في الذكرى السابعة والستين لاندلاع الكفاح المسلّح بتونس (18 جانفي 1952): الــذكــرى والعــبـرة !

في الذكرى السابعة والستين لاندلاع الكفاح المسلّح بتونس (18 جانفي 1952): الــذكــرى والعــبـرة !

تمرّ هذه الأيّام 67 سنة كاملة على اندلاع شرارة الكفاح المسلّح أو ما يعرف بـ «المعركة الثالثة» أو «الأخيرة» في مسيرة الكفاح الوطني للتحرّر نهائيا من الاستعمار الفرنسي، التي تمّ الإعلان عنها رسميا في المؤتمر السرّي للحزب الدستوري الجديد المنعقد يوم 18 جانفي 1952 بنادي الحزب الكائن بنهج قرمطّو بسيدي محرز بالمدينة العتيقة بتونس العاصمة. ووفاء لأرواح شهداء الوطن والمعركة التحريرية، جدير بنا اليوم تعريف شباب تونس والأجيال التي لم تواكب هذه «المحطّة المنعرج» في تاريخ العمل الوطني باستثناء المتقدّمين في السنّ أو ممّن عايشوا فترة الحكم البورقيبي وعرفوا جيّدا هذا التاريخ الذي كان لثلاثة عقود عيدا وطنيا ويوم راحة للتلاميذ والطلبة وموظفي وأعوان الدولة وذلك بالتطرّق إلى دوافع اندلاع الكفاح المسلّح وظروفه ومراحله وتداعياته على التونسيّين وعلى العمل الوطني...، أملا في استخلاص العبرة منه في تونس الانتقال الديمقراطي التي ترنو إلى المصالحة مع تاريخها ورموزها الوطنية والاعتراف لهم بالجميل، مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية والفكرية والأيديولوجية والجغرافية. لأنّ الواجب الوحيد في التاريخ والذاكرة الوطنية هو «أن نعلّم ونمرّر» على حدّ المقولة الشهيرة المفكّرة والسياسية الفرنسية «سيمون فاي» :Je n’aime pas l’expression devoir de mémoire 

Le seul  devoir  c’est d’enseigner et de transmettre 

في أسباب اندلاع الكفاح المسلّح: ظرفية سياسية صعبة وتنكّر فرنسا لوعودها

لا يمكن في اعتقـــادنا الحديث عن أسباب اندلاع الكفاح المسلّح دون العودة إلى ظرفية ما قبل 1952 وتحديدا الفترة الممتدّة بين 1946 و1952:

على إثر الإفراج عن زعماء الحزب المعتقلين منذ أحداث 9 أفريل 1938 والمضاعفات الكارثية للحرب العالمية الثانية على الاقتصاد والمجتمع التونسيَيْنِ، استأنف النشاط الوطني في تونس بقوّة غداة هذه الحرب الكونية على ضوء الأوضاع الداخلية وعديد الأحداث الإقليمية والدولية الجديدة.وقد أفضت جهود الوطنيّين إلى عقد مؤتمر ليلة القدر بالمدينة العتيقة يوم 23 أوت 1946 وضمّ كافة التنظيمات السياسية والنقابيّة والفصائل الفكريّة والهيئات المهنيّة الوطنيّة - بما فيهـــا الحـــزب الدستوري القديم - ورُفع لأول مرّة وبوضوح مطلب استقلال تونس عـــن فرنســـا.

