عبد العزيز قاسم: الدبلوماسية الثقافية: ماذا ولماذا؟
تحسيسا بأهمية مساحة تكاد تكون غير معروفة من بين مساحات العمل الثقافي، نظّمت الجمعية التونسية لقدماء السفراء والقناصل العامين، يوم السبت 22 جوان المنصرم، بالقصر السعيد للآداب والفنون (باردو) ندوة حول «الدبلوماسية الثقافية» محورها محاضرة للسفير المتقاعد ووزير الثقافة الأسبق الأستاذ صالح البكاري بعنوان: «الدبلوماسية الثقافية إحدى أدوات القوّة الناعمة». وذلك بحضور وزيري الشؤون الخارجية والشؤون الثقافية.
أحبّ هذه الجمعية الأنيقة ولي فيها أكثر من صديق وأشاركهم أحيانا قهوة صباح السبت. وكلّ الأوقات التي أقضيها في صحبتهم إنّما هي لحظات متميزة تختلط فيها السياسة الداخلية والدولية بالأدب والنكتة. وهم يمثّلون الوجه المشرق الآخر للنخب الوطنية. تلقيت بالبريد الإلكتروني دعوة كريمة لحضور هذه الندوة الهامة وسرّني تأكيد هاتفي، من بعض المشرفين، على حضوري وعلى رغبتهم في أن أسهم في النقاش، لما لديّ، في نظرهم، من خبرة غير قصيرة في هذا الميدان.
1 - قلت في نفسي: لم لا؟ فأنا لو امتنعت أفقد حقّي في توجيه الملامة للمسؤولين الذين لا يلتفتون لأهل الذكر للاستفادة، على الأقل، من شهادتهم على نجاحات الماضي وخيباته. وقفزت إلى ذهني ذكريات وملاحم وزوابع ومكارم.
لقد كنت من أقرب المعاونين، وبرتبة مدير عام، لما لا يقلّ عن سبعة وزراء ثقافة أذكر منهم الشاذلي القليبي، محمود المسعدي، البشيـــر بن سلامة، زكريا بن مصطفى، الحبيب بو لعراس... أشرفت بالتوالي على قطاعات مفصلية: دُور الثقافة ودور الشعب، المطالعة العمومية، دار الكتب الوطنية بالإضافة إلى المركز الثقافي الدولي بالحمامات، الدار العربية للكتاب، العلاقات الخارجية والتعاون الدولي وهذا المنصب الأخير يؤهلني مباشرة للخوض في شؤون الدبلوماسية الثقافية. هذا فضلا عن إشرافي على مؤسّسة الإذاعة والتلفزة، وقد كانت، إلى جانب مهمتها الإعلامية، هيكلا ثقافيا بامتياز له صلة وثيقة مباشرة بالإبداع وكانت له كذلك علاقاته الدولية الاستراتيجية. وعلاوة على ذلك كلّه فأنا كاتب ثنائي اللسان ذو حضور دولي، لي مؤلفات عدّة في الشعر والأدب المقارن وفي علاقات الشرق والغرب إلى جانب مشاركات كثيرة في ندوات أكاديمية تتعلق بحوار الحضارات...
2 - كان برنامج الندوة واعدا وكان الحضور ممّن يتمنّى المحاضر أن يراهم أمامه: ثلّة من القدماء والمباشرين من إطارات الوزارتين يضاف إليهم عدد من دبلوماسيّي المستقبل، طلبة المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الشؤون الخارجية. وافتتح اللقاء الوزير السفير الأستاذ الطاهر صيود، رئيس جمعية القدماء، مرحّبا ومبشّرا بتتالي الندوات وحلقات النقاش حول مهام الدبلوماسية التونسية العريقة وتبادل الرأي بخصوص نشاطاتها ومن بينها تركيز الحضور الثقافي الوطني بالخارج ثم أحال الكلمة إلى السفير نائب رئيس الجمعية، الأستاذ محمد جنيفان، الذي أوضح أن «الدبلوماسية الثقافية» مصطلح لم يكن جاريا وإن كان «البعد» الثقافي حاضرا في عمل سفاراتنا. ولكن هذا البعد قلّما كان «يدرج ضمن جدول أعمال الندوات السنوية للبعثات الدبلوماسية، سوى في السنة الفارطة».
3 - السيد وزير الشؤون الخارجية أعرب في كلمته عن الأهمية الكبرى التي يوليها لهذا الجانب الذي كان شبه مهمش في العمل الدبلوماسي وعن ضرورة اعتماده ضمن أدوات العمل الرامي إلى الدفاع عن مصالح تونس على الصعيد الدولي وإلى مزيد إشعاعها في العالم والسعي إلى «وضع خطة محكمة» للغرض تشترك فيها كل الأطراف المعنية، مشيرا إلى عودة الدبلوماسية التونسية إلى سالف قوّتها وألَقِها ممّا يمكن توظيفه لفائدة إشعاع تونس وأعلن أنّ الثقافة ستحتلّ في دروس الأكاديمية الدبلوماسية مكانة مهمّة وأنّها ستساهم في إقامة مثل هذه الندوات وأعلن في هذا السياق عن إحداث إدارة عامّة تعنى بالدبلوماسية الاقتصادية والثقافية والتخطيط الاستراتيجي.
