رشيد خشانة: تساؤلات حول »حركة النهضة« في الانتخـابـات المقــبلة

 رشيد خشانة: تساؤلات حول »حركة النهضة« في الانتخـابـات المقــبلة

من تركيا إلى المغرب وموريتانيا، مرورا بالعراق والسودان وليبيا والجزائر، يشهد تيار «الإسلام السياسي» فترة جزر انحسر خلالها تأثيره في الأحداث، بعد المدِّ الذي ترافق مع انتفاضات الربيع العربي، في مطالع العقد الحالي. وبالرّغم من أنّ أهمّ جسم سياسي في تونس ممّن يدينون بتلك المرجعية، مازال متماسكا، ويحتفظ بالمركز الأوّل بين الأحزاب البرلمانية، فإنّه لا يبدو في منأى عن التأثّر بموجة الانحسار، لأسباب لها علاقة بالدينامية الداخلية للمجتمع التونسي، أكثر منها بالتطوّرات الأخيرة في المشهد الإقليمي.

لنرصُد أوّلا المتغيّرات الإقليمية في علاقة بالتيارات التي يُطلق عليها إعلاميا «الإسلام السياسي»، والتي شكّلت التجربة التركية منارة لها منذ مطلع الألفية. فقد استطاع رجب طيب أردوغان إيصال أوّل حزب ذي مرجعية إسلامية إلى الحكم في تركيا الكمالية، في أعقاب فوزه بالانتخابات البلدية في إسطنبول وأنقرة. إلاّ أنّ حزب «العدالة والتنمية» استفاد من أخطاء سلفه حزب «الرّفاه»، بقيادة نجم الدين أربكان، فلم يضع هويّته الفكرية في الصدارة، بل تصرّف باعتباره حزبا ليبراليا وسطيا، وحقّق فعلا نجاحات اقتصادية أنقذت البلد من أزمة عميقة، فأفلح في كسب ثقة رجال الأعمال والطبقة الوسطى على السّواء. واستطاع أردوغان منذ تولّيه رئاسة الوزراء في 11 مارس 2003 التعايش مع الدولة العميقة على أساس خدمة المصلحة القومية، وبذلك تمكّن حزب «العدالة والتنمية» من إيصال عبد اللّه غل إلى سدّة الرئاسة (2007)، فكان أوّل رئيس جمهورية منحدر من تيّار أصولي إسلامي.غير أنّ التّعاقد غير المكتوب الذي تمّ بين أردوغان وكلّ من المؤسّسة العسكرية وكتلة رجال الأعمال الكماليين سرعان ما تفتّت بين أصابع الرئيس، الذي بات همُّهُ الجلوس على كرسي الرئاسة بعد تنحّي رفيق دربه غل (2014)، فعدَّل الدستور من أجل منح أوسع الصلاحيات لرئيس الجمهورية في استفتاء 2017 الذي قسم المجتمع التركي إلى كتلتين، ولم يظفر فيه أردوغان سوى بأغلبية ضئيلة. وأدّى هذا المنحدر الشديد نحو الحكم الفردي إلى ابتعاد أعمدة «العدالة والتنمية» عن رئيس الحزب، وفي مقدّمتهم رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو وعبد اللّه غل.