وأثناء الندوة الصحفيّة التي عقدها يوم 20 أوت 1947، صرّح الأمين العام للحزب الحرّ الدستوري الجديد، الأستاذ صالح بن يوسف بأنّه سيتمّ العمل على دفع الإدارة الاستعمارية إلى قبول الحوار مع قيادة الحركة الوطنية عن طريق الضغط الشعبي والدولي. وأمام تواصل رفضها للحوار، سيتمّ الإعلان عن مطلب الاستقلال بصفة آنيّة والدخول في صراع غير متكافئ مع السلطات الاستعمارية.  ومنذ عودته من المشرق يوم 8 سبتمبر 1949، أكّد رئيس الحزب، الحبيب بورڤيبة مرّة أخرى أنّ المطالبة بالحكم الذاتي عن طريق بعث السلطة التنفيذية التونسية المؤتمنة على السيادة التونسية وتشكيل حكومة تونسية صرفة مسؤولة عن الأمن العام، يرأسها وزير أكبر يتولّى رئاسة مجلس الوزراء بصورة فعليّة وبعث مجلس وطني منتخب بالاقتراع العام، تكون من أولى مهامه إعداد دستور ديمقراطي يضبط العلاقات بين تونس وفرنسا على أساس احترام السيادة التونسية ومصالح فرنسا المشروعة، هي مرحلة على درب الظفر بالاستقلال. وهو برنامج النقاط السّبع الذي طرحه الزعيم الحبيب بورڤيبة يوم 14 أفريل 1950 بباريس. لكن في تصريح له، حذّر بورڤيبة الصّحافة الفرنسيّة من خطورة المرحلة ودقّتها بقوله: « حذار، إنّ زمجرة الغضب بدأت تصعد. فقد بلغ استياء التونسيّين حدّ السّخط. وإذا ما تواصل الرّفض الفرنسي لهذه الإصلاحات الضرورية والعاجلة (...)، فإنّ ردّنا سيكون بشنّ أعمال شغب (...)».

كما عمل الحزب على مواصلة مساعيه بتدويل القضية التونسية وكسب أنصار في صفّ القوى التحرّرية والمناهضة للاستعمار مع المراهنة على التحالف مع المعسكر الغربي في إطار الحرب الباردة وذلك عن طريق توظيف ورقة الضغط الأمريكي على السياسة الاستعمارية الفرنسية، وفي نفس الوقت مواصلة التعبئة الداخلية وذلك بتمتين أركان الجبهة الوطنية المناهضة للاستعمار: مبادرة تشكيل « لجنة العمل من أجل الضمانات الدستورية والتمثيل الشعبي» يوم 12 ماي 1951، وإعداد التشكيلات الحزبية (الشُّعَبُ والجامعات الدستورية) لما ستؤول إليه نتائج حكومة محمّد شنيق التفاوضية. وما إن فشلت الحكومة التفاوضية في إجبار السلطات الفرنسية على الإيفاء بوعدها المتمثّل في إنجاز الإصلاحات المرجوّة، ألا وهي تحقيق الاستقلال الداخلي المنشود، حتى بادر في 31 أكتوبر 1951، بتوجيه المذكّرة الرسمية التونسية إلى فرنسا بخصوص تحقيق الاستقلال الداخلي لتونس. غير أنّ فرنسا التي جاء ردّها في مذكّرة وزير خارجيتها «روبار شومان» Robert Schuman» إلى رئيس الحكومة محمّد شنيق في 15 ديسمبر 1951، قد أعلنت تمسّكها بمبدأ السيادة المزدوجة وأنّ « الرّابطة بين تونس وفرنسا أبديّة». وفي مساء نفس اليوم، انعقدت بباريس لجنة لدراسة المذكّرة وانتهت إلى التأكيد على أنّ فرنسا خيّبت الآمال برفضها المطالب التونسية. وقد عبّر عن ذلك بورڤيبة بتصريح للصحافة الفرنسية جاء فيه : «... وقد طُويت صفحة من صفحات تونس وفُتحت أخرى، فإنّ جواب شومان فتح عهد تعسّف ومقاومة بما فيه من دموع وأحزان وضغائن...». وكانت تصريحات المسؤولين الاشتراكيّين عقب مذكّرة الرّفض تلك مساندة لقادة الحزب الدستوري. فقد صرّح «أندري بودي «André Budet» قائلا: «إنّ ما يخدش كرامة التونسيّين أّنّهم ولأوّل مرّة يكتشفون أنّ سيادتهم أصبحت محلّ شكّ، والأخطر من ذلك أنّ قطع المفاوضات حسب المذكّرة، جاء نتيجة تسليط ضغوط من التجمّع الفرنســي بتــــونس». أمّـــا «أندري فليــــب» André Philippe، فقد صرّح قائلا: « إنّ التراجع في الوعود التي قدمتها فرنسا يمكن أن تكون له انعكاسات خطيرة جدا داخل البلاد وعلى المستوى الدولي». وإثر عودته من باريس كثّف الزعيم الحبيب بورڤيبة اتصالاته بالقاعدة الشعبية في كامل أنحاء الإيّالة عبر اجتماعات وخطب دعائية جماهيرية...، في كلّ من المنستير (8 جانفي 1952) وتونس العاصمة (11 جانفي 1952) و بنزرت (13 جانفي 1952)، شرح فيها ومحتوى المذكّرة وسبب فشل الحوار مع فرنسا مهيّئًا الشعب التونسي للكفاح المسلّح بقوله : «إنّ الوقت قد حان لخوض المعركة الحاسمة»! 

