عبد العزيز قاسم: وقفات مع شطحات السيد دونالد ترامب
1 - الولايات المتحدة الأمريكية أعظم دول العـــالم عسكـريا واقتصـاديا ولهـــا من القوّة الناعمة ما يؤهّلها لامتلاك القلوب والأخــذ بـــالألباب. نحـــبّ كتّابها ونقدِّر علماءها ولنا بفنّانيها إعجاب صادق، موسيقاها وأفلامها رائعة. لكن إدارتها السياسية لا تعكس في تصرّفاتها أيّا من ظواهر تفوّقها وإشعاعها في هـــذه المجالات. إنّها رهينة انفعالات ذوي السواعد المفتولة تَخضع وتحاول أن تُخضع الدنيا لقوّة عضلاتها.
2 - الولايات المتحدة الأمريكية بلـــد ديمقراطي بلا ريب. إلا أنّ إدارتها تعتبر الديمقراطية مخزونا استراتيجيا غير قابل للتصدير. بل إنّها تعتبر الديمقراطية خارج العالم الغربي أو الحلف الأطلسي عقبة كأداء في وجه الهيمنة والتسلّط على مقدّرات الغير. وما المناداة بإحلال الحريات في كلّ بقاع الأرض إلا سلاح إعلامي تشهيري فتّاك يُشهر ضد البلدان الرافضة المستعصية على دخول بيت الطاعة، مقدّمة للتدخل العسكري.
3 - الإدارة الأمريكية تعاقب الدول والمنظمات والأفراد الذين يجادلون في شرعية مصادرتها لحرية الشعوب ولمصائرها ولأقوات أبنائها. دمّرت العراق وليبيا وسوريا كما سبق أن دمرت كوريا والفيتنام باسم الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان. وها هي الآن تعمل جاهدة على تركيع أمريكا اللاتينية أمام إرادتها. هذه فنزويلا بين مخالب العمّ سام ومن بين عمليات الإنهاك وزعزعة الاستقرار التي يتعرّض لها هذا البلد المسالم التخريب الإلكتروني الممنهج لمحطات الكهرباء حتى قال أحد الصحفيين «أمريكا تمتلك الأنوار ولكنها تنشر الظلمات». لماذا كل هذا الحقد وهذه العدوانية؟ هناك سببان رئيسيان أولهما إصرار كاركاس على حرية القرار ورفضها لكل ما من شأنه المسّ بسيادتها وتمسّكها بخياراتها التقدمية. السبب الثاني هو انحيازها التام للقضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
4 - الإدارة الأمريكية تضع الولايات المتحدة فوق كل القوانين، لا تعترف بمحكمة الجنايات الدولية وترفض منـــح قضاتها تأشيرة دخول لأراضيها. وتضـــرب عــــرض الحــائط بكلّ المعاهدات والاتفاقات الدولية كمـــــا فعل رئيسها مع الاتفاق النووي الإيراني. ثم إنّه يهب إسرائيل ما لا يملك: القدس والجولان والبقية تأتي استهتارا باللوائح الأممية التي صادق عليها أسلافه، ومساندة لأسوأ رئيس حكومة عرفته إسرائيل، أســـوأ حتـــى من الإرهابيّيْن شامير وبيغن ومن شارون سفّاح صبرا وشتيلة. وفي سبيل تأكيد هيمنة إسرائيل على كامل المنطقة تدخّلت الإدارة الأمريكية حتى فيما ليس من كفاءتها أو اختصاصها بحذف كلمة مقاومة من قواميسها فكلّ من يرفع يده دفاعا عن النفس يُنعت بالإرهابي وبلغ الأمر بوزير الخارجية بمبيو أن حل مؤخرا بلبنان آمرا بحلّ حزب الله الذي يمارس «الإرهاب» ضدّ شعب الله المختار مهدّدا بالتصرّف في الأمر. وفي آخر الأنباء صنّفت الإدارة الأمريكية الحرس الثوري الإيراني تنظيما إرهابيا فأثلج الخبر صدر نتنياهو.
