التّلــوّث اللّفــظي في تـــونس حركة اجتماعيّة أم ظاهرة مرضيّة؟
لعلّ الحديث عن التّلوّث اللّفظي والأبعاد الخياليّة التي اتّخذها في تونس يعدّ من باب التّكرار الممجوج. فهل يعني ذلك وجوب التّطبيع معه والتّعامل بشأنه كمعطى من معطيات الصّوت والصّورة في اليومي التّونسي؟ إذ أنّ الأمر ذهب بالبعض إلى تبريره من منظور علم النّفس الاجتماعي وأرجعه إلى سنوات القمع وهيمنة ثقافة النّفاق والتّابوهات الاجتماعيّة، إلى درجة أنّ من يستنكر هذا التّلوّث أصبح ينعت بالمتخلّف و»القديم« حسب تعبير »المتفهّمين« لهذا التّلوّث. على أنّ فرقا كبيرا يتجلّى بين تشخيص الظّاهرة ومحاولة فهمها وربّما البحث عن حلول لمعالجتها، من جهة ومن جهة أخرى، الإقرار بمشروعيّتها والتّسليم بوجودها والتّعامل معها.
الظاهرة انتقلت من الشّارع الذي يمكن أن نفهم أنّه مكانها الطّبيعي، إلى الفضاءات العموميّة من مقاه ومحــلاّت تجــــاريّة والفضاءات الإداريّة وحتّى الفضاء العائلي، عن طريــق القنــــوات المسمــــوعة والمرئيّة وشبكات التّواصل الاجتماعي.
ذخيرة حيّة من الألفاظ السّوقيّة أصبحت تلازم التّونسي منذ السّاعات الأولى من اليوم، صباحا مساء وعلى امتداد الأسبوع وأحيانا يوم الجمعة في محيط الجوامع وهي تستعدّ لقبول المصلّين وبثّ كلمات التّوادد والرّحمة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
والأنكى أنّ مسبّبات هــــذه الألفاظ عـــادة ما تكون مجانيّة لا مبرّر حقيقيّ لها وأنّ الدّافع الفعلي هو استعراض القدرة على الاحتجاج وعلى فرض «الحرّيّة» الذّاتيّة: حرّيّة التّعبير وفرض الرّأي. وغالبا ما يكون الرّأي مخالفا للأعراف والقوانين القائمة.
القوانين؟ رجوعا إلى القانون عدد 59 المؤرّخ في 14 أوت 2006، والذي وقع تنقيحه وصدوره في النّصّ عدد 30 المؤرّخ في 5 أفريل 2016، وجدنا فقرة بسطر واحد تنصّ على منع التّلوّث السّمعي والذي يمكن أن يدرج ضمنه التّلوّث اللّفظي، وهذا نصّه: « إحداث أيّ نوع من الضّجيج أو الضّوضاء المتأتّية من المحلاّت المعدّة للأنشطة التّجاريّة أو الحرفيّة المنتصبة بالتّجمّعات السّكنيّة أو من قاعات الأفراح في غير الأوقات المحدّدة من قبل الجماعات المحلّيّة المعنيّة».
هذه مقاربة قانونيّة للتّلوّث السّمعي بمقياس بالدّيسيباليّة العلميّة، على أنّها ليست متبوعة بالتّنسيق الأمني والمراقبة التي يفترض أن تتابعها وتسهر على تطبيق القانون وردع المخالفين له. وليس أدلّ على ذلك من التّسيّب الذي نعاينه على امتداد الموسم الصّيفي والذي يطلق لمضخّمات الصّوت العنان إلى ساعات الفجر. فأين نحن من «العاشرة احترام الجار، العاشرة احترام النّائم ومن احترم غيره فقد احترم نفسه»؟
المقاربة التي لم يتعرّض لها القانون هي مقاربة الثّقافة السّمعيّة البصريّة التي علّمتنا إنسانيّات الدّراسة أن نحترمها ونقرأ لها حسابا في علاقاتنا العائليّة والاجتماعيّة.
هل إنّ الهبّة ضدّ الدّكتاتور طوت في جنباتها هذه الثّقافة فأفلتت منها معايير الحياء من الإساءة للغير ومن مواجهته باللّفظة النّابيّة كبديل للكلمة الرّقيقة والتّحيّة التي تذوّب جليد الجفاء والعنف فتحضر الأعذار ويتبيّن حقّ كلّ طرف ومعه حدود حرّيته مقابل حرّيّة الطّرف المقابل؟ وهل من المنطق استحضار الحرّيّة في مقام العنف والهجانة والقبح؟ أفليس للحرّيّة مستندات؟ وهل للعنف اللّفظي المعنوي أو العنف المادّي مستندات يمكن أن نستحضر معها مصطلح الحرّيّة؟ إنّما الأمر يتعلّق بغياب المبرّرات وهو الوحيد المبرّر لسوق الأصوات الصّارخة التي سادت مرئيّاتنا وسمعيّاتنا وحتّى منابر مساجدنا وفضاءات تعليمنا من الابتدائي إلى الجامعي، مرورا بالثّانوي. ومن البديهي أن ينسحب هذا التّيّار وينساب جارفا معه قيم الحوار الرّاقي وقيم الاستقامة في تعاملنا مع المحيط اللّفظي لثقافتنا ولهويّتنا. القيم النّاجية من تيّار الهبّة ضدّ الدّكتاتور؟ هي الفساد والابتزاز والانفلاتات بكلّ أنواعها: الإعلاميّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والقيميّة ... وهي التي كوّنت البيئة المثلى للتّلوّث بكلّ أنواعه وبخاصّة أخطر أنواعه على السّلامة الثّقافيّة وعلى نقاوة الهويّة الإنسانيّة: التّلوّث اللّفظي الذي سمّم التّعامل بين الأفراد والجماعات وتشكّل في هيئة فيروس ينخر الخطاب الجمعي مدركا حتّى الخطاب السّياسي الذي تنكّر لقيم التّعقّل ولأيّ مقياس من مقاييس اللّياقة والنّزاهة والتّعفّف. إنّه زمن خطاب «الفتوّة» لا في معناها الدّرامي ولكن في معناها الأخلاقي والسّلوكي الاجتماعي.
