محسن بن عيسى: نحو مدوّنة سلوك سياسية

محسن بن عيسى: نحو مدوّنة سلوك سياسية

لا يمكن بأي حال أن نغالط أنفسنا بشأن الواقع السياسي. لقد أخفقت نُخبنا ولم تنجح فيالتأسيس لوعي مجتمعي يقوم على احترام شرعية الدولة واعتبارها عنوانا للوحدة الوطنية وإطارا تتحقّق فيه التعدّدية السياسية والمدنية. ومن الملحوظ أنّ التطورات السريعة في البلاد انعكست على نحو واضح في واقعنا وأثبتت ضُعف المؤسسات والأحزاب والحركات في التعاطي مع المُستجدات.

لقد بات ضروريا أمام تراجع المعايير السياسية والأخلاقية وتأثير ذلك على المشهد السياسي والشارع بشكل سلبي، أن نعمل على معالجة واقعنا بطريقة عقلانية.

لا سياسة بدون أخلاق!

يبدو أنّ المنشغلين بالسياسة وجّهوا التفكير لمحاربة الفساد كنتيجة طبيعية لتغيير النظام وما يتبعه من تغيير للأشخاص ذوي الشّبهات. ولو أنّ هذا الأمر "مُهم"، فقد تناسى البعض "الأهم" وهو إعادة ترسيخ الأخلاقيات وتغيير أسلوب التفكير لا فقط في القاعدة العريضة الاجتماعية وإنما في مختلف مستويات الهرم السياسي.

ليس من قبيل الصدفة أن يؤسّس –آدم سميث- كتابه عن الاقتصاد "ثروة الأمم" بكتاب سابق يتحدّث فيه عن نظرية الشعور الأخلاقي. فالأخلاق هي بُنية تحتيّة للعلاقات البشرية وللتطور الاقتصادي والسياسي، وهذا ما غاب عن فهم الكثير. لقد أضرّت الممارسة السياسية اللاأخلاقية بالبلاد أيّما ضرر وانعكس ذلك على صورتها بين الدول.

ولكن كيف يتم تكريس الأخلاق في السياسة؟ هل هي مجرّد صفات شخصية، أم هي قيمة إجتماعية؟

أعتقد أنها قيمة إجتماعية أكثر من شخصية، فالدول التي بُنيت فيها هذه القيمة كان معظم سياسييها أكثر التزاما بالقيم وانضباطا في السلوك. وهي دول لا يحكمها القانون الوضعي وحده ولكن هناك ايضا قانونا أخلاقيا أوسع مجالا وأكثر انتشارا. فالتصرف السياسي اللاأخلاقي لا مكان له في مجتمع مُحترم، وطبيعي أن يكون الوازع الأخلاقي فيه أكثر فاعلية من عقاب القانون.

علينا أن نذكّر وأنّ السياسة لا يمكن أن تشتغل في فراغ، فلا بدّ من مصاحبتها ببيئة سياسية تُدرك المسؤولية، أو لها "ضمير سياسي". سنكون مشاركين في ظلم الوطن ما لم نعيد "بناء الممارسة السياسية"، كدعامة لنجاح جميع الاصلاحات التي نعتزم القيام بها.

إنّ التدهور الحاصل على النحو الذي نراه ونسمعه يعني التدمير الذاتي للسلطة والدولة. ومن أبرز مظاهر هذا التدمير التركيز على مواقف الاختلاف و الانفعال والحياد بالقضية الرئيسية عن مسارها الطبيعي ومن ثمّ تغذية الصراعات. ولاشك أن اغتراب بعض السياسيين عن المجتمع سببه اعتماد خطاب متدنّّ  يحمل المواطنين على النفور منهم وتجاهله مهما كانت قيمتهم.

يتساءل كثير من الملاحظين عن دور بعض الوجوه السياسية في تشكيل الفكر السائد وبلورة الوعي العام ويستفسرون عن عطائهم في تحديد المسارات وتنمية السلوكيات وتعميق الممارسات. حريّ بنا أن نقف مليا عند قدرة هؤلاء على الإسهام في تثقيف المجتمع ليمتلك المناعة القوية والوعي الضروري والقدرة على تجاوز الأزمات وتصريف شؤونه بأساليب تدفعه نحو التقدم بدل تدمير معنوياته و العودة به إلى الوراء.

ليس في مصلحة أحد، تجسيد منطق الصراع محل منطق التعايش، وإنتاج سلوك سياسي يعتمد إهانة رجال الدولة، فالبلاد تقف على حدّ السكين وعلى الجميع أن يتحمّل مسؤوليته الوطنية والتاريخية.

الاستثناء التونسي؟

لا يمكن أن نأخذ الحديث عن "الاستثناء التونسي" على محمل الجدّ فهو نتاج ثقافة سياسية منقرضة تروم التمجيد، ولعل الغاية من اعتماده هي الاشارة الى خروج تونس بعد 2011 عن الاستثناء العربي في مراهنتها على الانتقال الديمقراطي.. والتقدم في هذا المسار. لا أرتاح كثيرا إلى بعض الى الأقلام العربية التي ترى "المجتمع التونسي جاهزا للتحول، حتى بموجب نظريات الحداثة، وأنّ تونس قد تغدو دولة المواطنين العربية الأولى، وأن العقد القادم هو عقد التونسة ... تونسة العرب".

وبغض الطرف عن سلامة هذه القوالب اللغوية وخلفيات هذا التقييم ومراميه، لا أحد يُنكر صمود المؤسسات الوطنية، وتمسّك المؤسسة العسكرية بعدم التدخل في السياسة، وتمكنالأحزاب والمجتمع من إدارة حوار وطني بينما فشلت في بلدان أخرى؟

ولكن لا يجب أن نميل كثيرا مع هذه الشعارات الجوفاء التي قد تلهينا عن معالجة الأوضاع والتعرف على مواطن الضعف والفشل لدينا. لا يمكن أن نتغاضى عن حقيقة واقعنا، فتعاقب الحكومات لم يعكس الاستقرار المؤمل، حيث شهدت البلاد ضُعفا في بُنية الخيارات وعُزلة لرموز السلطة وعدم قدرة الأحزاب على التواصل.

إنّ المتأمل في مجريات الأمور يتوصّل إلى أنّ تعبير "الاستثناء التونسي" لا يمكن أن يتجسّم في ظل تفاقم الأزمة القَيميّة والأخلاقية التي نعيشها. لقد فقدت الدولة رمزيتها وهيبتها ونفوذها وتراجعت قدرتها على انفاذ القانون والأخذ بزمام الأمور.

لا ينبغي الحديث عن أي "استثناء" والهوية الوطنية التي أمّنت تاريخيا وحدة المجتمع التونسي وأمنه واستقراره مهدّدة بهوية وافدة زارعة للفرقة ومزعزعة لوحدة العقيدة ومؤدية الى التطرف العنيف. لا أرى أن تعبير "الاستثناء" يتطابق مع واقعنا حيث ينقسم المشهد السياسي ويسير الجميع في حلقة مفرغة. إنّ التحدي الداخلي، الذي يواجهه شعبنا، هو إغراقه في نزاعات سياسية وإلهاؤه عن مشروع تقدمه واستعادة دوره الحضاري. لقد تحوّلت التطلعات إلى انكفاءة دامية ومؤلمة تحتاج إلى زمن طويل للخروج منها وتجاوزها.

إن طبيعة المجتمع التونسي تميل في توجهاته العامة إلى الإقرار بأهمية توفّر حرّية الرأي وحريات التجمّع والتنظّيم ضمن الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية بشكل يجعل التفكير في "مدونة سلوك سياسية" أمرا ضروريا، لتأمين التواصل مع النخب وتأطيرها وحمايتها من الاختراق والانزلاق والهيمنة أو الإقصاء.

محسن بن عيسى

عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.