ولمجابهة المدّ التحرّري وكسر إرادة الوطنيّين وتلبية لرغبة الاستعماريّين في تونس، قامت السلطات الفرنسية في 9 جانفي 1952 بتعويض المقيم العام «لوي برليي» Louis Perillier بالعسكري المتصلّب «جان دي هوت كلوك» Jean De Haute Cloque الذي حلّ يوم 13 جانفي على متن بارجة حربيّة تصحبها طائرات مقاتلة إيذانا باستخدام القوّة وترهيب التونسيّين وتشديد الخناق على الوطنيّين. وفي يوم 16 جانفي 1952، أصدر مرسوما يحجّر كل الاجتماعات العامة والتظاهر ومنع الحزب الحرّ الدستوري الجديد من عقد مؤتمره الرابع. لكن إصرار الوطنيّين على تحدي فرنسا وبلوغ هدفهم، كلفهم ذلك ما كلّفهم قد فاق إرادة المقيم العام الفرنسي.

18 جانفي 1952 «تاريخ مفصليّ في الوعي الوطنيّ التونسي» بإعلان المعركة التحريرية والكفاح المسلّح

كان الردّ الرسمي للحزب الحرّ الدستوري الجديد ومناضليه على سياسة التسويف والمماطلة الفرنسية بعقد مؤتمر سرّي بنهج ڨرمطّو (سيدي محرز) يوم 18 جانفي 1952، برئاسة الزعيم الهادي شاكر. وقد جاء في اللاّئحة المُصادق عليها بالإجماع في أعقاب المؤتمر مايلي: «(...) ويؤكّد المؤتمر أنّه لا يمكن التعاون المثمر بين البلديْن (تونس وفرنسا) في الميادين الثقافية والاقتصادية والدّفاع إلاّ بانتهاء الحماية واستقلال البلاد التونسية وإبرام معاهدة ودّ وتحالف على قَدَمِ المساواة (...)».

وفي نفس اليوم قامت السلطات الفرنسية بإيقاف حوالي 150 وطنيّا من الدستوريّين والشيوعيّين والنقابيّين، كان من أبرزهم الحبيب بورڤيبة والمنجي سليم (اللّذان أُبعِدا إلى طبرقة) والهادي شاكر... ومحمّد النّافع وموريس نزّار (عن الحزب الشيوعي التونسي)... الخ. كما تمّ إبعاد مدير الحزب الدستوري الحبيب بورقيبة إلى رمادة في 26 مارس 1952 ثمّ إلى جزيرة جالطة (التي مكث بها بين 20 ماي 1952 و 21 ماي 1953) ومنها إلى جزيرة لاغروا «L’île de Groix» وأخيرا إلى «قصر لا فارتي «Château de La Ferté» بضاحية «آميّي «Amilly» قرب باريس في 21 جويلية 1954.

وعموما كان فشل سياسة الحوار بين تونس وفرنسا منعرجا هامّا دفع الحزب الحرّ الدستوري الجديد إلى تجنيد قواعده وإعطاء إشارة انطلاق النضال الوطني ضدّ المستعمر الفرنسي ورموزه وذلك بتكثيف النشاط الوطني المعادي لفرنسا، سواء بالنسبة للمدنيّين الذين أعلنوا حركة العصيان بكامل أنحاء المملكة عبر العمل السياسي السري، أو بانطلاق الكفاح المسلّح في الجبال والمرتفعات بالنسبة للثوّار ببنادق صيد وبنادق عسكرية ألمانية تعود إلى فترة الحرب العالمية قديمة ومعدات يدوية تقليدية: متفجّرات معدّة للصيد البحري ومقاطع الحجارة.... فكان على حدّ قول عديد المؤرخين الفرنسيّين «تاريخا مفصليّا في تاريخ الوعي الوطنيّ التونسي». فكيف تعاملت السلطات الفرنسية مع هذا المعطى الجديد؟ 

سياسة القمع والتنكيل الفرنسي: جريمة دولة!

