حـركـة الستـرات الصفـراء في فرنـسا: هل هي بداية اصفرار أوراق الرأسمالـيـة المتوحّشة والديمقراطية التمثيلية؟
«فهمنا هذا المســــاء (مســـاء الاثنين 31 / 12/ 2018) أنّ الشعب غير راض عن ماكرون وماكرون غير راض عن شعبه. هناك إذًا طرف يجب تنحيته. بما أنّه لا يمكن حلّ الشعب، فعلينا أن نطرد الرئيس». بهذه الكلمات المختزلة الساخرة علّق النائب البرلماني من كتلة «فرنسا الأبية» إريك كوكريل (Éric Coquerel) على الخطاب الذي توجّه به الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الشعب الفرنسي بمناسبة حلول السنة الجديدة التي خيّمت على الاحتفال بها، هـــــذا العــام، ظلال حــــركة «الستــــــرات الصفراء» (Mouvement des gilets jaunes) التي انطلقت في 17 نوفمبر 2018 وما تزال متواصلة حتى الآن، ويبدو أنّها، وإن خفّت حدّتها وتراجعت أعداد المنخرطين فيها، مرشّحة للاستمرار فترة أخرى قد تقصر وقد تطول، وفقا لما ستشهده الأيام والأسابيع القادمة من تطورات وتفاعلات إيجابية أو سلبية بين الأطراف المتقابلة، لا سيما في إطار «الحوار الكبير» الذي سيتمّ تنظيمه بمبادرة من الرئيس.
كان من الغـــريب أنّ الرئيـــس إيمانويل ماكرون تجنّــــب ذكـــــر «السترات الصفراء» في خطابه، وكـــأنّه لم يَرَهَا بعــد أو لا يريــــد أن يراها، رغم أنّ الحركة اختارت هذه السترات كرمزٍ مُميّز لها، لأنّ المنخرطين فيها يريدون أن يقولوا إنهم، رغم الظلمة والظلم اللذين يلفّان حياتهم، يجب أن يظهروا في صورة الوطن، (كما يظهر السائق الذي يحمل هذه السترة في الليل البهيم للعيان في حالة اضطراره للخروج من سيارته لسبب ما، والانتظار على جنبات الطريق) وأنّ على الحكام أن يَرَوْهُمْ، وأن يضعوا تطلّعاتهم في حســـاب سياساتهم، وألاّ يستمرّوا في تجاهلهم والتغافل عن حقّهم في الحياة وفي الكرامة...
ومع أنّه أعــــرب عن تفهّمه لحالة الغضب التي عاشتها فرنسا خلال الأسابيع الأخيرة، فإنّ الرئيس إيمانويل ماكرون استنكر أن يَتَكَلَّمَ «بعض الناس» نيابة عن الشعب، مؤكّدا أنّهم «ليسوا إلا ناطقين باسم دعاة للكراهية، يتهجّمون على النواب وقوّات الأمن والصحافيين واليهود والأجانب والمثليين»... ومعتبرا أنّ ذلك «بكل بساطة رفض للقيم الفرنسية، فالشعب يتمتّع بالسيادة، ويعبّر عن رأيه عبر الانتخابات ويختار خلالها ممثّليه لتطبيق القانون، لأنّنا دولة قانون».
ومثلما جرت العادة في مثل هذا السياق، كان لا بدّ أن يذكّر بأنّ فرنسا تواجه تحدّيات القوى المتطرّفة، والهجرة، والحفاظ على البيئة و»الإرهاب الإسلاموي الذي يستمرّ في التمدّد في كلّ القارّات». بيد أنّه، في المقابل، واصل الحديث عن الجهود التي تبذلها حكومته من أجل مستقبل أفضل للبلاد، والتأكيد على «العديد من التحوّلات» التي تحقّقت على يديْه رغم أنّها كانت «تبــدو مستحيلة» مع التشــديد على أنّه لا يمكن التنازل عن خططه الإصلاحية...
وقد اعتبر أنّ الدرس الذي تعلّمته فرنسا، (ولعلّه هنا يختزل فرنسا في شخصه وفي حكومته) خلال سنة 2018، هو عدم الاستسلام، وضرورة العمل المشترك لبناء المستقبل الأفضل، مع تفهّم أنّ نتائج الإصلاحات لا يمكن أن تكون فورية... ومن هذا المنطلق فقد «رصّع» خطابه بثلاث أمنيات للفرنسيين في سنة 2019، هي ما سمّاه أمنيات «الحقيقة والكرامة والأمل».
