عامر بوعزّة: ماذا فـعـلـنا بالديمقراطية؟

 عامر بوعزّة: ماذا فـعـلـنا بالديمقراطية؟

لخّص رئيس الحكومة وهو يجيب المحتجّين على الترفيع في أسعار المحروقات الأزمة التي تتخبّط فيها البلاد، فقد أكّد أوّلا أنّ حكومته اتخذت القرار تحت وطأة الضرورة القاهرة والإكراه الحتمي، وأشار ثانيا إلى تراجع القدرات الإنتاجية في مجال الطاقة على خلفية الفصل 13 من الدستور، ما يعني أنّ كلفة الديمقراطية والشفافية أصبحت باهظة جدا ناهيك عن كونها تُدفع دائما من جيوب الفقراء. أضف إلى ذلك أن الهوّة بين الخطاب السياسي والواقع تزداد عمقا واتّساعا من يوم إلى آخر، ففي الوقت الذي يلجأ فيه المحتجّون إلى غلق الطرقات وتعطيل المصالح العاجلة مطالبين الحكومة بالتراجع عن قراراتها المجحفة يتحدّث يوسف الشاهد عن ضرورة التفكير الآن في الطاقات البديلة!

يمثّل الاحتقان الاجتماعي وجها من وجوه الإخفاق السياسي، فالغليان الذي تشهده عدّة قطاعات حيوية يعتبر نتيجة حتمية لفشل الحكومات المتعاقبة منذ الثورة في إحداث تغيير إيجابي ملموس في حياة المواطن اليومية. وهكذا أصبح الحراك الشعبي وقودا للحملات الانتخابية التي بدأت قبل الأوان أو لعلها لم تتوقّف يوما، لا سيما أنّ الوعود التي أطلقتها كل الأحزاب في الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة ظلّت محض شعارات وتطلّعات، فالسياسيون الفائزون في الانتخابات يلجؤون عادة لدى مباشرتهم العهدة إلى التصريح بأنّ حجم المسؤولية لم يكن مطابقا لتوقّعاتهم، وأنّ إكراهات عديدة تحول دون تطبيق ما وعدوا به بالسرعة التي يتوقّعها المواطن، وهكذا تنطلي الحيلة، وتظلّ تلك الوعود ذاتها صالحة لانتخابات أخرى ودفع آخرين إلى سدّة الحكم.

في ظلّ هذه الأوضاع تتهيّأ تونس إلى خوض انتخابات برلمانية ورئاسية خريف العام 2019 هي الرابعة منذ سقوط النظام السابق، ويفترض أن يذهب الناخبون هذه المرّة إلى صناديق الاقتراع وفي رصيدهم تجربة أولى مع الحكم الديمقراطي مكتملة الملامح يمكنهم في ضوئها اتخاذ اختيارات تمثّل حقيقة موقفهم بعيدا عن أيّ مؤثّرات ظرفية وعاطفية كما حدث في انتخابات المجلس التأسيسي أكتوبر 2011 التي شارك فيها الناس بكثافة مدفوعين بوهج الثورة مأخوذين ببريق شعاراتها. لكن في حين كان الناخبون يتوقّعون أن تنتهي مصاعب المرحلة المؤقIتة التي عرفتها البلاد مع الترويكا حال إنجاز انتخابات 2014 عاينوا لاحقا أنّ الأمر مختلف في الواقع. وشهدت الانتخابات البلدية تراجعا وفتورا لافتين تحت وطأة سؤال حارق يردّده الجميع بأشكال مختلفة: ماذا فعلنا بالديمقراطية؟ إذ بدأت تسود قناعة لدى الكثير من المتابعين بأنّ الانتخابات لا تعني بالضرورة الخروج من الأزمات بل قد تعني في الحالة التونسية خصوصا البقاء فيها لفترات أخرى.

كلّ المقدّمات الانتخابية تؤكّد أنّ الموعد المقبل لن يختلف جوهريا عن سابقه، وهذا أحد وجوه أزمة الحكم العميقة، ليس مهمّا هنا وصف الأجواء التي تسبق الانتخابات وإبداء الامتعاض من إيقاظ النّعرات الإيديولوجية والنّزعات الاستئصالية وتصاعد الخطابات المتطرّفة في شتّى الاتجاهات، بل من المهمّ الإشارة إلى ما لم يتحقّق على صعيد الممارسة الدّيمقراطية ذاتها، فالمشهد الحزبي حافظ منذ خمس سنوات على تشرذمه ولم يُفض الإفراطُ في التّعددية إلى خلق قوى كبرى متعادلة، ولا توجد مؤشّرات جدّية على إمكانية حدوث ذلك في الأمد المنظور، كما أنّ الفاعلين السياسيين الذين يتأهّبون لخوض الانتخابات المقبلة هم أنفسهم الذين ظلّوا يهيمنون على المشهد السياسي والإعلامي طيلة الفترة السابقة بما يدلّ على أنّ الأحزاب أخفقت في التجدّد وتكريس الديمقراطية داخلها، بل إنّ كثيرا من رموز المعارضة زمن بن علي أخفقت حتّى في الانسحاب المشرّف من المشهد والركون إلى النقد الذاتي.

شهورا قليلة قبل الموعد الانتخابي ما يزال الوقت مناسبا لإحداث تغييرات تكتيكية مناسبة لإنقاذ العملية الديمقراطية من هذه النمطية التي تردّت فيها، شرط أن تتوفّر إرادة فعل ذلك. يدخل ضمن هذا الباب تغيير الاستراتيجية الخطابية القائمة على الإقصاء وتقديم برامج سياسية قابلة للتحقّق في المدى القريب والعمل على مقاومة نزعة الزعامة في الأحزاب بتجميعها في عائلات تقوم على التقارب في الأفكار والاتجاهات. تبدو هذه الاستحقاقات أكثر من ضرورية في مرحلة ما بعد الانتقال الديمقراطي خشية تنظيم انتخابات بلا ناخبين.

عامر بوعزّة

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.