للتذكير بدأت السلطات الفرنسية باستخدام القوّة وإطلاق النار على المتظاهرين قبل 18 جانفي. ففي يوم 17 جانفي 1952 سقط 03 شهداء بمنزل بورقيبة و 50 جريحا. وفي اليوم الموالي سقط بالعاصمة 5 شهداء إلى جانب عدد من الجرحى. وفي يوم 19 جانفي سقط 6 شهداء بمدينة ماطر و03 شهداء بنابل. وفي يوم 20 جانفي 08 شهداء بتونس العاصمة. وليس من السهل الإتيان على مختلف مراحل المعركة التحريرية وأطوارها بكامل أنحاء المملكة بسبب امتداد ها على أكثر من سنتين ونصف (بين 18 جانفي 1952 و 31 جويلية 1954 (تاريخ الخطاب التاريخي لرئيس الحكومة الفرنسية «بيار منداس فرانس» Pierre – Mendes France بقصر قرطاج أمام ملك البلاد محمّد الأمين باي أعلن فيه عن اعتراف فرنسا رسميا بالاستقلال الداخلي لتونس) وحتّى بعد هذا الخطاب بأشهر قليلة (معركة برقو بين 8 و13 نوفمبر 1954)، بل لكونها جمعت بين الكفاح المسلّح والعمل السياسي السري والمعلن، من جهة إضافة إلى سياسة الكرّ والفرّ بين السلطات الفرنسية بين رموز المقاومة المسلّحة والعمل السياسي السرّي بكامل أنحاء البلاد: بالأرياف والقرى والمدن من جهة أخرى. لذلك سنكتفي بالتطرّق إلى بعض المحطّات الرئيسية منها ثمّ حصيلتها النهائية.

وحسب الوثائق المتخصّصة في تاريخ الحركة الوطنية والشهادات الشفوية لعديد المناضلين والمقاومين والمذكّرات والسير الذاتية، وجدت حملة القمع الرسمية الفرنسية هذه مساندة من غلاة الاستعمار الذين تنظّموا في شكل مجموعات متطرّفة تكوّنت من المعمّرين وقدماء المحاربين ومن البوليس، فأسّسوا لهذا الغرض منظمة «اليد الحمراء» المعروفة بتورّطها في عمليات التمشيط و المداهمة والترويع والاعتداء والتعذيب والتنكيل والتصفية العلنية في الساحات العامّة دون محاكمات والتخطيط لاغتيال عشرات الوطنيّين نذكر في مقدمتهم شهداء الوطن: الشهيد فرحات حشاد في 05 ديسمبر 1952 بعد تولّيه مسؤولية قيادة المقاومة التونسية بعد اعتقال زعماء الحزب وسجنهم ونفيهم خارج البلاد، فتعالت الأصوات واشتدّت التحركات الشعبية والإضرابات... وقد سبّب ذلك ارتباكا للمستعمر الذي أيقن أنّ الزعيم النقابي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل وراء كل ذلك، فتمّ اتخاذ القرار بوجوب التخلص منه فكانت جريمة دولة بأتمّ معنى الكلمة. وقد تلته عمليات اغتيال أعدّها ونفّذها تنظيم «اليد الحمراء» السرّي طالت كلّا من: المناضل الهادي شاكر بنابل في 13 سبتمبر 1953 والمناضِلَيْن علي والطاهر حفّوز بنصر الله في 24 ماي 1954 والمناضل الدكتور عبد الرحمان مامي بالمرسى في 13 جويلية 1954... والقائمة تطول.