4 - ثم أحيلت الكلمة إلى الأستاذ صالح البكاري فألقى محاضرة قيّمة بعنوان «الدبلوماسية الثقافية، إحدى أدوات القوة الناعمة» جدّد فيها النظرة إلى العمل الثقافي على خلفيّة كونه أصبح بالنسبة إلى الأمم والدول إحدى ركائز التأثير المتعاظم بين الأقطار والشعوب بما يعني أنّ الإشعاع الثقافي أضحى ورقة لا يستهان بها على هذا الصعيد. وسطّر المحاضر خطوط السير الواجب انتهاجها وصولا إلى الغاية المرجوة تركيزا لصورة تونس المشرقة وإشادة بدور المثقفين ونجاحاتهم. وتهيّأتُ لمناقشة ما جاء في حديث الصديق صالح البكاري من تعريف بالثقافة وما قدّمه من بسطة تاريخية ومن مقترحات عمل. إلاّ أنّ البرنامج طرأ عليه بعض التغيير...
5 - كان المفروض بحسب البرنامج ووفقا لما أعلنه الأستاذ الطاهر صيود في مفتتح الجلسة أن يعقب المحاضرة نقاش على أن يختتم السيد وزير الشؤون الثقافية هذا اللقاء المهمّ بالتعليق والردّ على المتدخّلين والإعلان المفصّل عن استراتيجية وزارته في مجال «الدبلوماسية الثقافية». ولم أفهم لماذا أحيلت إليه الكلمة إثر المحاضرة مباشرة. ربّما لأنّ السيد وزير الشؤون الخارجية مضطرّ للمغادرة فارتأى زميله أن يقول ما يودّ أن يقول بحضوره، شاكرا له تجاوبه واستعداده للتعاون وليطلعه على مسيرة العمل الذي يضطلع به في الوزارة التي يتولّى مقاليدها. وبالفعل أشاد السيد وزير الشؤون الثقافية بالمنجزات العظيمة التي تحقّقت رغم ضعف الميزانية وأطنب وأفاض، ولضيق الوقت بالتأكيد، لم يعلّق على محاضرة الأستاذ صالح البكاري التي تقع في صلب اهتمامات الدبلوماسية الثقافية. كما استهجن السيد الوزير بشدّة قول بعض الأوساط الحكومية بضرورة إسناد وزارة الشؤون الثقافية إلى الجنس اللطيف بدل الجنس الخشن، وكنت أودّ، حتى على سبيل الدعابة، أن أجادله في الأمر ففي اعتقادي أنّ المرأة أصلح بالحكم من الرجل. فالنساء رئيسات حكومات في الغرب وكم راق لي أن تكون امرأة على رأس وزارة الداخلية اللبنانية.
6 - وزارة الشؤون الثقافية صغيرة الحجم والميزانية، كبيرة المشاكل، وتستمدّ هيبتها من هيبة المشرف عليها. وهي معرّضة أكثر من أيّ قطاع حكومي آخر إلى ألسنة السوء ولاذع الكلام ينطلق من بعض المقاهي الشهيرة بشارع الحبيب بورقيبة يغشاها الغاضبون المحترفون من مختلف الملل الفنية والنحل الكلامية. وقسم «استفيد» شغّال. وقلّما يخرج منها وزير بكامل ريشه. في العهد البورقيبي، كانت لميزانية الثقافة، على تواضعها، روافد هامّة تتمثّل في الحصول على مساعدات وهبات دولية هامّة: منح دراسية، تجهيزات تقنية، تبادل مكثّف للبرامج والإطارات. كلّ ذلك في إطار «دبلوماسية ثقافية» نشيطة وذكية وبفضل مسؤولين ومسؤولات يجلبون الاحترام لتونس. ثم بدأ المعين يجف في عهد بن علي الذي أفقد تونس الكثير من وهجها ووجاهتها. ثم جاءت الثورة الـ(م)باركة فازدادت الأحوال الثقافية سوءا بل لقد وقع اقتطاع جزء من ميزانية الوزارة لفائدة وزارة الشؤون الدينية أي إلى نقيضها الفكري.
