٌ، فكلاهما حزب براغماتي يهتمّ بالنتائج وليس بالمقدّمات والمرجعيات، وهو المنطق الذي جعل «النهضة» تدعم تعيين روني الطرابلسي وزيرا للسياحة مثلا، وستدعم أيضا توزير قياديين من «قلب تونس» في الحكومة الائتلافية التي ستُكلف بتشكيلها، بوصفها الحزب الفائز بالمركز الأّول. والأرجح أنّ كلّا من «الحزب الدستوري الحر» و»حركة الشعب» سيبقيان في صف المعارضة، في استعادة لدور «الجبهة الشعبية» في البرلمان السابق.

مفاتيح القصبة

مع تسلّم «النهضة» مفاتيح القصبة، مثلما تأمل وتُخطّط، ستجد في قرطاج حليفا لها في شخص قيس سعيد، وهذا مكسب جديد بالنسبة إليها، قياسا على الموقع الذي تبوّأته في ظلال «الترويكا»، حيث كانت العلاقة مع الرئيس المؤقت، في البدء سمنا على عسل، قبل أن تقدح الخلافات زناد المعارك السياسية بينهما، والتي دفع ثمنها الرئيس المؤقّت السابق، خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 15 سبتمبر، بكثير من المرارة. لا يعني هذا أنّ الانسجام بين قرطاج والقصبة سيكون كاملا، فللرئيس المقبل مزاجُهُ الخاص ولـ«النهضة» اشتراطاتها، لكن من المستبعد أن تصل الخلافات مع سعيد إلى ما وصلت إليه مع المرزوقي. إذا استقرّ سعيّد في قرطاج و«النهضة» في القصبة، فمن يفوز بقصر باردو؟ يُطرح هذا السؤال أول ما يُطرح، من المُحذّرين من تغوّل الحزب الأوّل، وبسط سلطاته على جميع مفاصل الدولة. وعليه ستكون هناك ثلاث فرضيات أولاها أن تستأثر «النهضة» بالرئاسات الثلاث، وهو خيار غير مُوفّق، إضافة إلى أنه غير يسير، لكنه ممكنٌ نظريا. والفرضية الثانية هي الاكتفاء بالقصبة وقرطاج، لكن لماذا ترشّح رئيس «النهضة» لمقعد في مجلس النوّاب المقبل، وهو ما لم يحدث في انتخابات 2011 و2014، إن لم يكن ذلك بنيَة ترشيحه، في مرحلة لاحقة، لرئاسة مجلس النواب؟

عمليّا، ما العمل اليوم بعدما ضمنت «النهضة» قرطاج والقصبة؟ هنا تُطرح الفرضية الثالثة، المتمثّلة في إسناد رئاسة الحكومة إلى ممثّل لـ«النهضة»، (من يكون؟)، مثلما ينصّ عليه الدستور، مع اكتفاء رئيسها بمقعد في مجلس النواب، وعندها يجوز التساؤل: ماذا سيُضيف له هذا المقعد؟ ومن سيتولّى رئاسة مجلس النواب، وقد عزف عبد الفتاح مورو عن الترشح لعضوية البرلمان المقبل، وهو المؤهّـــل منطقيا، وبحسـب نتائج الانتخــابات، لتولّي هذا المنصب؟

في هذا السياق، الذي يطغى عليه النصر الكاسح للرئيس المنتخب، تبرز مهمات ذات أولوية، أوّلها أن يشرح الرئيس برنامجه السياسي، الذي لم يفهمه التونسيون، خاصة أنّه لم يسبق أن طُبّق في أي بلد في العالم. وثانيها أن يوضّح طبيعة العلاقة مع مجلس نوّاب الشعب، وهو لا يملك أيّ مقعد في هذا المجلس، عدا الكتل التي دعّمته ليصل إلى قصر قرطاج، وقد لا تكون مؤيّدة بالضرورة لبرنامجه. ومن هنا تبرز ضرورة إيجاد أغلبية تتبنّى برنامجه، بشكل يجعلنا نرى ما هو الاتجاه العامّ في السنوات الخمس المقبلة، ولا نرى صراعات بين المؤسّستين، قد تعطّل دواليب الدولة أحيانا، مثلما عشنا ذلك في السنـوات الأخيرة.

إجمالا، غيّرت الانتخابات، بشقّيها، ملامح المشهد السياسي، وسنرى توزيعا جديدا للمواقع والتحالفات، لكنّ أهمّ ما ينتظره التونسيون هو تبلور علاقة جديدة بين الرئاسات الثلاث، تصبّ في اتجاه علاج الاختلالات الكبرى، التي تشلّ اقتصادنا، وتؤسّس لحياة سياسية نظيفة، بعيدا عن سيطرة اللوبيات الاقتصادية وشبكات الفساد التي أنهكت البلاد.

رشيد خشانة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.