أمّا عن أمنية الحقيقة فقد أكّد في شرح المقصود بها أنّه «لا يمكن أن نبني أيّ شيء على الأكاذيب والغموض. فمنذ عدّة سنوات، هناك الكثير من إنكار الواقع، ولا يمكن أن نعمل أقل ونكسب أكثر، لا يمكن أن نقلّل الضرائب ونزيد النفقات. علينا أن ننظر إلى الأمور بواقعية».
وعلى هذا الأساس فقد أكّد أنّ الحوار الوطني الذي سينطلق في الأيام المقبلة سيركز على هذه الحقيقة، وشدّد على ضرورة الشفافية و»الابتعاد عن التلاعب بالمعلومات».
وأمّا عن الأمنية الثانية، أمنية «الكرامة»، فقد اعتبر أنّ كل مواطن فرنسي مهمّ لمشروع الأمة، وقال إنّ «كثيرا من المواطنين يشعرون بصعوبة العيش. بدأنا بتقديم بعض الأجوبة، وأتفهّم عدم صبر البعض. علينا أن نصل إلى أفضل مستويات التعليم وتوفير العمل للعيش بكرامة... ولكن تحقيق ذلك مسؤوليتنا جميعا. كرامتنا كمواطنين تتطلّب أن يشعر كلّ منّا بأنّه طرف فاعل في اتخاذ القرارات الكبرى. بدأنا بإعطاء أهمية لهذا الأمر وسأتّخذ بعض الإجراءات في هذا السياق مستقبلا».
وأمّا عن الأمنية الثالثة، أي أمنية «الأمل»، فقد تطرّق في الحديث عنها إلى «مشروع لا سابق له» لفرنسا، هو مشروع المجتمع الأوروبي المشترك الذي أكّد أنّ مهمّة بنائه «مهمّة ذات حجم كبير لكنها في متناولنا وأنا قادر على ذلك، وهنا يكمن الأمل في سنة 2019».
وما يمكن الخروج به من قراءة هذا الخطاب الذي سارع حزب «الجمهورية إلى الأمام»، أي حزب الرئيس، إلى الثناء عليه وعلى الموقف «الثابت والشجاع» الذي تضمّنه، بينما رأت المعارضة أنّه خطاب مُتَعَالٍ ومتناقض و«بعيد عن مشاغل الفرنسيين اليوميّة»، هو أنّ الفجوة ظلّت واسعة بين الرئيس الذي يصرّ على مواصلة إصلاحاته الاقتصادية وبين شعبه الغاضب والذي يؤكّد أنّه يتطلّع إلى العيش الكريم، ليس أكثر...
ويذهب البعض إلى أنّ الرئيس ايمانويل ماكرون، على ما يبدو من خلال هذا الخطاب، لم يستوعب الرسائل التي وجّهها إليه الشارع الفرنسي، أو هو لا يريد أن يستوعبها، فبالرغم من أنّه اضطرّ، تحت الضغط إلى تعليق ثمّ إلغاء الإجراءات التي تسبّبت في اندلاع حركة «السترات الصفراء»، فإنّ الأمر وصل بهذه الحركة التي أكّدت استطلاعات الرّأي التي أجريت في أواخر شهر نوفمبر وبداية شهر ديسمبر 2018، أنّها تحظى بتأييدٍ ما يتراوح بين 73 % و84 % من الفرنسيين، إلى حدّ المطالبة باستقالته وبرحيله، بينما أظهرت استطلاعات رأي أخرى أنّ شعبيّته التي بلغت 62 % عند انتخابه رئيسا في ماي سنة 2017، انحدرت على التوالي إلى 25 % في نوفمبر 2018 وإلى 23 % في ديسمبر 2018.
