السـكّـان المـشــتـغـلــون بالفـلاحـة ومستـوى عيشـهــم

الســـكّــــان المـــشــتـــغـلـــون بالفـــــلاحــة ومستـــوى عيشـهــم

عندما تخرج الفلاحة من اقتصاد الكفاف إلى اقتصاد المبادلة، لا بدّ أن يتطوّر الفلاح ليصبح هو أيضا مقاولا اقتصاديا بالمعنى المتعارف وإلّا تأخرّت الفلاحة عن بقيّة القطاعات الاقتصادية الأخرى من حيث الاستثمار والمكننة واستعمال التقدم الفني والعلمي والإنتاج والإنتاجية. ومن الملفت للنظر حقّا أنّ علماء الاقتصاد الذين أعطوا للمقاولين الاقتصاديين دورا محوريا في التقدّم الاقتصادي مثل «شومبتر» نسوا هم أيضا التأكيد على ضرورة وجود مقاولين اقتصاديين في الفلاحة حتّى تتقدّم. ولعلّ هذه الإشكالية  تفسّر هي أيضا التأخّر النسبي للفلاحة التونسية عن بقيّة القطاعات الاقتصادية رغم اقتحام الميدان الفلاحي في السنوات الأخيرة من طرف باعثين جدد خرجوا من عقلية الكفاف إلى عقلية المبادلة. لذا وجب التركيز على التركيبة العددية والعمرية والثقافية للفلاحين في تونس حتّى تكون مدخلا لفهم الحاضر ومعينا لاستنطاق المستقبل.

يوجد تضارب كبير فيما يخصّ عدد السكان المشتغلين بالفلاحة والغابات والصيد البحري سواء تعلّق ذلك بالمزارعين أو الفلاحين أو المستغلّين الفلاحيين أي في عدد النشيطين غير الأجراء الذين يتعاطون الفلاحة سواء أكانوا مالكين أو كرّاء للأرض التي يستغلّونها أو مستأجرين أو تعلّق الأمر بعدد الأجراء والمعينين العائليين (المشتغلين من العائلة دون أجر). فإذا رجعنا إلى نتائج التعداد العام لسنة 2014 الذي قام به المعهد الوطني للإحصاء نجد أنّ مجمل السكان النشيطين المشتغلين 15 سنة فما فوق في قطاع الفلاحة والغابات والصيد البحري وصل إلى 345 ألف (ثلاث مائة وخمسة وأربعين ألفا) منهم 31,1 ألف يعملون لحسابهم الخاص بأجراء و40,5 ألف يعملون لحسابهم الخاصّ دون أجراء و1,263 ألف أجراء و6,6 آلاف متدرب أو معين عائلي. أمّا إذا رجعنا إلى الإحصائيات الصادرة عن نفس المعهد والمتعلّقة بتوزيع السكان المشغّلين حسب القطاعات إلى موفّى الثلاثي الثالث من سنة 2018 فإنّنا نجد أنّ مجمل السكان المشغلين في قطاع الفلاحة والصيد البحري وصل إلى 497.500 أي بزيادة ما يفوق مائة وخمسين ألفا بين 2014 وأواخر 2018 وهو رقم يخرج عن المنطق من عدّة وجوه.

تطوّر عدد السكان المشغّلين في الفلاحة والصيد البحري بالألف

1975 1984 1994 2004 2014 الثلاثي الثالث لسنة 2018
509 475,4 501 461,3 345,1 497,5

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

الوجه الأوّل يتعلّق بالاتجاه العام لتطوّر عدد السكان المشغّلين بالفلاحة والصيد البحري حيث أنّ هذا العدد يتناقص بطبيعته على الأمد المتوسّط والبعيد وإن خرج قليلا أو كثيرا في فترة صغيرة ما عن الاتّجاه العام بسبب أو آخر كالمناخ مثلا فخروجه يبقى ظرفيّا أو موسميّا لا يكون فجوة ذات مغزى، أمّا الوجه الثاني فيتعلّق بالرابط الطبيعي بين إحداثات الشغل الصافية في قطاع الفلاحة والصيد البحري والعدد الجملي للسكان المشغّلين في القطاع وفي الحالتين لا نجد مبّررا لزيادة تفوق 5,100 ألف بين 2014 والثلاثي الثالث لسنة 2018.