7 - وتوقفّت الجلسة لتمكين السيد وزير الشؤون الخارجية من المغادرة. وبعد استراحة تشتّت فيها الأفكار، استؤنفت الأشغال وكان التعب قد استولى على الهمم وغمر النسيان المحاضرة فطُرِحتْ على الوزير بضعة أسئلة هامشية رد عليها بما تستحق. أمّا أنا فلذْتُ بالصمت والتأمّل وقد كنت أودّ أن أدغدغ الصديق صالح البكاري حول بعض ما جاء في محاضرته وربّما أفردتها قريبا بمقال خاصّ. كما كنت أريد أن أتحدّث عن ملاحم وزارة الشؤون الثقافية كما عشتها وأسهمت فيها في العهد البورقيبي وما شهدته عن كثب من نسف علاقات التعاون وبرامج التبادل منذ استيلاء الرئيس بن علي على الحكم.
8 - على سبيل الذكر لا الحصر تتعيّن الإشارة إلى أنّ وزير الثقافة الصيني نزل سنة 1991 ضيفا على وزارة الشؤون الثقافية على رأس وفد هام من معاونيه وتمّ التوقيع على اتفاق تعاون وتبادل في منتهى الأهمية تضمّن هبة صينية سخيّة تتمثّل في تجهيزات سمعية وبصرية وفي آلات موسيقية تشمل كافة دُور الشعب والثقافة فضلا عن مشاركة أشهر الفرق الصينية في مهرجاناتنا وغير ذلك من برامج التبادل. والجدير بالملاحظة أنّ الصين أكثر شركائنا جودا وأحرصهم على تطبيق الاتفاقات. إلا أنّهم تركوا هذا الاتفاق حبرا على ورق بسبب قرار تعسّفي أرعن اتّخذه بن علي يوم سفر الوفد الصيني بإقالة عدد من مديري وزارة الشؤون الثقافية شملت كلّ المسؤولين الذين أعدّوا الاتفاق الثقافي التونسي الصيني. لم يكن لهذا القرار الانتقامي الغبي أيّة صلة بالموضوع لكنّ الطرف الصيني رأى في ذلك تنكُّرًا غير صريح لما اتفق عليه وبلغني أنّهم استنتجوا أنّ بعض القوى الإمبريالية لم تكن راضية عن هذا التقارب التونسي الصيني في مجال مؤثّر وداعم للصداقة.
9 - اهتمامي بالدبلوماسية الثقافية بدأ سنة 1967، حيث صدر عن دار نشر باريسية كبرى كتاب بعنوان «أنثولوجيا الأدب العربي، مجلـــد 3، الشعـــر». تصفَّحتُه فلاحظت في الفصل المخصص للشعر التونسي غياب عدد من الشعراء المعـروفين عنـدنا حينذاك وإدراج أسماء أخرى ليست في عداد الشعـــراء. وصــادف أن التقيت بمؤلفَيّ الكتاب فلفتّ نظريهما إلى هذه النّقائص فأجــابا بأنّهما اجتهدا قدر المستطاع مع قلّة المراجع وأكّدا لي أنّهمــا اتصلا بالملحق الثقافي بسفارتنا بباريس للحصول على قائمة لأهمّ الشعراء التونسيين فعبّر لهما عن أسفه لعدم وفرة هذه المعلومات عنده وما عليهما إلا التحوّل إلى تونس والاتصال بالجهات المعنية. وقمت تبعا لذلك بحملة تحسيسية باتّجاه وزارة الشؤون الخارجية عن طريق اتحاد الكتاب الذي كنت أحد أعضاء هيئته وممّا ساعد على بلوغ هذه الحملة وجود وزير على رأس الاتحاد هو المرحوم محمد مزالي. واستمرّ التداول بهذا الشأن إلى الثمانينات من القرن الماضي وفيها برزت فكرة ترى أنّ الملحق الثقافي، على غرار الملحق الاجتمـــاعي، ينبغي أن تعيّنه وزارة الشؤون الثقافية من بين أهـل الاختصاص. لقيت الفكرة استحســـانا، ولأسبــاب إجرائية وسياسية لم تطبّق. ومهما يكن من أمر توطدت العـــلاقات بين وزارتي الشؤون الخارجية والثقافية. وأذكر أني، طـــوال الفترة التي اضطلعت فيها بمهام الإدارة العامة للعلاقات الخارجية والتعاون الدولي، كنت على صلة مباشرة ومستمرة وعلى غاية الانسجام مع نظراء بوزارة الشؤن الخارجية.
ومهما كان حسن النوايا والاستعداد بين الوزارتين تبقى مسألة في غاية الأهمية ذكرها رئيس الجمعية الأستاذ الطاهر صيود في الختام وبصورة عابرة عندما قال: الملحق أو المستشار الثقــافي لا يتوفّر دائما في سفاراتنا فتقليص الأعوان، لإكراهات في الميزانية، يطاله قبل غيره مع الأسف... والموضوع ما زال يحتاج إلى أكثر من ندوة.
عبد العزيز قاسم
- اكتب تعليق
- تعليق