فيلم ولدي: الفرصة الضائعة
قارب المخرج السينمائي محمد بن عطية الواقع في فيلمه الروائي الأول «نحبك هادي» بشكل رمزي، فرغم أن الأحداث تقع في مرحلة ما بعد الثورة لم تقع الإشارة إلى هذا الحدث الا بشكل طفيف ووظيفي في البناء الدرامي.الثورة هي فقط السبب المباشر للكساد في شركة بيع السيارات التي يعمل بها «هادي» مندوبا تجاريا، وركود حركة البيع والشراء هو الدافع الموضوعي إلى إخراجه من القيروان ووضعه في بيئة مختلفة في المهديةأياما قليلة قبل موعد عرسه. هناك يتعرف على فتاة تعمل في مجال التنشيط السياحي، فتمكنه هذه العلاقة الجديدة الطارئة من مراجعة حياته والثورة على استبداد الأم والمؤسسة الاجتماعية التقليدية. هكذا كان الفيلم يحكي عن «كيف تحدث الثورات؟» وعن أسبابها العميقة، وعن الاستبداد بوصفه سمة ثقافية متأصّلة وليس مجرد حدث سياسي يمكن تغييره بجرّة قلم ثورية، ولعل الحبكة الدرامية كانت أهم عنصر من عناصر النجاح في هذا الفيلم حيث يتكثّف الصراع النفسي ويحتدّ بتراكم جملة من المؤثرات الخارجية خلقتها أجواء العرس التقليدية الصارمة والانتقال القسري من مكان إلى آخر في عزلة اضطرارية لكنها مفصلية في حياة هادي، وينقل «مجد مستورة» ذلك الإحساس الداخلي بالارتباك والتلعثم والتذبذب بين مكانين ومصيرين حتى لحظة الانفجار التي يواجه فيها الأم، ويختار طريقا مختلفا عن الطريق المرسوم له بعناية سلفا، ثم يقف عند تنفيذ القرار في مفترق الطرق بين الطمأنينة التي تمثلها حياته في ظلّ استبداد الأم ومصيره الغامض وراء تجربة مجهولة تعِدُ بالحرية.
وفي شريطه الثاني «ولدي» بقي محمد بن عطية في الإطار النفسي والاجتماعي، لكن انتقل في المقاربة من استبداد المجتمع إلى استبداد العاطفة،فأحداث الفيلم تدور في أسرة تونسية صغيرة تشبه آلاف الأسر التي تكونت حديثا في محيط العاصمة،أسرة تبدو نموذجية في تركيبتها العددية ووضعها المادي والاجتماعي، وينحصر أفقها في مصير ابنها الشاب الذي يتأهب لاجتياز امتحان الباكالوريا، وعلى امتداد أكثر من نصف ساعة يعرض الفيلم مشاهد متنوعة من الحياة اليومية لهذه الأسرة،فيأخذ المتفرج في جولة داخل تونس الآن وهنا حيث يشتدّ ضغط نمط المجتمع الاستهلاكي مجسدا في حاجيات البيت والغذاء واللباس، ويلتقط المشاهد حوارات مكثفة بين الأب وابنه داخل المجمّع التجاري، ثم بين الأب وزميلته في سوق بيع الملابس القديمة تعكس هذا الاهتمام، كما يتركّز جزء هام من الفيلم داخل فضاءات ضيقة في البيت تتراوح بين المطبخ وغرفة الجلوس والشرفة. ويمضي الفيلم هادئا ومهادنا كما لو كان شريطا وثائقيا تسجيليا عن أسلوب عيش الطبقة المتوسطة، حتى يفاجأ الأبُ والأم ومعهما المتفرجون بغياب الابن ومغادرته البلاد إلى سوريا، وتبدأ محاولة الأب اللحاق به ثم يعدل عن ذلك بعد «مراجعة الموقف» في حلم رآه وهو يتأهب لاجتياز الحدود.
