أخبار - 2025.04.28

عزالدين المدني: فتحية خيري لمحات من حياتها الإبداعية قبلة الشّعراء والملحّنين

عزالدين المدني: فتحية خيري لمحات من حياتها الإبداعية قبلة الشّعراء والملحّنين

بقلم عزالديـن المدنـي - لقد تسلّقت الفنّانة المطربة والممثلة المسرحية فتحية خيري السلّم الاجتماعي عبر مراحل حياتها الفنّية الثريّة بالأحداث السّياسية والاجتماعية والأدبية والفنية الجسام التي طبعت الحياة التونسيّة بطباعها الفريدة وخصائصها المتميّزة طوال أربعين سنة من عمر القرن العشرين

هذا ما نجده في كتاب "فتحيّة خيري فنّ وشجن" الذي أصدره الكاتب الباحث الأستاذ فاخـر الرويسـي أخيرا عن دار تونس للنّشر. وقد قسّم الباحث موضوع الكتاب إلى ثمانية فصول مليئة بالمعلومات، والتحاليل، وتصوير البيئات والأوساط والأشخاص من أسفل السّلّم إلى ما فوق!...

فعلا فإنّ هذه المرأة نبتة ريفيّة من الجهة الغربية في البلاد، يتيمة لكنّها ترعرعت بين أحضان جدّتها في المدينة، العاصمة خلال صدر القرن العشرين على عهد الاستعمار الفرنسي في عنفوان قوّته وغطرسته...

فميلادها في بيئة متواضعة جدًا واٌقلّ مثل البيئات التي وُلدت فيها ورأت نُورَ الدّنيا معظم الفنّانات المغنّيات كشافية رشدي وحسيبة رشدي وصليحة. فلم يكن لهنّ باب مفتوح للحياة وعيشها حتّى الثمالة إلّا على درب الفنّ ولاسيّما الفنّ الموسيقي ولكن بشرط مشروط لسُلُوكه والنّجاح في الارتقاء به، شرط اكتساب الموهبة الفنّية والصّوت الرّخيم والفُضول المَعْرفي والشّخصية والعزم الأكيد والشّمائل الحلوة المُغرية.

ولا بدّ أن أصرّح في هذا المجال أنّ الفنّ برجاله وبنسائه لم يسلم من وصفه بالصّفات السّلبية وبالاتهامات المهينة لأنّ الفنّ والأدب انّما هو مجال حرّ بل متحرّر في الأغلب الأعمّ من الضّوابط الفقهية المُجحفة والتّراتب الاجتماعي القاسي المفروض على النّاس كافة بما في ذلك العادات العتيقة البالية وأخلاق المكابرة والتكبّر والتسلّط لا سيّما على الضّعيف من البشر وهو"المرأة" الإنسان الضّعيف الهشّ.فتحيّة خيري كانت امرأة تونسيّة مُسلمة متحرّرة بل حرّة، بفضل موهبتها الفنّية واختياراتها الجريئة ومواقفها وآرائها، وكان ذلك سلاحها الذي تقدّمت به نحو الأعالي... وقد ركّز الباحث فاخــر الرّويســي على هذه المسائل تركيزا شغل أكثر من فصلين أو ثلاثة من الكتاب. ولا يُمكن أن نظفر بفنّانة تونسيّة مُسلمة قبل فتحية خيري أو شافية رشدي أو فضيلة خيتمي اللّهمّ إلّا نساء طائفات لهنّ هواية الغناء والطّرب في ديار أزواجهنّ وعائلتهنّ فقط لا في الأماكن العامّة مثل المسرح أمام من دبّ وهبّ من الجماهير الجاهلة والمتعلّمة، المتربّية والمتعجرفة في سُلوكها وأخلاقها.

ويحكي لنا الكاتب الباحث أنّ فتحية خيري كانت مقدامة على التعلّم. فالباب الكبير الذي دخلت منه هو باب الفنّ المسرحي أي باب التثقيف والفكر على جميع الأصعدة. وهو فنّ صعب لا ينجح فيه ولو قليلا إلّا صاحب العزم الصّلب. فتعلّمت اللّغة العربية واللّهجة الدّارجة المدينيّة وأتقنتها اتقانا جيّدا، كما تعلّمت الوقوف فوق الرّكح والسّكون والحركة، والحركات والإشارات بأعضاء الجسم تحرّكا حقيقيا يُدهش المتفرّج والمُستمع مع الإلقاء للحروف المنطوقة...كأنّ المشهد بكماله وتمامه واقعي حقّا.

وحسب الأصداء التي وصلت إلى كاتبنا الباحث عبر عشرات السّنين فإنّها كانت إيجابية طيّبة ممّا دفع فتحية خيري إلى المثابرة على مسيرتها المسرحيّة وهي بين كبار المسرحيّين من أمثال محمّد الحبيب الحجّة في اللّغة العربية الفُصحى نثرًا وشعرًا وكتابةً وإخراجًا وتمثيلًا مع تشكيلة من المُمثلين الموهُوبين كالفنّان الكبير حمدة بن التيجاني والممثّل القدير الفنّان الطّاهر بلحاج وغيرهما من قدماء المسرح الكاملي.