مشاركة مكثّفة للشباب

لم يكن الشباب التونسي من تلاميذ بمختلف المدارس والمؤسّسات التربوية الابتدائية والمعاهد الثانوية وطلبة بجامع الزيتونة و بالجامعات الأجنبية (بفرنسا وبالمشرق العربي: بمصر وسوريا والعراق) والمنضوين في جمعيات الكشافة التونسية والشبيبة المدرسية (تأسّست سنة 1932) والشبيبة الدستورية (تأسّست سنة 1936) والاتحاد العام لطلبة تونس (تأسّس سرا في جانفي 1952 ورسميا بباريس في 23 جويلية 1953 ولم تعترف به السلطات الفرنسية رسميا إلّا في سنة 1955) في معزل عن الأحداث التي شهدتها البلاد بين 1952 و 1954. ففي الوسط المدرسي أحصينا 56 تحرّكا بين 20 جانفي و 15 مارس 1954 في شكل إضراب عن الدروس ورفع شعارات معادية لفرنسا وحالات هيجان ورفع شعارات مساندة للحزب ومعادية لفرنسا إتلاف تجهيزات مدرسية واجتماعات داخل المؤسّسات التربوية ومشاركة في مظاهرات خارجها... وقد اضطرّت السلطات الفرنسية إلى اقتحام عديد المؤسّسات التربوية وإيقاف المئات من التلاميذ والطلبة بالعاصمة وداخل البلاد (بتونس الكبرى وسوسة والمنستير وصفاقس وباجة وماطر وبنزرت...) وطرد البعض منهم بقرارات من مجالس الأقسام وإحالة البعض الآخر على المحاكم المدنية الفرنسية بجلّ المدن والعسكرية المنتصبة للغرض في كلّ من تونس وسوسة وصفاقس. وقد أصدرت هذه الأخيرة أحكاما تراوحت بين السجن لمدة 15 يوما وخطايا مالية تراوحت بين 500 و 10.000 فرنكا وببين إخلاء السبيل والسجن لمدّة سنتين.

مشاركة متميّزة للمرأة التونسية

لم تكن المرأة التونسية غائبة عن المعركة التحريرية. أمّا أشكال هذا الحضور فكانت عديدة أوّلها أنّهنّ كنّ زوجات أو أخوات أو بنات أو قريبات المقاومين فقمن بدعم المقاومة لوجستيا وذلك بتحويل الأسلحة وخاصّة توفير المؤونة واللباس ونقل التعليمات إلى المقاومين في الجبال، من قادة الحزب على الصعيدين المركزي أو الجهوي المعلومات والمعلومات الاستخباراتية: الإعلام بتنقّلات الجيش والجندرمة الفرنسيَيْنِ بالجهات – إخفاء أسلحة ومتفجّرات في منازلهنّ ثمّ حملها إلى المقاومين في الشعاب والجبال أو المخابئ... 

أمّا المقاومات اللائي صَعِدنَ إلى الجبال فلم نسجّل سوى ثلاث نساء، اثنتان منهنّ تحصّلتا على «بطاقة الأمان» التي يسميها المقاومون «بطاقة دي لاتور» (نسبة إلى المقيــــم العـــام الجنـــرال «بواييي دولاتور» «Boyer de Latour»): حسنيّة رمضان عميّد من مجموعة الأزهر الشرايطي بجهة قفصة وكذلك رفيقتها الجزائرية مسعودة موساوي المعروفة باسم محجوبة منصور بنفس المجموعة (من مواليد مدينة جيجل بالجزائر سنة 1920، التي قدمت مع عائلتها إلى تونس واستقرّت برادس. وعند اندلاع المقاومة المسلّحة التحقت بمجموعة الأزهر الشرايطي وكان دورها إعلاميا بالأساس. وباندلاع حرب التحرير الجزائرية التحقت بالثورة واستشهدت في جبال الأوراس سنة 1957 وهي حاملة للسلاح). كما شاركت المرأة في المدن والأرياف في المعركة التحريرية. ففي 15 جانفي 1952، حيث خرجت أوّل مظاهرة نسائية بمدينة باجة معقل الاستعمار الفرنسي وتبعتها مظاهرات في كلّ من سوسة وصفاقس والمنستير ونابل وغيرها من المدن...وعندما عمّت الثورة كامل البلاد وتعرّض المناضلون إلى مختلف آليات القمع الاستعماري، أدركت النساء من مختلف الانتماءات ضرورة رصّ الصفوف والتوحّد. ففي 15 فيفري 1952 نظمت نساء العاصمة مظاهرة أمام الإقامة العامّة وقمن بقذف أربع قنابل في اتجاه قوات الأمن التي ردّت بإطلاق الرّصاص في اتجاه المتظاهرات. ونتيجة لكل هذه التحركات النسائية لم تتردّد السلطات الفرنسية في القيام بسلسلة من الإيقافات وعمليات الإبعاد الجماعي في صفوف النساء - كما هو الحال للذكور – وذلك بمعتقلات رمادة وتطاوين وزعرور (قرب بنزرت) وجلاّل (قرب بن قردان) والإقامة الجبرية في كل من طبرقة وعنابة وجزيرة جربة... كما سقطت بعض المناضلات برصاص العدو فيما تُوفيَّ البعض الآخر تحت التعذيب، نذكر في مقدمتهنّ أمينة بن صالح و مجيدة بوليلة.