سيميولوجيّا، إنّ من يمعن في تركيبة الخطاب اللّفظي العنيف أو الهجين، يلاحظ أنّها تركيبة مهزوزة لا تنقّطها نسقيّة عروضيّة من حيث شعريّة اللّغة ولا ترعاها محاذير النّحو والصّرف. وهي إذ تلفظها المنظومة اللّغويّة المتواضع عليها، فلأنّ تلك المنظومة اللّغويّة لا تحتمل الخواء المعنوي كما لا تحتمل غياب المستند الفكري لها.
وبالتّالي فإنّ المستفيد الواحد من انتشار اللوّث اللّفظي هو الإنتاج الثّقافي الضّحل من فنون وبرامج فرجويّة تندرج في خانة الاستعمال الوحيد والتي تسعى جاهدة إلى نسف كلّ أثر للمعنى الفكري لتعوّضه بالكليشيهات والنّكت البذيئة وبزخم من المواقف والمشاهد التي لا يتحكّم فيها المعنى بقدر ما تسوسها الحواسّ البهيميّة البدائيّة.
قد يذهب الظّنّ بالبعض إلى أنّ هذا العارض من التّلوّث اللّفظي قد يصادف مرحلة آنومية (une phase anomique) وهي مرحلة عادة ما تتبع النّقل الكبرى في الحضارات والثّقافات فتعيد النّظر في القيم والمفاهيم التّقليديّة لتصوغ بدائل عنها تتوافق والأنساق الاجتماعيّة الجديدة. إلاّ أنّ هذا التّشخيص لا يستقيم إذا ما اعتبرنا الجانب الهمجي والارتجالي لظاهرة الهجانة اللّغويّة أو التّلوّث اللّفظي. فهي لا تعتبر، سوسيولوجيّا، حركة اجتماعيّة بقدر ماهي ظاهرة مرضيّة ناتجة عن فهم خاطئ للحرّيّة وللانعتاق من نير الدّكتاتور. وما يؤكّد طابعها المرضي أنّها مصحوبة بتخلّف في ثقافة العمل وقيمه ومدلولاته. فبقدر ما تتقوّى مؤشّرات التّلوّث اللّفظي، بقدر ما تنقص الحماسة في العمل ويتصاعد الجنوح إلى الاعتصامات والاحتجاجات التي تصبح لقمة سائغة «لموائد» الإعلام تتلقّف فيها أقوى عبارات الهجانة والعنف والسّباب والثّلب. وهكذا تتشكّل الظّاهرة وتتفشّى وتعمّ لتصبح البيئة ملوّثة تلوّثا تامّا سمعيّا وبصريّا ومادّيا.
فوزية بالحاج المزّي
- اكتب تعليق
- تعليق
التلوث اللفظي أو الكلمة البذيئة أو الكلمة الخبيثة كلها سواء فهي موروثات فكرية في كل كائن بشري تختلف من قطر إلى قطر ومن لغة إلى أخرى متواجدة في مخيلاتنا تسمعها آذاننا وتخزنها عقولنا في فترات عمرية متواصلة تبدأ من الحاضنة الأولى أي الأسرة والمجتمع ....وهناك عوامل تربوية ودينية تقلص من هذه الظاهرة بل وتقضي عليها إذا اجتهدنا في ذالك وليس الحل في إبرام قوانين جزائية ردعية وإنما الحل في إنشاء معتقد ديني إسلامي قرآني محمدي للفرد منذ نعومة أظافره في تحفيزه وترهيبه إن من يبتعد عن البذاءة فهو من أهل الله ومع صحبة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام /ليس منا بالطعان ولا الفاحش ولا اللعان/ وان غير ذالك فليس له مكان مع اهل الكلمة الطيبة حينها ترسخ للطفل عقلية لا تتأثر بالغبار من فحش الكلام وسرعان ما يجليها عقله ولا يقبلها لسانه ومجرد التفكير في ذالك يتطلب منه الاستغفار وهكذا تبنى المجتمعات وترتقي بارتقاء عقولها ومنطقها.