والغريب أن ليس لنا حاليا صورة سنيمائيّة لفتحية خيري كنجمة مسرحيّة في سماء المسرح التونسي رغم أنّ السّنيما بدأت تصوّر بعض الفنّانين الممثّلين التونسيين سنة 1930 كتصويرها لدور الممثّل الفنّان محي الدّين بن مراد يومئذ وهو شاب صغير في شريط "مجنون القيروان".

وألاحظ في هذا السّياق أنّ للكاتب الباحث علامة ذكاء حين تطرّق إلى الوجه المسرحي للفنّانة فتحية خيري وقدّم تفاصيل وجزئيات عن أعمالها المسرحيّة لم نكن نعرفها إلّا بشكل ضئيل متقطّع...أمّا الوجه الآخر للفنّانة فتحية خيري- وهو وجه زاخر بالغناء والطّرب والموسيقى- فقد ساد شهرتها الواسعة في تونس وفي الجزائر وفي مصر، وكأنّها لم تشتهر إلّا بالطرب حتى باتت نجمة في سماء الفنّ. وألاحظ ثانية حسب ما أكّد الأستاذ فاخـر الرويسـي حول حرص الفنّانة على اتقان عملها اتقانًا بالغًا، بمعنى أنّ الموهبة لا تكفي بل يجب إضافتها بالعمل الدؤوب الذي يحتلّ مجامع فكر الفنّانة وقلبها ومشاعرها وإحساسها حتى تكون في مستوى الحدث كما يقال حاليا لتتجاوزه!

هناك موضوع فرعي تناوله الكاتب الباحث وهو زواج الفنّانة أوّل مرّة في حياتها قد انتهى بالانفصال وبالفراق الذي كان لابدّ منه وفق ما شاءت الظروف.

لنترك جانبا عواطف الغيرة التي أبداها زوجها الأوّل إلى حدّ اختناقها. ولكن عاطفة الغيرة قد وجدت ما يدعمها وينشّطها هي ذكوريّة هذا الزّوج، أعني تصوّره لهذه الآفة الاجتماعية التي اجتاحت نصف المجتمع التّونسي أشير الى الأنوثة في هذا الغرض الذي صار معروفا لدى كلّ متعلّم وكل مثقّف مهما تكُن اليوم بيئته ووسطه وطبقته إلّا من ترك ربّك يتحمّل أعباء العادات والطبائع البائدة وهو لا يدري...

أمّا زواج الفنّانة فتحية خيري للمرّة الثانية في حياتها فقد استدعى ذلك من الكاتب الباحث أن ينصّب محطّة بحث واستجلاء وتوصيف وتحليل حولها وها أنّي أتبعُ خطاه في هذه المسألة خطوة بخطوة... ولعلّ من أسرار نجاحها العظيم في حياتها الفنّية الموسيقية من الغناء والطرب سرّ فتحه الكاتب الباحث. فهو- علاوة على كونها امرأة متحضّرة ومهذّبة جذّابة الرّوح مثقّفة معترفة بموهبة المطربات ومعتزّة بهنّ فلا تعتريها حسد ولا غيرة ولا حبك دسيسة- علاوة على كل هذا كانت محاطة بحاشية من المُبْدِعِين في كتابة كلمات الأغاني وفي التّلحين وفي التنفيذ الموسيقي والغنائي والطربي. وإنّي وجدت أسماءهم منشورة في قوائم حسبالاختصاص: الشّعر والشّاعر واللّحن والملحّن وعدد من العازفين، ذلك في آخر صفحات الكتاب كإضاءة على من تعاملت معهم: الشّاعر عبد الرزّاق كرباكة والزّجّال بلحسن العبدلّي والشّاعر محمود بورقيبة والشّاعر أحمد خير الدّين والشّاعر جلال الدّين النقّاش والزّجّال الهادي العبيدي والشّاعر منوّر صمادح والشّاعر محمّد المرزوقي وغيرهم. كما تعاملت مع كبار الملحّنين: خميّس الترنان والسّيد شطّا وقدّور الصّرارفي وموريس ميمون وونّاس كريّم والهادي الجويني ومحمد التريكي وآخرون من طبقتهم. وقد تعاونت حتّى مع المطربين من ذوي الشّهرة الواسعة: علي الرّياحي وأحمد حمزة والهادي الجّويني...وهذا دليل على أنّ فتحية خيري كانت نجمة النّجوم في الوسط الموسيقي التّونسي.

عزالدين المدني

قراءة المزيد

 عزالديـن المدنـي: هل ننســى فنّانينــــا وإبداعاتهــم؟ كَلَّا لا!

يتبع

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.