ثم إنّ الرئيس ايمانويل ماكرون لا يبالي بالنعوت التي يغدقها عليه معارضوه، فلقد نعتته مارين لوبان، زعيمة التجمـــع الوطني (اليمين المتطرف الفرنسي) بـ»مُنَظِّرِ العولمة»، وسمّاه جان لوك ملنشون رئيس حزب «فرنسا الأبية» (أقصى اليسار) بـ»رئيس الأغنياء»، وقال آخرون عنه إنّه «خادم للبنوك» و«خادم للنظام العالمي التآمري الجديد»، لأنّه ينتهج سياسات تقوم على دعم رؤوس الأموال وتخفيف الأعباء عنهم بدعوى دفعهم إلى المزيد من الاستثمار، وهو ما يصبّ في خانة التمدّد العولمي ويذهب ضحيته في الغالب المواطن العادي لأنّ العبء الضريبي يقع عليه كنتيجة حتمية لدعم التوازنات الاقتصادية الكبرى للدولة، ولذلك فإنّه لم يدرك أنّ مطالب حركة «السترات الصفراء» تتجاوز مجرّد التخفيض في قيمةِ الضرائب على الوقود، أو رفع الحد الأدنى للأجور، أو إقرار بعض المساعدات الاجتماعية ، لتشمل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والمنوال الاقتصادي المختلّ لفائدة فئة الأغنياء على حساب عامّة الشعب...
وعند النظر في أسباب اندلاع هذه الحركة الاحتجاجية الشعبيّة التلقائية التي امتدّت عدواها سريعا إلى عدّة دول أوروبية أخرى منها بلجيكا وألمانيا وبلغاريا وهولاندا وصربيا وحتّى إلى بعض البلدان خارج القارّة الاوروبية، فإنّه ما من جدل أنّ القادح المباشر لشرارتها الأولى كان قرار الترفيع في أسعار الوقود، وما سمّي بالإصلاحات الضريبية التي سنّتها الحكومة الفرنسية والتي اعتبر أتباع الحركة أنها ستتسبّب في ارتفاع تكاليف المعيشة، وستزيد من استنزاف الطبقتين العاملة والمتوسطة اللتين تعانيان أصلا من الصعوبات الاقتصادية بسبب تدني الرواتب.
غير أنّ المُحَرِّكات العميقة للحركة تتمثّل في أنّ المنخرطين فيها يرون أنّ سياسات الحكومة الفرنسية من شأنها أن تضاعف من فقر الفقراء ومن غنى الاغنياء، حيث أنّ الهدفَ من ضريبة الوقود هو تمويل العجز الذي قد ينتجُ عن التخفيضات الضريبية للشركات الكبرى.
وهم يعتبرون أنّ خفض الضريبة على الأثرياء أو ما يعرف بضريبة الثروة والزيادة في الضرائب على منتجات الطاقة يشكلان نوعا من الإجحاف في حقّ المواطن العادي، ويؤديان إلى المس بمبدإ التكافل بين فئات المجتمع الذي اعتمدته الحكومات الفرنسية منذ عهد فرنسوا ميتران.
ثمّ إنّ التفاوت الطبقي يوازيه تفاوت آخر يمكن وصفه بالجهوي فالمواطن في المناطق الريفية يشعر بالغبن من جرّاء اختلاف مستويات المعيشة ونوعية الخدمات التي توفّرها له الدولة بالمقارنة مع المناطق الحضرية.
أمّا التخفيض في حجـــم الاعتمادات الموجّهة إلى التعليم، والخطط الاصلاحية التي يريد الرئيس ايمانويل ماكرون تطبيقها في هذا المجال، فإنّها، كما يرى التلاميذ والطُلاب الغاضبون الذين خرجوا للاحتجاج عليها في جميع أنحاء فرنسا، ستُؤدي بشكلٍ أو بآخر إلى مزيد من عدم المساواة في حقّ الوصول إلى التعليم العالي بين الطلاب في المناطق الحضرية وشبه الحضرية والمناطق الريفية.
وليس هذا فحسب فإنّ المحتجّين يرون أنّ إجراء الترفيع بـ 16 ضعفا في تكلفة ترسيم الطلبة الأجانب في الجامعات الفرنسية بداية من السنة الجامعية 2019 / 2020، هو إجراء «تعسّفي ومبنيّ على تمييز طبقيّ»، بل إنّ البعض يعتبره حملة عنصرية على الطلبة الأجانب لأنّه يقوم على مبدإ الفرز حسب القيمة المالية وليس العلمية. وأمّا انضمام أبناء الأحياء الشعبية الفقيرة إلى حركة «السترات الصفراء» بعد تأكّدهم من أنّ الحركة لا تنتمي إلى اليمين المتطرّف، فإنّه بدوره يأتي للاحتجاج على تهميشهم وللمطالبة بالعدالة والمساواة والكشف عن جرائم الشرطة المتكرّرة في حقّهم.