أمّا إذا قارنّا المعطيات المتوفّرة والمتعلّقة بعدد المستغّلين الفلاحيين (المستقلين في الفلاحة حسب لغة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) من حيث المصدر: المعهد الوطني للإحصاء من جهة ووزارة الفلاحة من جهة ثانية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من جهة ثالثة والمنظّمات المهنية من جهة رابعة فحدّث ولا حرج لأنّ التضارب بينها واضح سواء تعلّق بعدد الفلاحين أو بعدد الأجراء في القطاع الفلاحي. فالمسح الذي أنجزته وزارة الفلاحة  في 2004 مثلا أفرز رقما عاليا جدّا لعدد المستغّلين الفلاحيين قرب من 300 ألف في حين قدّر التعداد العام للسكان والسكنى العدد الجملي للناشطين في الفلاحة بما فيهم الأجراء والمتدّربون والمعينون العائليون بما يقارب 461 ألف ، لذلك سنأخذ بعين الاعتبار المعطيات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء دون سواها رغم التحفّظات التي أشرنا إليها سابقا.

توزيع السكان المشتغلين في الفلاحة والصيد البحري حسب الوضعية المهنية في 2014

الوضعية المهنية العدد %
 مستقل مع أجراء بالألف  31,1  9,0
 مستقل دون أجراء بالألف  40,5  11,7
 أجراء بالألف  263,1  76,3
 متدرب أو معين عائلي بالألف  6,6  1,9
 وضعيات أخرى بالألف 3,7  1,1
 غير محدد بالألف  0,1  0,0
 الجملة بالألف 345 100

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

نلاحظ هنا أنّ نسبة الأعراف والمستقلّين بالقطاع الفلاحي بلغـــت 20,7 % من مجمل المشتغلين بالقطاع وهي نسبة تقرب جدّا من نسبتهم في الاقتصاد عموما التي بلغت 18,9% في 2014، كما نلاحظ أيضا أنّ نسبة المشتغلين بالفلاحة الذين بلغ سنّهم ستين سنة فما فوق من مجمل المشتغلين وصلت إلى 13,2% مقابل 4,5% لكلّ القطاعات، كما نلاحظ أيضا أنّ ثلاثة أرباع المشتغلين بالفلاحة لم يتجاوز مستواهم التعليمي المرحلة الأولى من التعليم الأساسي مقابل 40,7% لكلّ القطاعات في حين أنّ المستوى التعليمي العالي خصّ خمس المشتغلين بصفة عامّة مقابل 2,3 % فقط في الفلاحة.

وتبرز هذه المعطيات شيخوخة المشتغلين بالفلاحة وتدنّي مستواهم التعليمي ممّا ينبّه لخطورة الوضع من حيث تجديد الأجيال عند المستغّلين الفلاحيين وما يترتّب عنه من عزوف عن العمل والاستثمار في الفلاحة في المستقبل.

بعض النّسب النوعية المتعلّقة بالسكان المشتغلين حسب تعداد سنة 2014

  الفلاحة والصيد البحري مـجـمل القطاعات الاقتصاديـة
الأعراف والمستقلون %20,7 %18,9
الأجراء %76,3 %78,0
الفئة العمرية 60 سنة فما فوق %13,2 %4,5
المستوى التعليمي من لا شئ حتى الابتدائي %75,1 %40,7
المستوى التعليمي العالي %2,3 %20,7

