الجامعة التونسية على خُطى المجهول ...من المسؤول؟

الجامعة التونسية على خُطى المجهول ...من المسؤول؟

يبدو من خلال الاقتراب من أبنية الكلّيات والمدارس والمعاهد العليا في تونس والإطلاع على ما يجري وسط أروقتها.. أن وضعها اليوم تخترقه مناطق رمادية ولا بدّ من وضعها على المحك الإعلامي من أجل إنارة الرأي العام العربي والعالمي عما يحدث في بلد رسم أولى خطواته نحو الديمقراطية بسن دستور يكسب الدولة مشروعيتها في انتظار أن يتم من خلاله الـتأسيس لمبدإ المواطنة الكاملة والمتساوية تحت حكم القانون والتسليم بأن الشعب هو مصدر السلطات، ولا سيادة لفرد أو مجموعة عليه، ليظل السؤال مطروحا اليوم : وبعدما أطفئنا الشمعته السابعة وأشعلنا الثامنة للثورة، هل هناك إرادة وطنية حقيقية لتفعيل مبدإ دمقرطة الجامعة التونسية عموما في تونس حتى تكون المقاربة التشاركية والتعددية الفعلية منظمة بفعل القانون في اتجاه جعلها خرقا تاريخيا لسياسات الانفراد والانغلاق والزبونية التي مورست عليها على مدى عقود؟

لئن اتفق كل الفاعلين والمتدخلين في الحقل الجامعي على أنّ ملف الإصلاح يشكّل الرّهان الحقيقي لربح أي تحدّ تنموي وأنّ ذلك لن يتحقق إلا بوضع رؤية استراتيجية واعية حتّى تتحّول الجامعة من مجرّد أداة لضخّ الآلاف من المعطّلين عن العمل إلى قاطرة دفع ثقافية وفكرية ومشتل حقيقي لتهيئة الأجيال وصناعة النخب التي تحتاجها سياسات البلاد في المرحلة القادمة، فإنّ الوضع الراهن والمتأزم على جميع الأصعدة والذي أدّى إلى فرملة الآليات وتكبيل الإرادات، ينبئ بتدهور خطير في ظلّ ارتباك الحكومة تجاه ملفّ الجامعيين الذي طفى على السطح  ليكون محلّ تجاذبات سياسية ونقابية سواء في صفوف الطلبة أو في صفوف الجامعيين أنفسهم، فبعدما مرّت الجامعة بوضع حرج السنة الفارطة على إثر إعلان نقابة اتحاد الأساتذة الجامعيين الباحثين "إجابة" عن إضراب إداري تواصل لمدة خمسة أشهر تعطلت خلاله أكثر من مائة مؤسسة عن إجراء الامتحانات والذي انتهى بإمضاء اتفاق بين الطرف الوزاري والطرف النقابي عرف بـ"اتفاق 7 جوان"، تعود الساحة الجامعية والبحثية لمربع الأزمة من جديد خلال هذه السنة لتأخذ أشكالا متعددة من الاحتجاجات ولتفتح الوضع على عديد السيناريوهات.

يذكر أنّ الاتفاق الذي أمضته نقابة "إجابة" تمحورت بنُوده أساسا حول الاعتراف بنقابة "إجابة" كشريك اجتماعي رسمي يجعل منها طرفا مفاوضا وهو ما أثار جدلا سياسيا ونقابيا حيث استنكرت نقابة التعليم العالي، المنضوية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل هذا الاتفاق معتبرة إياه غير قانوني ويتضارب مع مبدإ التفاوض مع الطرف الأكثر تمثيلية، وقدّرت أّن نقابة "إجابة" جاءت لتقوم بدور موازي هدفه ضرب دور المنظمة الشغيلة في الساحة الجامعية مدعومة في ذلك بأطراف سياسية بعينها. كل هذا وأمام التحولات والرهانات التي ميّزت هذه المرحلة وأمام استشعار كل الأطراف بمدى حساسية المرحلة ودقّـتها حيث من المفترض أن يتم وضع نظام أساسي جديد خاص بالجامعيين والذي لم يُعدّل منذ ربع قرن حين اعتمدت الدولة سنة 1993 نظاما أساسيا  كانت قد تخلت عليه فرنسا سنة 1984، إضافة إلى الذهاب إلى إصلاح منظومة إمد (إجازة- ماجستير- دكتوراه) وإعادة بنائها على أسس صحيحة تراعي نماذج التطبيق لنفس المنظومة المعتمدة في العديد من الدول، تقف الحكومة اليوم صامتة تجاه ما يحدث في ما يناهز المائة مؤسسة جامعية تعطلت فيه الامتحانات لأكثر من 120 ألف طالب ناكرة بذلك وجود أزمة، خصوصا بعدما أمضت الوزارة اتفاقا مع الجامعة العامة للتعليم العالي "ج.ع.ت.ع" المنضوية تحت لواء الاتحاد العام التونسي للشغل بعد اعتصام دخلت فيه النقابة المذكورة تواصل لمدة أربعة أيام معتبرة بذلك بأنها أنهت أزمة الجامعة لتتفرغ إلى أزمة الوظيفة العمومية والتعليم الثانوي والتي طالت وتواصلت لمدة شهور.