محاولة انقلابية؟

بعد تغوُّل الرئاسة وانحسار القاعدة الاجتماعية للحكم، لم يجد أردوغان من وسيلة لوقف تراجع مصداقية «العدالة والتنمية» وانحسار شعبيته سوى الإعلان عن اكتشاف محاولة انقلابية في جويلية 2016 تستهدف الرئيس، وهي مؤامرة مازال كثير من خيوطها غامض. إلاّ أنّ أردوغان استثمرها إلى أبعد الحدود لتصفية خصومه في المؤسّسة العسكرية والأمنية والقضاء والجامعات ووسائل الإعلام... يُضاف إلى ذلك عنصر مهمّ يتمثّل في دخول الاقتصاد التركي إلى مرحلة ركود، تدهورت في سياقها قيمة الليرة إلى أدنى المستويات. في ضوء هذه الخلفية ندرك أسباب هزيمة «العدالة والتنمية» في الانتخابات البلدية الأخيرة، في أنقرة وإسطنبول ومدن كبرى مثل أنطاليا وإزمير، والتي اعتُبرت إخفاقا لأردوغان وفشلا للنظام الرئاسي الذي أرساه. ومن عناوين تلك الهزيمة الانتخابية أنّ مرشّح الحزب في إسطنبول بن علي يلدرم، الذي شغل منصب رئيس الحكومة إلى وقت قريب، انهزم أمام مرشّح المعارضة أكرم إمام أوغلو. والأرجح أنّ هذه الهزيمة الانتخابية في المعقل الذي كان منطلقا لمسيرة «العدالة والتنمية»، تُنذر باحتمال فقدان الحزب الأغلبية في الانتخابات البرلمانية المقبلة.

السودان...أنموذج يُحتذى به

إلى جانب تركيا، واجه الحكم الإخواني في السودان انتفاضة غير مسبوقة استمرّت أكثر من ثلاثة أشهر وحملت الجيش على الإطاحة بالرئيس العسكري عمر البشير، الذي استحوذ على السلطة في القرن الماضي (1989)، وعرف البلد في ظلّ حكمه تراجعا متواصلا، سواء في مستوى التنمية السياسية أو التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولعلّ أبرز إنجاز حقّقه النظام هو تقسيم البلد إلى شطرين: دولة جنوب السودان وجمهورية السودان، وما انجرَّ عن التقسيم من حرمان الشمال من أهمّ آبار النفط. بهذا المعنى تُشكّل تجربة الإسلام السياسي في السودان بقيادة «الجبهة الإسلامية»، إخفاقا على طول الخط، يدلُّ عليه الطابع الشامل للانتفاضة الراهنة، التي تجاوز زخمها انتفاضة 1964 ضدّ الفريق ابراهيم عبود، وانتفاضة 1985 ضدّ اللواء جعفر النميري. مع ذلك تُمثلّ هذه التجربة السودانية أنموذجا تحتذي به الحركة الإسلامية في تونس، إذ صرّح رئيسها راشد الغنوشي خلال زيارة رسمية للخرطوم في 2012 بأنّ «النهضة اعتبرت دائما أنّ السودان بالنسبة إليها مركز إلهام وإشعاع، بسبب ما حبل به هذا البلد من  تجربة فكرية رائدة ألهمت حركات إسلامية كثيرة، وربّما كنّا في تونس في طليعتها».

في الجزائر، التي تعيش منعطفا تاريخيا نحو الديمقراطية، تواجه أحزاب الإسلام السياسي موقفا حرجا بسبب كثرة انقساماتها، وتورُّط قيادات الحزب الأبرز بينها، وهو «حركة مجتمع السلم» (حمس)، مع القيادات العسكرية منذ تسعينات القرن الماضي، في صنع ديكور تعدّدي. وتُعتبر «حمس» الفرع الجزائري للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين. وقد شاركت في حكومات متعاقبة، سواء في شخص زعيمها السابق أبو جرة سلطاني أو خليفته عبد المجيد مناصرة، فيما اتّخذ الأمين العام الحالي عبد الرزاق مقري موقفا متذبذبا من نظام بوتفليقة لدى انطلاق الانتفاضة. وكيفما كان الموقف، فالثابت أنّ التيّار الإسلامي بأحزابه القانونية الأربعة ظلّ هامشيا ولم يستطع لعب دور كبير في المسار الراهن الرامي إلى إرساء المؤسسات الانتقالية.