وجملة هذه الأسباب والدوافع تبيّن أنّ تحرّك الشارع الفرنسي الذي جاء بشكل تفاعلي مع دعوات أطلقت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أي في سياق عفوي وغير منظّم ولا دخل فيه للأحزاب أو النقابات، هو تحرّك ضد سياسات يرى أنّها ترهق كاهله، ولا تضع في الاعتبار الصعوبات التي يعاني منها، وهو في ذات الوقت تعبير عن فقدانه الثقة في الطبقات السياسية وفي الأحزاب القائمة، ولعله ممّا يؤكّد ذلك أنّ بعض المنخرطين في حركة «السترات الصفراء» يفكّرون في تشكيل أحزاب سياسية مواطنية جديدة استعدادا للاستحقاقات الانتخابية القادمة.
لذلك وبقطع النظر عمّا سيؤول إليه تطوّر الأحداث في فرنسا، فإنّ الأمر المؤكّد أنّ حالة الابتئاس العميق التي يعيشها الشعب الفرنسي والشعوب التي نسجت على منواله، يؤشّر، في نظر البعض، إلى أنّ أوراق شجرة «الرأسمالية المتوحّشة» و»الديمقراطية التمثيلية» بدأت في الاصفرار وقد تتساقط إن لم يتم العمل أوّلا على ردم الفجوة بين الشعوب وبين طبقاتها الحاكمة التي ما تزال تتوهّم أنّ مجرّد وصولها إلى سدّة الحكم عن طريق صناديق الانتخاب يخوّل لها التصرّف في شؤون بلدانها مثلما يحلو لها التصرّف، وثانيا على وقف وربّما تقليص الهوّة التي تزداد اتّساعا بين أغنياء الشعب الواحد وفقرائه، من ناحية أولى، وبين شعوب الأرض الغنيّة والفقيرة من ناحية ثانية...
فهل نطمع في أن تفضي حركة «السترات الصفراء» إلى أكثر من المعالجات الترقيعية والمؤقّتة الاعتيادية، أي إلى الشروع في إعادة هندسة الاقتصاد الفرنسي كمقدّمة لإعادة هندسة مختلف الاقتصادات الوطنية والاقتصاد العالمي ككلّ، ولو بصورة تدريجية؟
إنّنا نأمل ذلك، خاصّة وأنّ الحوار الذي سيتمّ تنظيمه في فرنسا يطمح، كما تؤكّد الحكومة الفرنسية، الى أن يتوصّل الى بناء النموذج الاقتصادي والاجتماعي والترابي الجديد الذي تحتاجه فرنسا. ولكنّنا في الانتظار، نريد أن ننبّه الطبقة الحاكمة عندنا إلى أنّ ما جرى ويجري في فرنسا وفي غيرها من الدول الأوروبية، وهي أحسن حالا من حالنا بأشواط، لن يلبث أن تكون له ارتداداته في بلادنا خاصّة وفي منطقتنا عامّة، لا سيما بعد أن تَكَشَّفَ «الربيع العربي» عن خريف حقيقي، ولذلك فإنّه من الضروري المبادرة إلى تحرّك استباقيّ يمكّن من إعادة ترتيب بيتنا الداخلي في هذه السنة التي ستكون حتما سنة ساخنة لأنّها سنة انتخابية بامتياز وسيختلط فيها حابل التحديات الاقتصادية والاجتماعية بنابل التحديات السياسية...
وإذا كانت احتجاجات حركة «السترات الصفراء» في فرنسا، بكلّ تجربتها الديمقراطية العميقة والعريقة، شهدت ما شهدت من أعمال العنف والشغب وقطع الطرق، والتخريب والتدمير، وأسفرت حتّى الآن عمّا اسفرت من القتلى والجرحى والمعتقلين، فإنّ ذلك ينبغي أن يحفّزنا على التحلّي بأقصى قواعد اليقظة والحذر والحيطة.
محمّد ابراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق