احميده النيفر: الإسلاموفوبيا, الشجرة والغابة

الإسلاموفوبيا : الشجرة والغابة

1 - كيف يمكن توصيف مذبحة مسجدي «النور» و«لينوود» بمدينة «كرايستشيرش» في نيوزيلندا التي ذهب ضحيتها خمسون شخصا وإصابة نحو خمسين آخرين ممن كانوا يؤدون صلاة الجمعة في 15 مارس 2019؟

2 - للإسهام في الإجابة لا بدّ من استحضار ما جدّ من حوادث مشابهة في الغرب في السنوات الأخيرة للنظر في دلالاتها ومآلاتها. مطلع سنة 2017 في «كندا» وفي مدينة قصيّة أخرى بشمال أمريكا أطلق مسلّحان النار على مصلين في المسجد الكبير فقتلا ما لا يقل عن ستّة مصلّين وأصابا آخرين بجروح. حصل هذا في المركز الثقافي الإسلامي بـ «كيبيك» الذي سبق أن تعرض في شهر رمضان إلى تدنيس من قبل مجهولين.

في الولايات المتحـــدة الأمريكية عرفت بلـــدة «اســــلامبرڨّ» (Islamberg)، شمال غرب مدينة نيويورك، حملات إعلامية مشهِّرة بما تدّعي أنّ البلدة تقوم به من نشاط إرهابي. تعيش في هذه البلدة التي أسّسها شيخ صوفي باكستاني ثمانينات القرن الماضي 25 عائلة مسلمة أمريكية من أصول إفريقية بعيدا عن الصخب المديني كما تأوي مقر منظّمة «مسلمو أمريكا». في منتصف سنة 2015 كشفت الشرطة الفيدرالية الأمريكية عن مخطّط من متطرّفين بيض للهجوم على البلدة المسالمة وإحراق مسجدها وقتل سكانها.

عند الانتقال إلى البلاد الأوروبية التي تقوم مجتمعاتها الحالية على التعدّد والمواطنة أظهر تحقيق أنّ 69% من الإيطاليين لهم موقف سلبي من المسلمين الذين لا يزيد عددهم عن 4% من مجموع السكان بينما بلغ التوجّس من المسلمين في المجر نسبة الـ 72%. في بولونيا سجّل التحقيق نسبة تخوّف بلغت 66% مقابل تناقص بسيط في إسبانيا وصل إلى 55% في حين كانت النسبة في السويد 35%.

اللافت للنظر اليوم هو ما سُجِل في المملكة المتحدة من ارتفاع الاعتداءات الموجهة للمسلمين بعد مذبحة نيوزلندا تضاعف بنسبة 600%.

في محاولة تفسير تنامي موجة الإسلاموفوبيا في الغرب تُثار أوّلا هجمــات 11 سبتمبر 2001 التي نفّـــذها تنظيم «القــــاعدة» ثمّ ما توالى بعد ذلك من اعتداءات على عواصم ومدن أوروبية من نفس التنظيم أو من تنظيم «داعش» المنشقّ عنه. في هذا تبرز حوادث «مدريد» في مارس 2004 و«لندن» 2005 وما تلاها في بلجيكا وألمانيا وهولاندا والدانمارك وإيرلاندا وخاصّة في فرنسا التي ظلّت مُستهدَفة خاصة في مدينة «تولوز» سنة 2012 و«بــــاريس» في حادثة مجلة «شارلي إبدو» في جانفي 2015 وما تلاها من اعتداء على مسرح «البتكلان» في نوفمبر من نفس السنة.

