«بــورتــوفــريــنا» كــوميديا اجتمــاعية بعيــدة عـــن الإسفـاف والـتـهـريـج

يعتقد البعض أنّ فن الكوميديا هو ضرب من ضروب الاسفاف والتهريج الذي يتّخذ من الضحك وسيلة للتندّر والفكاهة، غير أنه يعتبر من أصعب الفنون التي تتّخذ أشــكالا وأنماطا عدّة منها الهزل والمحاكاة الساخرة أو التهكّمية بالإضافة إلى الكوميديا السوداء التي تقوم على مبدإ السخرية اللاذعة… بأسلوب كوميدي ساخر زاخر بالفكاهة والانتقاد حاول إبراهيم اللّطيف من خلال ثالث أفلامه الروائية الطويلة «بورتوفرينا» أن يواصل تجربته السينمائية في عالم الكوميديا الساخرة التي تجمع بين الدراما والترفيه، ليقدّم لنا عملا سينمائيا يستمدّ مادّته من واقع الحياة الاجتماعية والثقافية المتغلغلة في أعماق الذاكرة والموروث الشعبي التونسي.

نقد اجتماعي مغلّف بالهزل والسخرية

بروح السخرية والمفارقات الهزلية، سعى مخرج العمل إلى الجمع بين الحاضر والماضي من خلال معالجة قضايا اجتماعية آنية وتقديمها في حلّة فنية من زمن اخر، وذلك بالاعتماد على ديكورات وملابس واكسسوارات ساهمت في استدعاء الماضي وذكرياته إلى أجواء الحاضر. هذا الامتزاج الذي يلمسه المتفرّج في التداخل بين الماضي والحاضر، هو دليل على أنّ القضايا المطروحة مازالت قائمة إلى اليوم وتثير جدلا واسعا حولها، على الرغم من التطوّر الثقافي والاجتماعي.

هكذا هو سيناريو فيلم بورتوفرينا الذي يطرح جملة من القضايا الجوهرية المتصلة بالواقع اتصالا مباشرا، وما يتفرّع عنه من الظواهر الاجتماعية والإنسانية المتعدّدة الأبعاد والمعقّدة المستويات. يقدّم الفيلم فكرة سينمائية بسيطة خالية من التعقيد ولكنّها عميقة في معناها ومضمونها، صيغت بمنهج وأسلوب طريفين من خلال التطرّق إلى مواضيع حسّاسة تمسّ بالأساس العائلة التونسية منها: مسألة العقم، وفكرة التبنّي، والزواج المرتّب من داخل العائلة، وظاهرة الزواج الأبيض، والنزعة الأبوية والسلوكيات التقليدية المتجذرة في بعض العائلات التونسية، كما يشير الفيلم بطريقة ضمنية وسريعة إلى وضعية الأم العزباء ومسألة المثلية الجنسية.

تدور قصّة الفيلم حول «علي» (محمد علي بن جمعة) الذي قرّر العودة إلى أرض الوطن ليتزوّج من ابنة عمّه «سارّه» (أسماء العثماني) نزولا عند رغبة والده «الريس فرج البحري» (محمد ادريس) الذي يرفض بدوره فكرة التبنّي بعد أن عجز ابنه، والوريث الوحيد للعائلة، عن الإنجاب من زوجته الأجنبية لتتسارع الأحداث وتكشف لنا عن بعض السلوكيات الاجتماعية في علاقة بالعقلية الذكورية التي تسيطر على المجتمع وتقتصر دور المرأة على الإنجاب وعلى تدبير شؤون المنزل وتربية الأبناء... غير أنّ هذه العقلية البالية تصطدم برفض شقّ من نساء «عائلة البحري» للقمع والتسلّط والدكتاتورية التي يمارسها ربّ العائلة «الريس فرج» بعدم الرضوخ للخوف والتهديدات، وهو ما يتجلّى في موقف «سارّة» عندما رفضت الزواج بابن عمّها واختارت المواجهة، بالإضافة إلى «منية» (وجيهة الجندوبي) المرأة المتمرّدة على أعراف وتقاليد متوارثة عفا عليها الزمن والرافضة لسلوكيات الشقّ الآخر من النساء الخاضعات لسلطة «الريس فرج»، على غرار «عايشه» (فاطمة بن سعيدان) زوجته وشقيقتها في نفس الوقت، وزوجة أخيه «فاطمة» (جميلة الشيحي) المرأة الطمّاعة المحبة للمال. مع نهاية الفيلم تتسارع وتيرة الأحداث، حيث تتكشّف العديد من المفاجآت والأسرار في علاقة «علي» الذي يتبيّن أنّه نتاج علاقة غير شرعية وأنّ أمّه في الأخير هي من كان يعتقد أنّها خالته «منية»، وأنّه ليس ابن «الريس فرج» الذي تبنّاه وأخفى عنه هذا السرّ طيلة سنوات .ومن ناحية أخرى، وفي مشهد ذكيّ جاء في موضعه من الناحية الدرامية، يتّضح سبب رفض سارّة فكرة الزواج من ابن عمها بعد أن نكتشف ميولاتها الجنسية الشاذة تجاه صديقتها «حسناء» (نجوى زهير) ، في إشارة ضمنية من المخرج إلى مسألة المثلية الجنسية.