الحياة اليومية للطبقة المتوسطة الآيلة إلى الانقراض تحت وطأة الفقر مثلت في رأينا نقطة القوّة في الفيلم،فكل مشاهد يجد نفسه فيها، لكن رغم هذه الحميمية بين الـمُشاهد والإطار عجز الفيلم عن خلق صراع مقنع يقود إلى نقطة التحول، فالضغط العاطفي الذي عبّر عنه الأب بإلحاحه المفرط على احتواء كل صغيرة وكبيرة في حياة ابنه الشاب لا يمكن أن يفضي موضوعيا ومنطقيا إلا إلى تلك التمرّدات الصغيرة، كأن يرفع الابن صوته أمام أبيه احتجاجا على شدة اهتمامه بمرضه، أو الهروب منه في غابة رادس حيث كانا يمارسان الرياضة لأنه لم ينفكّ عن السؤال حول التوجيه الجامعي الخ. أما الهجرة إلى سوريا فلم يكن لها سياق درامي يبررها، ولم تتوفّر للمتلقي قرائن من سياق الحياة اليومية للشاب خارج فضاء الأسرة تُقنع بإمكان الإقدام على خطوة كهذه، فالمخرج لم يلجأ حتىإلى الحيلة السردية التقليدية التي تجعل الشخصية تنقل جزءا من المعلومات إلى المشاهد في حوار مع صديق مثلا كما يفعل الأب مع زميلته في الشغل،ويهدر فرصة رائعة حينيقطع الحوار في الجزء الذي يظهر فيه سامي بمفرده في المرقص الليلي،فيكتنف الغموضُ المشهدَ برمته، إذ يلتقط الشاب صورا ومقاطع فيديو مع أصدقائه، ثم يعيد مشاهدتها بمفرده، ولا يصل المتفرجَ أيُّ إحساس يدلّ على الحيرة أو الأزمة أو الصراع، بل يقتصر المخرج هنا على إظهار تضحية الأب في سبيل الاستجابة إلى ابنه حين يقضي السهرة كاملة وراء المقود في انتظاره.
لا تتّسق فكرة «الجهاد في سوريا» مع الإطار الدرامي، فبدت مسقطة إسقاطا، ولعلها أن تكون الرافعة التجارية للفيلم لا غير. فكل شيء كان يمهّد لصراع تقليدي يحدث داخل كل بيت بين شاب في سن المراهقة يريد الحرية ووالديْن ليس لهما من اهتمامات أخرى غير حياته ومصيره. وهذا الصراع في حدّ ذاته ليس هيّنا أو بسيطا بل هو جوهر مشكلة التربية في مجتمع تقليدي محافظ تقوم فيه علاقات البنوة على التملكعكس ما هو سائد في مجتمعات الغرب حيث ينفصل الطفل عن والديه في مرحلة ما ويستقلّ بذاته فعليا،وتجسيدا لانسداد الأفق تبدو الشخصيات كائنات استهلاكية مجردة من الاهتمامات والطموحات الفردية تتركّز كل عواطفها ومشاعرها في مثلث الزواج والإنجاب والأسرة، حتى تجربة الهجرة إلى سوريا يختزلها المخرج في زواج الشاب وإنجابه طفلا ثم الموت.
لقد جعل غياب الحبكة الرؤية الدرامية مختلّة، وأصاب الكثير من الجمل السينمائية بالتفكّك وعدم القدرة على الإقناع، وبقدر ما كان اعتماد المخرج على الإيحاء في كثير من المشاهد موفقا ومبتكرا كانت الكتابة السردية ضعيفة ومتسرّعة تفتقر إلى روح المغامرة، وقد غطى الأداء الرائع والمميز الذي جسّد به الفنان محمد الظريف شخصية الأب الكثير من النقائص في الفيلم،لكن محمد بن عطية لم يتمكن من الجمع ثانية بين السينمائي والروائي كما فعل في الفيلم الأول.لقد بدا واضحا أنه يريد إيصال جملة من الأفكار والمقولات عن التواصل الأسري والعمل والعلاقات بين الأجيال وعن الحياة الاستهلاكية الخ مستخدما سلطة المؤلف دون سياق سردي متين، وقد كان يمكن أن تكون الحكاية أكثر تماسكا لو مرت في إحدى مراحل الإنتاج بين أصابع روائي محترف، لكن العلاقة المأزومة بين الرواية والسينما في تونس تلقي بظلالها على المشهد، إذ لا يكتفي الكثير من السينمائيين تحت مظلة سينما المؤلف بالإعراض عما تزخر به المكتبة الروائية من أعمال بل يعمدون دائما إلى الجمع بين الكتابة والإخراج.
- اكتب تعليق
- تعليق