ينتهي رصد المشهد الدولي إلى أنّ مذبحة مسجد النور في نيوزلندا هي في جانب منها تجسيد لمرحلة من مراحل تنامي «ظاهرة» الإسلاموفوبيا. في هذا المستوى لا بدّ من التنبيه إلى أنّ عددا من الباحثين والدارسين يجدون أنّ التسمية غير دقيقة فضلا عن التردّد في اعتبارها ظاهرة بالمفهوم العلمي للكلمة. ذلك ما ذهبت إليه مثلا مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية التي عملت سنة 2017 على تفسير تنامي حالة الكراهية للإسلام والمسلمين في الغرب باعتبار أنّ ما يجري قد تجاوز المجال الغربي ليصل إلى الصين حيث ظهرت مجموعات أطلقت على نفسها اسم «المُعادون للحلال». من جهة أخرى فقد نسبت المجلّة الأمر لـ«شركة الإسلام العالمية» التي تشمل مموّلين وناشطين إيديولوجيين والتي شنّت بعد سبتمبر 2001 حملة تعتبر أنّ «الإسلام تهديد شيطاني يجب القضاء عليه». ينحو هذا القول إلى وجود «صناعة للإسلاموفوبيا» بما ينزع عن جملة الاعتداءات المعادية للمسلمين صفة الظاهرة التي لا تُعتبَر كذلك إلاّ إذا فرضت نفسها واقعيا وأمكن تحليلها تحليلا اجتماعيا بحيث تغدو مُلزمة للإرادات الفردية.

مُؤدَّى هذه القراءة أنّ الإسلاموفوبيا هي أقرب إلى الشجرة التي تُخفي غابةً من العناصر والمكوّنات المختلفة التي لا يُراد إظهارها.

4 - على هذا كيف يمكن تشخيص الوضع المُسيء للمسلمين وللأوروبيين ولعموم الغربيين ولمستقبل العلاقات بين الشمال والجنوب؟

هناك إرادة سياسية صاعدة موغلة في الانغلاق من سياساتها رفض حركة المهاجرين عموما نجدها مثلا فيما عبّر عنه الرئيس «ترامب» في مواجهة بعض المسلمين والمكسيكيين بادّعاء أنّ أمريكا ستكون أفضل دون هجرة. في فرنسا لا يتردّد السياسي اليميني «فيليب دو فيليي» (Philippe de Villiers) أن يعلن عمّا يفكر فيه آخرون بأن تصبح «فرنسا دون إسلام». يتكرّر نفس الخطاب بتعبيرات مختلفة جزئيا في إيطاليا والنمسا والسويد إمّا بادّعاء الحرص على القومية الإثنية أو للتصدي للهجرة لكونها تمثل خطرا ثقافيا واقتصاديا.

استفاد هذا التيار الهَووِي الحمائي من هجمات 11 سبتمبر وما تلاها من اعتداءات بما ساعد على نشر الخوف والكراهية وبما شرّع لمقولات التجانس العرقي احتماءً من خطر من سمّاهم منفذ الهجوم على مسجد النور في نيوزيلاندا بالغزاة.

بهذا، وعبر الإسلاموفوبيا، استطاع اليمين المتطرّف الغربي و«الأصولية المسيحية» في تحالف موضوعي بينهما وسعي مزدوج إلى استعادة مواقع سياسية واجتماعية خَسِراها منذ عقود نتيجة علمنة المجتمعات.

لذلك، وبعد مذبحة مسجد النور، عندما يطرح سؤال: لماذا كلّ هذه الكراهية للإسلام والمسلمين؟ فلا بدّ من استحضار أنّ جوهر إشكال الإسلاموفوبيا في تحوّله إلى الشجرة التي تُوظَّف لإخفاء مخاوف الغابة ومطامعها.

5 - عند هذا المستوى يتأكّد الرجوع إلى البيان الذي أصدره منفّذ مذبحة مسجد النور، والذي دوّن فيه بصورة مفصّلة ومطوّلة دوافعه فيما أقدم عليه من قتل المسلمين في مسجدي نيوزلندا. في هذا البيان الذي وزّعه الجاني عبر الأنترنيت على رئيسة وزراء نيوزلاندا وعلى الإعلاميين قبل دقائق من شروعه في جريمته اختار عنوان «الاستبدال الكبير» (The great replacement) لبيانه محدّدا به دوافعه الإيديولوجية العرقية. كان بذلك يستحضر مقولة الكاتب الفرنسي «رونو كامو» (Renaud Camus) المُنذِر باختفاء الشعوب الأوروبية واستبدالها بشعوب أخرى جرّاء هجرات غير الأوروبيين من المغرب وإفريقيا. تجد هذه المقولة رواجا متزايدا اليوم لدى أقصى اليمين السياسي الغربي علما أنّ لها جذورًا معتمدة في مقولات القوميين الأوروبيين منذ نهاية القرن 19 وفيما كانوا يعلنونه من مخاوف انقراض السلالة البيضاء المهدّدة بهجـــرة الأرمن واليهـــود. ما حصل لدى أقصى اليمين اليوم هو أنّ الخطر على «السلامة العرقية» صار من المغاربة والأفارقة. لقد اختفت الحجّة البيولوجية القديمة القائمة على استعلاء العرق الأبيض ليعوّ ضها الخطر الثقافي والديني المهدد للبيض بالاندحار الحضاري.