5 - المثقّفون الحداثيون العرب كانوا جميعا مناهضين للإسلام السياسي. لهم أكثر من احتراز على الجمهوريات والتنظيمات الإسلامية. أما اليوم فلهم تعاطف متزايد مع إيران وحزب الله لمجرّد تعرُّضِهما لعداء ترامب ونتنياهو. على قول المتنبي:
ونديمُهُمْ وبِهِـــمْ عَـــرَفْنــا فضْلَهُ *** وبضــدِّها تَتَــبيَّنُ الأشــيـــاءُ
6 - لا أعتقد أنّ النخب الأمريكية تقبل أن يحنثَ رئيسُها بالعهود والمواثيق. صحيح أنّه غير مثقّف حتى بالحدّ الأدنى ولكنه ينفّذ ما تقرره اللوبيات التي أجلسته على كرسي الرئاسة مثل الأيباك أو طائفة الإنجيليّين وغيرِهما من التنظيمات العنصرية. وأيباك (AIPAC) هذه، تسمية مختصرة بالإنكليزية للجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية وهي أهمّ جماعة ضغط لدى الكونغرس الأمريكي لفائدة إسرائيل أمّا الإنجيليّون فهم فرقة مسيحية كنيستها من أثرى الكنائس فهي تؤمن بأنّ المال يهبه الله للذين جعل الجنة مثواهم ويُقدّر عددُ أتباعها في القارتين الأمريكية والإفريقية بثمانين مليون تابع يضاهون السلفيين عندنا تشدّدا وجهالة. ويُرَوِّجون فيما يُرَوِّجون لإحدى الخرافات التوراتية القائلة بأنّ السيد المسيح ينتظر بفارغ صبر إتمام طرد من تبقّى من الفلسطينيين من أرض الآباء والأجداد حتى يعود إلى نشر العدل والسلام بين المؤمنين بالبشارة. هذه الأباطيل داخلة في صفقة القرن. وفي الأثناء يموت الشباب الفلسطيني وأطفال الحجارة يوميا برصاص المحتل.
7 - ولقد صفّق الإنجيليّون لقرار ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبنقل السفارة اليها، وباركوه في قنواتهم التلفزية ومن أسباب مساندتهم له أنّه غنيّ فالغنى نعمة يهبها الله لعباده المختارين. ولو درسنا حروب أمريكا كلّها من إبادة الهنود الحمر إلى دكِّ العراق مرورا بالحرب الباردة لوجدنا أنّها تقوم على المفهوم التوراتي المعلن: مكافحة «محور الشر». كلّ ذلك يؤكّد المسحة الدينية التي تغلِّف كل الحملات وتفسّر لماذا لا يشعر الجندي الأمريكي بأيّ ذنب في كلّ المجازر التي يرتكبها منذ الاستيلاء على العالم الجديد.
8 - الإدارة الأمريكية أشعلت في الثمانينات حربين دينيتين بامتياز. الأولى في أفغانستان حرّضت فيها الوهابية المتعصبة ضدّ الشيوعية الملحدة. الثانية في الخليج استحثّت فيها العراق البعثي العلماني ضدّ إيران الإسلامية. والنتيجة بالنسبة إلى الولايات المتحدة إيجابية أقلّها إنهاك كل الأطراف. وهي تقف اليوم وراء الحرب الخليجية ضدّ اليمن الذي «لسوء حظه» لم يزل على العهد في وفائه للقضية الفلسطينية.
9 - أنتج شارلي شابلن أهمّ أفلامه في الولايات المتحدة قبل أن يفرّ منها بجلده، سنة 1952، غداة «المحنة الماكارتية» فانتقم لنفسه وعلى طريقته بشريط لاذع عنوانه «ملك في نيويورك» وهو يستحقّ المشاهدة رغم التقادم. ولكن هذا الفنان العظيم خطر ببالي بالرجوع إلى شريطه المتميّز «الدكتاتور» وفيه مشهد شهير نرى فيه الطاغية في شكله الكاريكاتوري الرامز إلى هتلر وهو يلعب في غرور وزهو ببالون يمثّل الكرة الأرضية يقذف به في كل اتجاه إلى أن انفجر في وجهه فصعق وانـــهــــار على مكتبـــه في إحبــــاط. قـــد لا يجوز تشبيه ترامب بديكتاتور شارلي شابلن، لكن ما العمل وقد أصبح التلاعب بالبلدان وبالمنظمات وبالعلاقات الدولية هواية الرئيس الأمريكي المفضلة؟ أفلا يخشى أن تنفجر الكرة في وجهه أيضا؟ أ بمثل هذه التصرفات يطمع السيد ترامب في الحصول على جائزة نوبل للسلام؟ لقد تبجّح بذلك معلنا أنّ (شنزو آبي) الوزير الأول الياباني هو الذي رشّحه. ممّا اضطر الصحافة اليابانية إلى التصحيح بأنّ رئيس حكومتهم فعل ذلك مكرها بإلحاح شديد من المعني بالأمر. وقد ينجح المسعى. ألم يفز بالجائزة كيسنجر وبيغن؟
10- ومهما تجبّر فرعون وطغى فلا يمكن لأية قوة إمبريالية أن تتسلّط بصورة حاسمة على بلد كبر أو صغر ما لم تجد عملاء من الداخل يتعاونون مع الدخيل ويقدمون له الذرائع. ولقد رأينا عملاء العراق عائدين على متن دبابات المعتدي. ويقول قائل: «ما العمل إذا لم نستطع إسقاط نظام فاسد بوسائلنا المحلية؟» فنستشهد له بقولة أحد الحكماء: «من يبحث عن حماة يجد أسيادا».