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

ليس لدينا كما هو معلوم معطيات كافية ومضبوطة ومباشرة عن مستوى عيش السكان المشتغلين بالفلاحة لأسباب متعدّدة، فقضيّة المداخيل في تونس قضيّة شائكة عموما والمعلومات المتوفّرة قليلة خاصّة المعلومات المتأتية من مصالح الضرائب المباشرة على الدخل زد على ذلك صعوبة تحيين المردود المالي لهكتار واحد من المزروعات لأنّ المردود يتغيّر بنوعية المزروع وطريقة السقي والمساحة الجملية للقطعة الفلاحية والمحيط الجغرافي وحجم ونوعية الاستثمار وسياسة الأسعار عند الإنتاج والظروف المناخية المتقّلبة، إلى آخر ذلك من المعطيات التي تؤثّر بصفة مباشرة وغير مباشرة على الدخل المتوفّر. وحتّى لو اعتمدنا طريقة حساب تأخذ بعين الاعتبار المعدّل السنوي للدّخل استنادا إلى الصبغة الدورية التي تختلف مدّتها طبيعيا بين زراعة الحبوب مثلا وزراعة النخيل، فإنّ دخل هكتار واحد من التمور، وهي فلاحة أقلّ تأثرا بنزول المطر وأكثر استقرارا نسبيا ، يبقى مرهونا في النهاية بالطلب في الخارج وبالعرض في الداخل. والواقع أنّ قضيّة المداخيل الفلاحية قضيّة معقّدة كمسألة المداخيل بصفة عامّة كما أشرنا. لذا فإنّنا مضطرّون لاعتماد المعطيات التي يوفّرها المسح الوطني المتعلّق بإنفاق الأسر واستهلاكها ومستوى عيشها كي نأخذ فكرة عامة عن مستوى عيش المشتغلين بالفلاحة والصيد البحري رغم عدم دقّة هذه المعطيات وسهوها عن الدخل الإضافي الناتج عن الاستهلاك الذاتي، إلى آخر ذلك من النقائص المنهجية والحسابية. أنجز المعهد الوطني للإحصاء المسح الوطني العاشر المتعلّق بإنفاق الأسر واستهلاكها ومستوى عيشها بين ماي 2015 وماي 2016، وتدلّ نتائجه أنّ عدد الأسر المرجّحة التي يرأسها فلاح بلغت 189 ألف وعدد سكانها المرجحين ما يفوت قليلا 850 ألف وأنّ عدد الأسر التي يرأسها عامل فلاحي بلغت ما يقارب 42 ألف وعدد سكانها المرجّحين ما يقارب 185 ألف. كما دلّت النتائج أيضا أنّ متوسّط إنفاق الفرد على الصعيد الوطني في 2015 بلغ 3871 دينارا سنويا مسجّلا زيادة ب 3,2% (ثلاثة فاصل 2 بالمائة) بالأسعار القارّة بين 2010 و2015 مقابل 1,7% فقط بين 2005 و2010. أمّا متوسّط إنفاق الأفراد الذين ينتمون إلى أسر التي يرأسها فلاح فإنّها بلغت 2808 دينارات في حين بلغ متوسّط إنفاق الفرد الذي ينتمي إلى عائلة يرأسها عامل فلاحي 2188 دينارا وهما متوسّطان يدلّان على ضعف مستوى عيش الفلّاحة والعملة الفلاحيين مقارنة بمتوسّط الإنفاق على الصعيد الوطني وحتّى مقارنة بالعملة غير الفلاحيين.