6 - في مقدمة بيان «الاستبدال الكبير» أعلن إرهابي مسجد النور في صيحة استغاثة بُكائية منذرة بوقوع المحظور قائلا: «إنّها معدلات الخصوبة (ثلاث مرات) فلا أُريدكَ أن تتذكّر من هذه النص سوى أنّ معدّلات الخصوبة عندنا يجب أن تتغيّر. إنّنا حتّى لو قمنا بترحيل جميع غير الأوروبيين من أراضينا، فسيظلّ الأوروبيون مواجهين لمأساة التراجع ومخاطر الانقراض لأنّ كل يوم يمرّ يؤكّد ضعفنا وهرمنا وقلّتنا. لذا فلا مناص من التوصّل إلى معدلات الخصوبة البديلة التي بدونها سيُقضي علينا. بقاؤُنا مرتبط حتما بمعدّل الخصوبة التي يجب أن تتجاوز عتبة الاستبدال بما يجعل لكلّ امرأة نسبة إنجاب أعلى من الـ 2.06 الحالية. المعضلة أنّ البيض يفشلون في التكاثر سواء في أوروبا أو في الأمريكيتين أو في أستراليا أو نيوزيلندا.»

في قسم آخر من البيان جعله منفّذُ العملية الإرهابية مصاغا في سؤال/ جواب للتعريف بشخصه وأفكاره ودوافعه نكتشف طبيعة رؤيته لذاته وللآخرين وللتاريخ وسيرورته. في هذا نقرأ أنّه «لا يخاف من الإسلام بل من نموّه الذي يهدّد وجود شعوب أخرى بمعتقداتها نتيجة ارتفاع معدّل إنجاب المسلمين». وفيه يقرّ بأنّ اعتداءه هو «انتقام من الإسلام الذي اكتسح منذ 1300 سنة الغرب عسكريا». عن سؤال: ما علاقته بالشعوب الأوروبية وهو الأسترالي يجيب أنّ «أستراليا، ككل المستعمرات الأوروبية، مركز متقدّم للشعب الأوروبي وأنّها كإصبع اليد لجسم أوروبا». ثم يؤكّد أنّه فعل ذلك بناء على «الاختلاف المميّز بين الشعوب باعتبار أعراقها لما لهذا الاختلاف من تأثير في الانتظام الاجتماعي ونمط العيش».

7 - بهذا نقف على جانب هامّ من «الفكر» الذي يروّج له في الغابة التي تُخفيها شجرة الإسلاموفوبيا. لكن هذا لا ينبغي أن يُنسيَ جانبا آخر ممّا يُمكِّن لغابة الأعطاب. إنّه الجانب المتعلق بما يعتمل في الفضاء العربي الإسلامي من عوامل الضعف والكراهية وإذلال الذات. ذلك ما عبّر عنه مثلا معلّق في إذاعة تونسية خاصّة فيما نشره عن ضحايا مذبحة نيوزيلاند الذين اعتبرهم ذهبوا إلى جنّة من جنان الأرض ينشرون تخلّفهم وكرههم للحياة ورفضهم للاندماج وقبول الاختلاف!!!

في مستوى أخطر كشفت أخيرا مجلة «فورين بوليسي» الأميركية أنّ جهاتٍ عربية نافذة أنشأت تحالفات مع جماعات يمينية غربية لتغذية التعصّب المناهض للإسلام.

هو تحقير الذات، أو الخَوَلية، بالتعبير الخلدوني، التي تجعل للآخر سيادة على الذات بقوانينه وقدراته ورموزه. بهذا الإذلال يُفعَّلُ رافدٌ قويّ في غابة الإسلاموفوبيا من خلال استحكام التبعية وعقلية الاستزلام..

احميده النيفر

جـامعي وعضو بيت الحكمة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.