تــوحــيـــدة بالـــشيـــخ: مــسـيــــرة استثــنــائــية لأوّل طــبــيــبــة تــونــسـيّـة
قصّة توحيدة بالشيخ أوّل امرأة طبيبة في تونس تعدّ في حدّ ذاتها أسطورة. هذه الفتاة التي لم يكن لا المجتمع ولا البيئة التقليدية المحافظة التي تعيش فيها يؤهلانها لتصبح ما أصبحت عليه، أثبتت أن كلّ شيء ممكن بالنسبة إلى المرأة، إذا توفّرت الإرادة ولقيت الدعم اللازم. شخصان أساسيان لعبا دورا محوريا في حياتها لكي تكتمل تعليمها العالي في فرنسا وتحصل على شهادة طبيبة: أمّها، حلّومة بن عمار، التي أصرّت على أن تواصل ابنتها دراستها في فرنسا رغم المعارضة التامّة للعائلة، والدكتور إيتيان بروني، الباحث بمعهد باستور، الذي فتح لها الأبواب لتسافر إلى عاصمة الأنوار باريس وتدرس الطبّ. تصف توحيدة بالشيخ هذه النقطة المفصلية في حياتها في حوار أجرته معها الباحثة ليلى بليلي، من كليّة الآداب بمنوبة، والذي نشر في كتاب «نساء وذاكرة: تونسيات في الحياة العامّة: 1920 - 1960»(1)، حيث تقول متحدّثة عن أمها وعن الدكتور بروني: «أمي لم تغادر أبدا العاصمة تونس، لكنّها كانت امرأة متسامحة وشجاعة. الكلّ، خاصّة إخوتها وأخواتها كانوا يقولون لها بأن لا تتركني أرحل. في نفس الوقت، كان الدكتور بروني يكتب لأصدقائه ليجدوا لي عائلة تقبل أن تستضيفني خلال مدّة دراستي. ووجد، في آخر الأمر، مبيتا للشابّات، أسّسته أمريكية، السيدة أندرسون».
هنا لابدّ أن نُذكّر بأنّ توحيدة بالشيخ كانت يتيمة الأب، حيث توفّي والدها، أصيل بنزرت، أياما قليلة بعد مولدها في 2 جانفي 1909، وبأنّها ثالث بنت في العائلة، بالإضافة إلى أخ وحيد. نشأت في منزل في نهج الباشا مع عائلة أمّها، عائلة بن عمّار وهي من أثرى العائلات في ذلك الوقت، كما أنّ خالها هو الطاهر بن عمار، الذي عُيّن وزيرا أكبر في 1954 ووقّع على اتفاقية الاستقلال.
شجاعة الأم غيّرت قدر البنت
درست توحيدة بالشيخ في مدرسة نهج الباشا، ثم واصلت تعليمها الثانوي في معهد أرمان فاليار (أصبح فيما بعد معهد نهج روسيا). عند حصولها على الباكالوريا سنة 1928، احتارت ماذا تريد أن تفعل بعد ذلك. وصادف في صيف ذلك العام أن كانت في زيارة لزوجة الدكتور بروني، التي تصفها بـ«المرأة الديناميكية». سألتها هذه الأخيرة عمّا تريد أن تدرسه، فأجابتها الشابّة أنّها تريد القيام «بنشاط إجتماعي وأن تقدّم يد المساعدة لمن هم بحاجة إليها». عندها، نصحتها بأن تتحدّث مع زوجها الطبيب. تصف توحيدة بالشيخ بدقّة محادثتها مع الدكتور إيتيان بروني، في نفس الكتاب «نساء وذاكرة»، قائلة : «سألني: مالذي تريدين فعله يـا صغيرتي؟» فأجبته: «سأتّجه ربّما إلى الدراسة الطبّ، ولكن بما أنّه لا توجد كلية طبّ في تونس، فلا بدّ أن أنتقل إلى الجزائر» . نظر إليّ بتردّد، ثمّ أردف: «إذا كنت تريدين دراسة الطب يا صغيرتي، فعليك أن تدخلي من الباب الكبير وتذهبي إلى باريس». انفجرت ضاحكة وقلت له: «أنت تحلم سيدي!» فأجابني: «أستطيع مساعدتك، فأنا أعرف الكثير من الناس في باريس ولديّ القدرة على تنظيم رحلة ذهابك إلى هناك».