ماذا تبقّى اليوم من 18 جانفي 1952 وكيف يجب أن ننظر إليه؟

إنّ روح التحرّر والأسس التي أرساها أجيال الوطنيّين التونسيّين وفي مقدّمتهم مخطّطو ثورة 18 جانفي 1952 ورجال الحزب الدستوري والمنظمات الوطنية وفي مقدّمتهم الاتحاد العام التونسي للشغل وزعيمه «الشاهد والشهيد» فرحات حشّاد، هي التي يجب أن تبقى وتصمد اليوم في وجه الأخطار الداخلية والخارجية المحدقة بأمن واستقرار البلاد. لكنّ الثّابت أنّ البلاد لم تتمكّن بعد مرور أكثر من ستين سنة على الاستقلال من تضميد جراح الماضي وما اعتراه من خدوش وآلام وضغائن وأحقاد...، ولا من كتابة تاريخ وطنيّ موضوعي بطرق ومواصفات علمية بعيدة عن الحسابات السياسية لأنّ «التاريخ الرسمي» الذي كتب ودُرّس لأجيال التونسيّين منذ الاستقلال كان في غالبه تاريخا ذاتيا نرجسيا وثأريا ومشوّها، بعيدا كلّ البعد عن المعايير والمقاييس العلميّة الموضوعيّة المعمول بها في جميع دول العالم. 

وفي اعتقادنا لا بدّ من التأسيس لكتابة تاريخ موضوعيّ وعلمي ينصف جميع أجيال المناضلين والمقاومين الذين غيّبوا وهمّشوا بعد 1955 بسبب الخلاف بين الزعيمَيْنِ الوطنيَيْنِ صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة حول اتفاقيات الاستقلال الداخلي الممضاة في 03 جوان 1955 ومهّد لقيام حرب أهلية مزّقت «الوحدة الوطنية»: اعتقالات وتصفيات ومحاكمات... امتدّت إلى صائفة 1961 (تاريخ تصفية الزعيم صالح بن يوسف في مدينة فرنكفورت بألمانيا عن طريق مجموعة تابعة للنظام في 12 أوت 1961). ولا يتمّ ذلك في اعتقادنا إلاّ بتوفّر جملة من الشروط الموضوعية والذاتية واقتناع بذلك في أعلى مستوى وتحديدا لدى الطبقة السياسية الحاكمة.