فيلم مشبع بالرموز والدّلالات

من خلال فيلم بورتوفارينا نجح مخرج العمل في طرح ما هو جادّ ضمن قالب هزلي لا يخلو من السخرية والكوميديا وذلك بالاعتماد على الحوارات ذات الدلالة والتعبير لتكون بديلة عن لغة الجسد التي تعتمد بالأساس على الإشارات والحركات، حيث لم يخل الحوار من بعض التلميحات والتعبيرات المجازية المغلّفة بالتشبيهات والاستعارات الرمزية، والتي لم تكن مسقطة بل جاءت في إطار السياق الدرامي للأحداث.  كما سعى مخرج العمل إلى تعزيز العديد من المشاهد ببعض الرموز والدلالات، من خلال إحداث تقارب بين شخصية «منية» والرّسامة المكسيكية المشهورة «فريدا كاهلو» التي لعبت دورا كبيرا في إعلاء قيمة المرأة والدفاع عن حقوقها لتصبح رمزا من رموز المرأة المكافحة والمناضلة، في إشارة من المخرج إلى وضعية المرأة العزباء المقهورة عاطفياً والمدمّرة نفسياً وجسدياًّ. كما تعاقبت في الفيلم لقطة متواترة احتلّت فيها عملية تلميع أحذية «الريس فرج» مساحة كبيرة من الصورة، حيث لم تتردّد نساء « بيت البحري « في كلّ مرّة من رميها بِالتَّفْلِ، في إشارة إلى التململ الدائم والتذمّر والرغبة في التحرّر من سلطة الرجل والنظام الاجتماعي الذكوري الذي يدوس على كرامة المرأة ولا يراعي انسانيتها ومشاعرها ولا يحفظ حقوقها.

وينتهي الفيلم بنبرة إيجابية من خلال مشهد يعبّر عن زمن مضى وانقضى وزمن حاضر حامل للحرية والأمل بعد أن غادر «الريس فرج» السجن ووجد نفسه مجبرا على انتعال حذاء أحمر اللون أكبر من مقاسه، في دلالة واضحة على أنّ الأحداث قد تجاوزته كثيرا وأنّ المجتمع الذي كان الجور فيه متفشّيا وضياع الحقوق حالة مستشرية قد ولّى وانتهى، وأنّ الكفاح من أجل الكرامة الانسانية هو الخيار الوحيد للمرأة حتّى تحافظ على مكتسباتها التاريخية.

لقد نجح فيلم بورتوفرينا في زرع الابتسامة لدى جمهور متعطّش إلى هذه النوعية من الأفلام التي تراهن كثيرا على الكوميديا الساخرة الترفيهية من خلال قصص بسيطة في علاقة بقضايا اجتماعية وإنسانية ذات صلة بالواقع المعيش، غير أنّ العمل أخفق في بعض الجزئيات في علاقة بالحبكة الدرامية التي غاب عنها عنصر الإثارة والتشويق، لتسير الأحداث وفق نسق أفقي بطيء لم يخرج عن المألوف المعتاد وغلب عليه في بعض الأحيان الطرح السطحي والمستهلك. لابدّ في الأخير من التنويه بأداء جميع الممثّلين المتقن، بالإضافة إلى روعة الموسيقى التصويرية التي كانت متوافقة تماماً مع أجواء الفيلم وأحداثه، ممّا ساهم في تقديم رؤية كوميدية هادفة بصورة فنية ساخرة في سياق ثقافي وفكري سقــط بعضه في لجـة ما يسمّى بـ «الفن الهابط» (Kitsch) والترويج لثقافة التسطيح والابتذال

ناظم الوسلاتي