كانت العقبة الموالية هي إقناع أهلها وأمها بتركها ترحل، لكن على عكس ما كانت تنتظره، فإنّ والدتها لم تعارض رغم أنّها منعت قبل ذلك أخاها من إكمال دراسته في العاصمة الفرنسية، خوفا من أن يتزوّج بفرنسية ولا يعود إلى تونس. حظيت توحيدة بالدعم التامّ من قبل أمّها التي وقفت ضدّ الجميع، حتّى أنّه تمّ وصفها «بالجنون» لأنّها ترسل ابنتها إلى «مدينة توصف بالانحلال الأخلاقي».
في يوم رحيل توحيدة إلى باريس، وبينما كانت السيدة بروني تنتظرها في الباخرة التي ستقلّهما إلى هناك، كانت البنت تنتظر القرار المصيري الذي ستسفر عنه المحادثة بين والدتها وبين قريبين لها، أحدهما فقيه، جاءا خصّيصا لمنعها من الرحيل. وحول تساؤل أحدهما، كيف يمكن «لفتاة لم تغادر يوما العاصمة تونس، أن تذهب وحدها إلى مدينة بعيدة مثل باريس»، أجابت الأم بكلّ ثقة: «الكثيرون يسافرون من أجل المتعة أو العلاج، ولكن ابنتي ستسافر لأنّها تريد أن تدرس وتتعلّم وتعرفون أن طلب العلم هو واجب على كلّ رجل وامرأة في الإسلام». وأمام تمسّك الأم بموقفها، طلب أحد الأعمام الحاضرين أن تنتظر البنت إلى الأسبوع الموالي حتى تسافر بالطريقة الشرعية أي بوجود مُحرم معها، من عائلتها. لكنّ والدة توحيدة أصرّت على أن تغادر البنت حالاّ قائلة : «ابنتي ستغادر بصحبة امرأة أثق بها، فسيكون ذلك كما لو أنّها رحلت معي».
في تلك اللحظة، أخذت توحيدة معطفها وحقيبها وانطلقت نحو الميناء، حيث كانت السيدة بروني تترجّى الربان أن لا يرحل قبل وصول البنت. وهكذا خرجت الباخرة متأخّرة ببضع دقائق بعد أن استقلّتها وحيدة بالشيخ لتذهب لملاقاة مستقبلها المشرق ولتتغيّر حياتها جذريّا.
النضال من خلال الطب
قضّت سنوات دراستها الباريسية في مبيت للطالبات كان يحتضن فتيات مثلها جئن لطلب العلم من 25 بلدا مختلفا. قضّت توحيدة هناك أربع سنوات، قبل أن تنتقل للعيش مع عائلة الدكتور بروني التي عادت لتستقرّ في باريس. مكّنتها إقامتها مع هذه العائلة، من التعرّف على رجال علم وأدباء وأطبّاء ساهموا في توسيع نطاق نظرتها إلى العالم. كما اشتغلت كذلك في المستشفيات الفرنسية تحت إشراف أكبر الدكاترة. وفي سنة 1936، تحصّلت على شهادة الدكتورا في الطبّ وعادت إلى تونس، حيث حظيت باستقبال بهيج من قبل عائلتها ولكن أيضا من قبل الأوساط السياسية والثقافية، حيث نظّم الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي حفل تكريم لها في أفريل 1937 باعتبارها طبيبة تونسية مسلمة.
بادرت توحيدة إلى فتح عيادتها الخاصة بـ42 شارع باب منارة، وعيا منها بصعوبة العمل، كطبيبة تونسية، في المستشفيات الحكومية التي كانت تحت إدارة فرنسية. بدأت بممارسة الطبّ العام قبل أن تتخصّص في طبّ النساء والتوليد، نظرا لتردد الكثير من النساء على عيادتها لطلب نصحها ومساعدتها.