كل هذا يجعل من الحديث عن الإصلاح الجامعي يرتبط بأزمة حقيقية، وفي حديثنا عن أزمة بمعناها الاشتقاقي والأصلي (لفظة أزمة تعني في أصلها اليوناني ،القرار الحاسم)، نجدها تحمل مدلولا مزدوجا، وأمام التغيرات الجذرية التي ستقدم عليها الجامعة العمومية التونسية بما تنطوي عليه من تداعيات ورؤى فهي تعيش مرحلة مفصلية وحاسمة بكل المقاييس، ستفضي لزوما إلى تحولات جدّ عميقة لا رجعة فيها خصوصا وأنّها ستكون محلّ تصويت في البرلمان التونسي بما يجعل وجود الإرادة والجرأة في أخذ القرارات ضرورة وطنية ملزمة، فالوضع اليوم يشهد تطورات جديدة بعدما تم التفاعل مع إضراب التعليم الثانوي بصفة جعلت من قضيتهم قضية رأي عام حيث تحركت كل القوى السياسية والرئاسات الثلاث لإنهاء الأزمة، في الوقت الذي تتعاطى فيه الحكومة مع إضراب نقابة "إجابة" الذي أثار العديد من القضايا سواء المتعلقة بالجامعة العمومية التونسية أو بقضايا حرية التنظم وبالتعددية النقابية على أنّه خارج أولوياتها وأجنداتها مؤكدة بذلك أنّ المصالح والإكراهات السياسية تتقدم على الضرورات الوطنية العاجلة، وأنّ الحكومات المتتالية التي ارتضت الحزبية وتعددها تربط مواقفها اليوم بالدولة وليس بالمجتمع.

إنّ مسوؤولية الدولة التونسية اليوم كبيرة جدا أمام استفحال الوضع وأمام الواقع الميداني الذي يؤكد أنّ الساحة الجامعية تعيش حالة تثوير حقيقي على جميع الأصعدة وأن الذهاب لجعل الجامعيين الباحثين هم أصحاب الرأي الفصل من حيث السيادة والاستقلالية هي أولوية قومية لا مناص منها خصوصا فيما يتعلق بحاضرهم ومستقبلهم واعتبارا لتنامي ظاهرة الهجرة نتيجة تراجع دعم ميزانية التعليم العالي والبحث العلمي وتدهور سلم التأجير الذي أصبح أقرب إلى المهزلة خصوصا حين يتعلق الأمر بأعلى شهادة جامعية وبباحثين أفنوا أعمارهم في رسم مسيرتهم الأكاديمية والوظيفية ولمعت أسماؤهم في سماء البحث والتجديد العلمي والتكنولوجي خارجيا أكثر منه داخليا، حتى أصبحنا نتحدث في تونس عن شتات الجامعي التونسي في هذا العالم لتتحول الهجرة تدريجيا من طوعية إلى قسرية.

ولعل قضية التعددية النقابية في تونس والتي توحي بالانقسام هي من ضمن الأسباب الرئيسية المساهمة في عرقلة وفرملة مسار الاصلاح والأخطر هو أنّ الدولة نفسها تُعتبر مورطة في سوء إدارة الصراع الاجتماعي، بعدما أدارت ظهرها عن الحقائق متأثرة في ذلك بإكراهات الحكم والدولة ورغبات التموقع بما يجعلها فاقدة تماما لرؤى وتصورات شاملة ولفهم واع لتعقيدات المشهد، حتى أنّ رئيس الحكومة التونسية ورئيس الدولة لم يعقدا خلال فترة توليهما مهامهما ومباشرتهما لملف التعليم عموما لقاء واحدا مع الجامعيين في الوقت الذي اجتمعا فيه بالصحفيين والمهندسين والقضاة والأطباء أمّا رئيس مجلس النواب الممثّل الأول للسلطة التشريعية فقد اختار الجلوس إلى نقابة الجامعة العامة "ج.ع.ت.ع" رافضا بذلك الجلوس إلى نقابة "إجابة" بالرغم من أنّها نقابة وطنية وقانونية، وهو ممّا يعمّق التساؤلات حول هذا الملف الشائك والمعقد، فالتعددية لها ملامح مؤسسية ثابتة مقترنة بصفة مباشرة بتطور اقتصادي واجتماعي ومناخ ثقافي يهدف إلى حسن إدارة الاختلافات وصيانة الحقوق والحريات عموما وإحدى الأدوات التى تساهم فى ضمان المساواة وحرية والتعبير عبر دورها الرقابي لأصحاب القرار، دون مرجعية فكرية واحدة حيث أنّ التعددية في مفهومها العام هي شكل من أشكال الممارسات الليبرالية الحزبية الديمقراطية، والتعددية النقابية  تحديدا هى أحد انماط التعددية السياسية عامة وليست النمط الأوحد، وإن ارتأت الدولة التونسية الانفتاح اقتصاديا على الدول العظمى في تجاربها الاقتصادية فانه لا مناص أيضا من الاقتداء بها في تجاربها النقابية فقد حققت التعددية في ألمانيا وفرنسا نجاحات على مستوى المطالب الجوهرية للطبقة العاملة من خلال الحوار الوطنى واتخاذ المواقف الموحدة تجاه القضايا المصيرية.

د. لطفي السنوسي
عضو اتحاد الكتاب التونسيين
عضو مركز تونس للبحوث الاستراتيجية

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.