إبعاد الزعيم

وفي المغرب المجاور أيضا يعرف حزب «العدالة والتنمية» بعض التراجع في أعقاب إبعاد الدولة العميقة لزعيمه السابق عبد الاله بن كيران من رئاسة الحكومة، وتفجُّر بعض القضايا الأخلاقية التي طالت اثنين من وزرائه. ويمكن القول إنّ الحزب عرف أوج قوّته عندما حصد 125 مقعدا في البرلمان من أصل 395 مقعدا في الانتخابات الأخيرة (2016)، بعدما كان عدد مقاعده لا يتجاوز 107 مقاعد فقط في انتخابات 2011. وفي جميع الأحوال سيحتاج الحزب إلى التحالف مع أحزاب أخرى ليتمكّن من تشكيل أغلبية حاكمة، وهو وضعٌ شبيه بوضعنا التونسي، إذ أنّ حركة «النهضة»، التي تتوقّع استطلاعات الرّأي أن تأتي في المرتبة الأولى، ستحتاج إلى ترويكا جديدة أو رباعية لكي تحكم.  لا يختلف وضع أحزاب الإسلام السياسي في باقي البلدان العربية عن هذا المشهد  الشاحب، فحتّى من يتحكّم في دولة أو دويلة مثل «حماس» في غزة، تخلّى عن استراتيجيا المقاومة، وبات خطّه السياسي لا يختلف جوهريا عن خطّ غريمه حركة «فتح».  وفي تونس تأثّرت «النهضة» بموجة الانحسار الإقليمية لكن بشكل مختلف، إذ تراجعت كتلة الأصوات التي حصل عليها مرشّحوها من انتخابات إلى أخرى. فبعدما حصدت مليونا و500 ألف صوت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (2011) أي 37 في المئة من أصوات المسجّلين على قائمات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وعددهم الإجمالي ثمانية ملايين، تراجعت في الانتخابات التشريعية (2014) إلى 947 ألف صوت، أي 27 في المئة من أصل 5.2 ملايين مُسجّل. ثمّ تراجعت كتلتها في الانتخابات البلدية (2019) إلى 400 ألف صوت فقط، من أصل خمسة ملايين مسجّل. لكن علينا أن نشير إلى خلط الأوراق الذي طبع الانتخابات المحليّة الأخيرة، فقد اتّضح أنّ كثيرا من القائمات المستقلّة تنتمي إلى «النهضة» أو إلى أحزاب أخـــرى، ممّا يجعـــل معرفة حجم المُصوّتين لكــلّ حــزب بشكل دقيـــق أمــرا عســيرا.

ديناميات داخلية

مع ذلك ليست «النهضة» في منأى عن التأثّر بموجة انحسار الإسلام السياسي في المنطقة، لأسباب لها علاقة بالدينامية الداخلية للمجتمع التونسي، أكثر منها بالتطوّرات الأخيرة في المشهد الإقليمي، مثلما أسلفنا. وإذا ما استعرضنا الديناميات السلبية التي ساهمت في إضعاف صورة الحركة، نجد أنّها من ثلاثة أصناف، أوّلها فشل بعض رؤساء البلديات المحسوبين عليها في إدارة بلدياتهم، بحكم قلّة الخبرة ونقص المرونة في التسيير، ممّا أعطى  أمثلة سلبية (باردو وصفاقس مثلا). وثانيها قصور وزرائها عن تحقيق أداء يختلف نوعيا عن أداء زملائهم في الحكومة، بشكل يمحو ذكرى تجربة الترويكا. وثالثها الحملات التي تعرّضت لها في علاقة بالإغتيالات السياسية، ممّا ألقى ظلالا على دور ما بات يُعرف بـ«الجهاز السرّي» في تلك الاغتيالات.

في المقابل استطاعت الحركة أن تحافظ على بنيتها التنظيمية، ولم تُسجّل استقالات من كتلتها في البرلمان، كما أنّها تعمل على تجديد خطابها بالتركيز في حملاتها الانتخابية على شعارات المدنية والتحديث والديمقراطية. على أنّ ما سيُميّز الأحزاب عن بعضها البعض في الحملة الانتخابية المقبلة، هو مدى قدرتها على تقديم عرض متكامل يعتمد على الحلول التنموية، بما يُنعش الاقتصاد ويُنشّط التصدير ويحدُّ من اللجوء إلى التداين ويضبط التضخّم. وبهذا المعنى ستكون المسائل المتّصلة بالمعيشة هي العنصر المُحدّد في اختيارات الناخبين.

رشيد خشانة

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.