إحساس توحيدة بالشيخ الوطني كان عميقا، لكنّها فضّلت أن لا يكون نضالها سياسيا كما دعتها إلى ذلك بشيرة بن مراد من خلال إشراكها في اجتماعات الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي وأنشطتها من خلال تقديم المساعدة الطبية لمواطنيها ومواطناتها. لذلك أسّست جمعية الإسعاف الاجتماعي، حيث تولّت رئاستها قصد إسعاف ضعاف الحال. وكانت هذه الجمعية وراء مشروع إقامة دار الأيتام «جمعية القماطة» سنة 1950 للعناية بالرضّع من أبناء العائلات المعوزة. وفي نفس السنة، أسّست توحيدة بالشيخ عمادة الأطباء التونسين.
شغلت كذلك خطّة نائب رئيس بالهلال الأحمر التونسي ولعبت دورا مهمّا إبّان أحداث 1952، حين قصفت قوات الاستعمار، الوطن القبلي، حيث انتقلت على عين المكان لتقديم المساعدة للأهالي وكتبت تقريرا مفصّلا رفعته إلى السلطات الفرنسية عن فداحة الدمار الذي حدث.
كان لدى توحيدة بالشيخ إحساس بأنّ مساعدتها لبلدها تكمن أساسا في الاضطلاع بدورها كطبيبة وهو ما صرّحت به في حوارها مع ليلى بليلي: «العمل السياسي لم يكن أبدا يستهويني. أنا وطنية، أحبّ بلدي لكن أعتقد أنّه يمكنني أن أخدمه بطريقة أخرى». وهذ الطريقة كانت بتقديم المساعدة الطبية للنساء. «كان المجال الذي كنت أرى أنّني مفيدة فيه هو الصحة النسائية، فمريضاتي كنّ يطلبن مشورتي في كلّ مشاكلهنّ المتعلّقة بالصّحة وحتّى بالعلاقات الزوجية وعدد الأطفال الذين يجب إنجابهم».
هكذا انخرطت توحيدة بالشيخ في برنامج التنظيم العائلي وسياسة تحديد النسل، حيث أنشأت قسما للتنظيم العائلي بمستشفى شارل نيكول سنة 1963، بالإضافة إلى إنشاء مصحّة مونفلوري، قبل أن تصبح مديرة برنامج التنظيم العائلي سنة 1970. عن هذه التجربة تقول توحيدة بالشيخ: «كانت النساء غير عارفات بمسألة تحديد النسل وكنّ يعتقدن أنّهنّ يحتجن إلى موافقة أزواجهن للحصول على لوالب أو على حبوب منع الحمل».
الحياة الشخصية ولقاء شريك الحياة
في زخم هذه الحياة المهنية الحافلة، لم تغفل وحيدة بالشيخ حياتها الشخصية، حيث تزوّجت سنة 1942 طبيب أسنان شابّ، كان زميل أخيها في الدراسة وأنجبت منه ثلاثة أطفال. في الحقيقة، لم تتوقّع الطبيبة الشابّة وقتها أن يتقدّم أحد لخطبتها. «كوني امرأة زاولت دراستها في الخارج، جعل الرجال يخافون من طلب يدي للزواج» إلى أن جاء هذا الطبيب. «كان رجلا وسيما، طلب الزواج بي، فتردّدت قليلا، ثمّ قبلت عرضه». لكنّ زوجها لم يعش طويلا، حيث توفي سنة 1963 ليترك لها مهمّة مواصلة تربية الأبناء بمفردها، إلى جانب حياتها المهنية.
ظلّت توحيدة بالشيخ تشتغل كطبيبة إلى سنّ متقدمة ولم تبخل أبدا بالنصح والمساعدة على مريضاتها وكلّ من طلب دعمها. توفيت سنة 2010. وتكريمها لها أسّس عدد من الأطباء جمعية طبيّة تحمل اسمها وهي «جمعية توحيدة بالشيخ للسند الطبي». تمّ أيضا تصوير فيلم وثائقي عن حياتها بعنوان «نضال حكيمة»، بالإضافة إلى إصدار البريد التونسي طابعا بريديا يحمل اسمها وصورتها.
تبقى توحيدة بالشيخ إحدى أهمّ الوجوه النسائية الوطنية التي ساهمت في النضال الوطني وتحرير المرأة والنهوض بها.
حنان الأندلسي
(1)«نساء وذاكرة: تونسيات في الحياة العامة: 1920 - 1960»، عمل مشترك بين الكريديف والمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية بمساهمة مؤسسة صندوق سعاد الصباح، تونس 1993
- اكتب تعليق
- تعليق