التماسك الاجتماعي أساسٌ للسلم الاجتماعي...ولكن في أيّ إطار؟
كثيرا ما تردّدت على مسامعنا في السنوات الماضية، عبارة «السلم الاجتماعي» وضرورة التمسّك به والحفاظ عليه، اتّقاءً للفتنة وتفرّق الصفوف. فكلّما اشتدّت حدّة غضب الشرائح العريضة من الشعب إزاء تلاعب حكّامهم بالمسؤولية المنوطة بعهدتهم، وفق العقد الذي يربطهم بناخبيهم، إلاّ وتعلَّلُوا بأولوية الحفاظ على السلم الاجتماعي وأمن البلد. هذا، حتّى على حساب استشراء الفساد ولوبياته، والتفريط في سيادة الوطن وتخريب اقتصاد البلاد وتوسيع دائرة الفقر، وزرع الخوف في قلوب المواطنين من بعضهم البعض ومن المجهول الآتي. فهل صحيح أنّ كلّ هذه المصائب هي الثمن المُقدَّرُعلى الشعب دفعُه للظفر بالسلم الاجتماعي ؟..
هل تلك الحــــالة الفظيعة من انهيــار كلّ شيء في المجتمع وفي الدولة، يمكن أن تُنشيء سلماً اجتماعياً؟؟ هل في اهتراء وتفكّكه النسيج الاجتماعي، يمكن أن يينع سلم اجتماعي ويُزهرأمنا وسلاما، في الحاضر وفي القادم من الزمن على حدّ السّواء؟؟ أكيد لا !! فبلا تماسك اجتماعي لا مجال للحديث عن سلم اجتماعي أوعن الأمل في وجوده وفي دوامه... فقط بتحقيق التماسك الاجتماعي يشعّ السلم الاجتماعي بأمنه وأمانه على المجتمع. أي إنّ السلم الاجتماعي، الذي هو النقيض الضدّي للصراع بين مكوّنات المجتمع وأفراده إلى حدّ الاقتتال أحيانا، هو وليد التماسك الاجتماعي وثمرتُه المباشرة من ناحية، والأرضية الأساسية لتحقيق نموّ وازدهار أيّ شعب من ناحية أخرى !
فما هو التماسك الاجتماعي إذا ؟ لغويا، يفسّرالمعجم الوسيط أنّ التماسكَ يعني ترابط أجزاء الشيء حسيّا ومعنويا. ويفسّر التماسك الاجتماعي بترابط أجزاء المجتمع الواحد فيشدّ بعضُها بعضا. ولكن كيف نظرإليه وفسَّره الفلاسفة وعلماء الاجتماع ؟ إنّ أغلبية المفاهيم التي طُرحت للتعريف بالتماسك الاجتماعي، قديما وحديثا، كانت في الغالب ترتكزعلى عنصرواحدٍ محدّدٍ رئيسي: إمَّا أخلاقي تربوي، أو ديني وجداني، أو قانوني وضعي. وحتّى التعريفات التي اعتمدت على نظرة شمولية نسبيا، قد أهملت بشكل من الأشكال، العنصر الأساسي الضامن لقوّة التماسك الاجتماعي ودوامه، وهو عنصر الدولة وطبيعتها. وحتّى إن أتت عليه فمن تناولٍ يكون في الغالب أحادي الجانب، ولا يضمن للتماسك صلابته ومناعته!
فمن العناصرالتي أولاها علماء الاجتماع أهميّة في حديثهم عن شروط التماسك الاجتماعي، يوجد العدل. عدل الحاكم على المحكوم. فهو أساس العمران عند بن خلدون، و«الظلم مؤذن بخرابه». وأيضا التعاقد الاجتماعي، أوالعقد الاجتماعي بين مكوّنات المجتمع بما يضمن تعايشها في أمن وسلام، وفق جان جاك روسو، مثلما شرحه في كتابه «العقد الاجتماعي». ووجدنا لزوما التفريق بين السلط في نظام الدولة لتأمين عدم تغوّل سلطة بعينها، وهي غالبا السلطة التنفيذية أو الحاكمة، بصلاحيات بقية السلط. فكان المرجع الأشهرفي طرح هذا المفهوم لمونتسكيو، في كتابه «روح القوانين» والذي أصبح مرجعا وقاعدة عمل للأنظمة الديمقراطية الحديثة. وقد دعا فيه أيضا إلى اعتماد نظام سياسي منفتح على روح العلم والعقل وبعيد عن التعصّب والاستبداد. ووجدنا التحذيرمن الاستبداد كذلك لدى عدد من المفكّرين والمصلحين العرب، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومن بينهم المفكّر والمصلح الاجتماعي السوري الأصل، عبد الرحمان الكواكبي. فقد فضح في كتابه: «طبائع الاستبداد ومصارع الإستعباد»، دهاء سلطة الاستبداد في توظيفها للمقدّس الديني بغية نشرالمزيد من الجهل والظلام، لحرمان الشعوب من ممارسة التفكيرالعقلاني الحرّ ولإغراقها في بؤس الفتن والانشقاق، وتفويت الفرصة عليها في بناء تماسكها الاجتماعي. وهو المؤلَّف الذي جلب له الكثير من المتاعب حتّى مماته.