ويمكن تلخيص الشروط الموضوعية في الجوانب التالية: وضع جميع الأرشيفات والأرصدة الأرشيفية والوثائق التاريخية والشهادات الشفوية الموثقة في مراكز مختصّة بعد تصنيفها وجردها وتبويبها... من قبل خبراء في علم الأرشيف ومختصّين في التاريخ المعاصر وتاريخ الزمن الراهن وفتحها أمام كلّ الباحثين والمؤرّخين دون استثناء (مهما اختلفت توجّهاتهم الأيديولوجية والفكرية وانتماءاتهم السياسية) وذلك بعد استيفاء الشروط المعمول بها دوليا للنفاذ للأرشيفات والتأكد من أنّ عملية فتحها لا تمسّ بسلامة وأمن الدولة والدول المجاورة والصديقة لتونس وكذلك الشخصيات التي لا تزال على قيد الحياة أو أبنائهم وأحفادهم ... أمّا الشروط الذاتية فهي تكمن بالأساس في: الابتعاد عن الشخصنة و«الاستنقاع السياسي» باستقطاب جميع الكفاءات المغيّبة من الحقل السياسي من جهة، وتدبير ثقافة ديمقراطية حزبية من جهة ثانية وخاصّة التأسيس لمشروع كتابة تاريخية موضوعية لكلّ مكوّنات المجتمع دون استثناء...، لأنّ النخبة السياسية أينما كانت ليست في نهاية المطاف موضوع دراسة وتحليل وكتابة من قبل المؤرّخين والباحثين، بل يجب أن تكون بالأساس مصنعا لإنتاج الأفكار والمشاريع والحلول لمجتمعها. واليوم بعد سقوط نظام الاستبداد وتحرّر الأقلام والأفواه والعقول في تونس إثر «ثورة» الحرّية والكرامة في تونس، سجّلنا لحسن الحظ عودة «قويّة» للتاريخ منذ الأيّام الأولى لسقوط نظام الاستبداد في 14 جانفي 2011. وقد تجسّمت هذه العودة في حضور غير مألوف للمؤرخين  والمناضلين والسياسيّين المغيّبين منذ عقود وذلك في الإذاعات والقنوات التلفزية والمنابر السياسية والفكرية...، بجميع المدن والقرى والأرياف التونسية، إمّا لطرح قضايا وملفّات تاريخية أو لإحياء لذكرى أحداث ومحطات وشخصيّات وطنية ومحلية كادت تُنسى كليا... ورغم أنّ هذه العودة تُعدّ مؤشّرا إيجابيا في تونس المتحرّرة، فإنّها لم تخلُ من التوظيف السياسي من قبل أحزاب وشخصيات سياسية داخل نظام الحكم وخارجه طيلة كامل الفترة الانتقالية. وهي في اعتقادنا فترة تستحقّ دراسة مستقلة بذاتها قصد تقييم أشكال حضور التاريخ وعودته على الساحة و التأسيس لإرساء أسس مصالحة فعليّة بين التونسيّين وتاريخهم على أسس علمية سليمة بعد فشل «هيئة الحقيقة والكرامة» في القيام بهذه المهمّة الصعبة المنوطة بعهدتها منذ إحداثها في 2014 بسبب شخصية رئيستها غير التوافقية وعديد النقائص في طرق وآليات عملها...ولا يمكن بلوغ ذلك إلاّ بإنصاف الوطنيّين والمقاومين المغيّبين الذين طبعوا تاريخ المقاومة التونسية ضدّ الاستعمار بين 1952 و1954 وذلك بإطلاق أنهج وشوارع وساحات عامّة أماكن الذاكرة الجماعية «Les lieux de mémoire collective» ومراكز بحقّ وقاعات ومدرجات... تحمل أسمائهم وإدراج أسمائهم في كتب التاريخ المدرسي في مختلف مستويات ومراحل التدريس كما تمّ في الجزائر الشقيقة وتكريم ممّن لا زال منهم على قيد الحياة أو أبنائهم وأحفادهم وذويهم...

كما لا بدّ أن يدرك أفراد الشعب التونسي وخاصّة الشباب منه بوجوب الاعتراف بالتضحيات الجليلة التي قدّمها هؤلاء الوطنيّون لهذا الوطن العزيز من باب الوعي بنداء الواجب وعدم المتاجرة بدمائهم وتوظيفه لأغراض شخصية بحثا عن تعويضات ومكافآت ومناصب... كما أنّهم مدعوّون أكثر من أيّ وقت مضى إلى الالتزام الوطني والمبدئي والأخلاقي بالقضايا ومزيد الالتفاف حول وطنهم «الجريح» و«السليب» منذ 14 جانفي 2011 رغم عديد الإنجازات التي تحقّقت في إطار المسار الثوري والانتقال الديمقراطي بحكم تغلّب المصالح الذاتية والأجندات الضيّقة لفئة ضالّة من ساستنا، حتى تبقى تونس منيعة وأبيّة أبد الدهر، إذ لا معنى للحياة في وطن مدين للخارج تحكمه أجندات وقوى أجنبية في إطار ما يُعرف بالاستعمار الجديد «Le néo-colonialisme» الذي توضّحت ملامحه ومخطّطاته وكشّر عن أنيابه بأشكال مختلفة في السنوات الأخيرة !.

عادل بن يوسف

(أستاذ التاريخ المعاصر والزمن الراهن بجامعة سوسة)

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.