متوسّط الإنفاق السنوي بالدينار في 2015 حسب الصنف المهني والاجتماعي

 

 

الصنف المهني والاجتماعي لرئيس الأسرة متوسط إنفاق الفرد متوسط الإنفاق الأسري
الإطارات والمهن الحرة العليا 6760 27849
الإطارات والمهن الحرة المتوسطة 5275 21955
أعوان آخرون 3734 16144
الأعراف في الصناعة والتجارة والخدمات 4304 19182
المستقلون في الصناعة والتجارة والخدمات 3527 15716
العملة الغير فلاحيين 2978 13178
الفلاحون 2808 12650
العملة الفلاحيين 2188 9647
العاطلون عن العمل 2509 10574
المتقاعدون 4822 17635
غير نشيطين آخرين 3287 10812
المجموع 3871 15561

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

لهذه الفروق أسباب منها ما يتعلّق بمردود الأرض ومنها ما يتعلّق بمستوى الأجر الأدنى الفلاحي إلى غير ذلك من الأسباب الاقتصادية، ولكنّ عدد الشهور في السنة التي يتحوّل فيها الناشطون في الفلاحة  إلى مشتغلين أو مشغّلين تفسّر أيضا تدنّي مستوى إنفاق الفرد والعائلي مقارنة بالأصناف الأخرى وبالمعدّل الوطني إذ تبلغ نسبة العاملين بالفلاحة كامل شهور السنة ما يفوت قليلا الثلث بينما تبلغ نسبة العاملين بالفلاحة من ستة شهور إلى أقلّ من شهر ما يفوت أيضا الثلث وهذه دلالة على وجود ارتباط بين نسبة الانشغال السنوي في الفلاحة ومستوى الدخل السنوي في هذا القطاع.

شهور العمل سنويا في القطاع الفلاحي في 2014

عدد الشهور عدد العاملين بالألف النسبة
أقل من شهر واحد 10,1 %2,9
بين شهر و 6 أشهر 66,1 %19,2
بين 6 و12 شهرا 132,7 %38,5
كامل السنة 126,5 %36,7
المجموع 345,1 %100,0

المصدر: المعهد الوطني للإحصاء

إنّ الفرق الظاهر بين متوسّط الدخل في الفلاحة ومتوسّط الدخل في الصناعة والخدمات والفرق الظاهر أيضا بين المداخيل داخل القطاع الفلاحي نفسه حسب نوعية الإنتاج ومساحة القطع الفلاحية من المسائل الشائكة التي تعاني منها كلّ البلدان تقريبا وخاصّة البلدان التي تؤثر فيها الأحوال المناخية أكثر من غيرها مثل تونس. ومع ازدياد الحاجيات البشرية من المواد الفلاحية وتقلّب الأحوال المناخية أكثر ممّا مضى وتوجّه الفلاحة نحو فلاحة بيولوجية نتيجة لضغط المستهلكين ممّا يدفع بصفة أو أخرى نحو مراجعة أولوية الإنتاجية في الفلاحة وما يترتّب عنها من زيادة في الأسعار لا تغطي في الغالب الخسارة الناتجة عن هذا التوجّه تفتح آفاق جديدة من الممكن أن يترتّب عنها ازدياد الفرق بين المداخيل الفلاحية والمداخيل الأخرى.

إنّ الفلاحة التونسية التي كانت تواجه لحدّ الآن مشاكل مزمنة  تعلّقت أساسا بالمناخ المتقلّب والأسعار عند الإنتاج وهيمنة مسالك التوزيع  والنفاذ إلى التمويل وشيخوخة المستغّلين وهروب الشبان من العمل في الفلاحة وهشاشة الدخل ستجد نفسها في المستقبل القريب جدّا أمام تحديات جديدة تتعلّق أساسا بالتأقلم مع الظروف المناخية الجديدة واستعمال الموارد المائية بصفة عقلانية والمرور إلى فلاحة بيولوجية بيئية والحدّ من التشتّت والتجزئة وإقرار تنظيمات هيكلية تستطيع الدفاع عن مصالحها وتنظيم إنتاجها وضمان استقرار مدخولها. وهذا التحــــوّل المصيري الذي لا بدّ منه لا يمكن أن يرى النّور إلّا إذا صيغت إستراتيجية فلاحيه مستقبلية واضحة بدل سياسة تراكمية هرمة وسلبية.

الحبيب التهامي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.