ثمّ إنّ ترامب ما كان ليُقْدِمَ على وأد القضية الفلسطينية وعلى شرعنة ضمّ الأراضي العربية المحتلة لولا حصوله على موافقة أطراف عربية وما كان لنتنياهو ليتجرّأ على التصريح بأنّه لن يعترف بدولة فلسطينية مستقلة وبأنّه سيضمّ الضفّة حال فوزه بالانتخابات لولم يتلقَّ ما يشجعه على ذلك. وما قرارات القمة العربية الأخيرة برفض تهويد القدس والضفة والجولان إلا من باب أضعف الإيمان إضافة إلى أنها لم تمنع من ظهور بعض أصوات النشاز بُعيْدَ انعقاد القمّة بأيام.
11 - إنّ العرب في نظر الأمريكان والصهاينة، رغم هرولة بعضهم نحو التطبيع بل ومن أجل تلك الهرولة المجانية، كمٌّ مُهْمل، لا هم في العير ولا في النفير. رحم الله إدوارد سعيد. كان شوكة في حلق المستشرق الصهيوني برنارد لويس المتوفى منذَ حوالي سنة بعد عقود طويلة في خدمة العدوان. عمـــل مستشارا لدى المحافظين الجـــدد. قام بـــدور من أخبث الأدوار لدى الرئيس بوش وبطانته لشحذ العزائم نحو غزو العراق. سخّر دراسته لحضارة العرب ولغتهم مركِّزًا على سوءاتهم ونقاط ضعفهم. ومما زوّد به المصالح الأمريكية مختارات من النصوص تُحقِّر مـــن شأننا جميعــا مستمدة من حركة الشعوبيـة المناهضة وأذكر فيما أذكر ترجمته لبيتي أبي نواس:
قالوا ذكرتَ ديارَ الحيِّ من أسدٍ *** لا درَّ درُّك قُلْ لي مَنْ بنو أسدِ؟
ومَنْ تميمٌ ومنْ قَيْسٌ وإخوتُهُمْ *** ليسَ الأعاريبُ عندَ اللهِ مِنْ أحَدِ
نحن التونسيين حملة الإرث البورقيبي لا ننسى وقوف الولايات المتحدة إلى جانبنا أيام نضالنا التحريري وما انطبع في أذهاننا من أنّها مدافع أساسي عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. ثم إنّ العرب لا يكرهون الولايات المتحدة ولا ينسون أنّ بوسطن ونيويورك كانتا مركزيْ إشعاع وتجديد للشعر العربي المعاصر بل هم يعتقدون أنّ الهجرة الشامية إلى أمريكا بشمالها وجنوبها كانت في منتهى الخصوبة. منهما برزت أسماء ما كان لها أن تبرز في بقاع أخرى: جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، إيليا أبو ماضي، شمالا وجورج صيدح، رشيد سليم الخوري، إلياس فرحات، جنوبا وغيرهم كثير... من هذا المنطلق الإيجابي، نرى ونسمع أنّ النخب الثقافية الأمريكية غير راضية تماما عن أداء الرئيـــس ترامب ومـــن حقنا أن نحلم بوصول هذه النخب إلى سدة الحكم... ولكنّنا لا نيأس من عودة الوعي إلى البيت الأبيض، وعلى رأي الكاتب المســـرحـــي الألماني الشهير برتـولت بريشت : «ليس ثمّة مسيرة إلى الأمــــام أصعب من الرجوع إلى العقل».
عبد العزيز قاسم
- اكتب تعليق
- تعليق