الحقيقة أنّ كلّ هذه العناصرالتعريفية صحيحة وضرورية، ولكن شريطة أن تكون مجتمعة مع بعضها البعض وليست متفرّقة. غير إنّها تبقى مع ذلك منقوصة لعنصر فائق الأهمية من أجل تفاعل جميع العناصرالسابقة مع بعضها البعض فتؤدّي أدوارها بشكل تكاملي ناجع، ونعني بهذا العنصر المنقوص، الدولة وبأيّ طبيعة تكون!! والدولة هي الصمغ الذي يشدّ التماسك الاجتماعي إلى بعضه البعض ويضمن له الحياة المنسجمة النشيطة والتطوّرالدائم لمختلف مكوّناته! إذا كان لكل تجمّع بشري، مهما صغر، نوع خاصّ به من التماسك الاجتماعي يبتدعه لذاته من خلال عناصر جذب لأعضائه حتّى لا تنفلت عن كيانه، فإنّ لكلّ شعب كذلك تماسكه الاجتماعي العام وتماسكاته الاجتماعية الداخلية، بحسب طوائفه ودياناته وقبائله إن وجدت، وفق طبيعة نظامه السياسي ونموذج دولته، ملَكيةً كانت أم جمهورية، ديمقراطية كانت أم ديكتاتورية. وبقدرما يتوفّر للمواطنات والمواطنين من حرية ومساواة ومن عدالة اجتماعية وتنموية، فإنّه يمكن الحكم على مدى صلابة التماسك الاجتماعي داخل هذا الشعب أوهشاشته. وبالتالي على مدى ما يتمتّع به أولئك المواطنون من سلم اجتماعي وانسجام، أو ما يعانون فيه من ضيم وحيف وحرمان من الحقوق، تولّد الفتنَ والصراعات.
وبالمقارنة بين ذلك الصنف من الشعوب وهذا الصنف، نستنتج بسهولة أنّ الدول الديمقراطية هي التي يتمتّع فيها الشعب بتماسك اجتماعي ليس قويا فقط، بل يكون ديناميكيا في تحفيز المواطنين على الاضطلاع بأدوارهم المتكاملة بحسب اختصاصاتهم ومواقعهم، من أجل رقيّ بلدهم وإزدهاره، في ظلّ دستور وقوانين من وضعهم بواسطة نواب منتخَبين منهم، يمكن تعديلها أو تعزيزها بقوانين جديدة باستمرار، كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. كما يمكنهم بواسطة مؤسّسات دستورية منتخَبة هي الأخرى، مراقبة عمل مختلف سلط الدولة، التي تكون مستقلّة عن بعضها البعض، وبالتالي محاسبة حكّامهم ونوّابهم، سواء في الحكم المحلي أوالمركزي، ونقدهم وعدم تجديد الثقة فيهم في المواعيد الانتخابية العادية والاستثنائية، لأنهم ببساطة بشر مثلهم، يمكن أن يصيبوا كما يمكن أن يخطئوا. والأنظمة، أو الدول، من هذا القبيل، تجعل فرص العمل والإسهام في تحقيق النموّ وفي الاستفادة من خيراته، مفتوحة بالتساوي أمام جميع المواطنات والمواطنين، بغضّ النظرعن دياناتهم أو ألوانهم أو أصولهم ومنابتهم الاجتماعية. المهمّ هو الخضوع لمعايير موضوعية يكون أمامها الجميع متساويين، ولا أفضلية بينهم إلاّ بكفاءاتهم. قد يجول بالخاطر سؤال عمّا يشاع أنّ هذه الدول والأنظمة معادية للدين.. فهل فعلا هي كذلك؟ الإجابة بالطبع لا! بل على العكس، تكون الدولة ضامنة لجميع أفراد المجتمع، أن يختاروا بكامل الحرية ديانتهم بما في ذلك ممارستهم لشعائرهم الدينية، على أساس أن يحترموا هم أيضا حرية غيرهم في اختيارالدين أو لا دين لأنفسهم. ويتولّد عن السؤال السابق سؤال آخر: هل في هذه الحالة تزول الحاجة للأئمة والوعاظ؟ وفي حال وجودهم، أيّ دور سيضطلعون به في ظلّ هذه الدول وهذه المجتمعات؟
ذلك سؤال على غاية من الأهمية ! بما أنّ القيم الأخلاقية تمثّّل ركيزة أساسية لعلاقات إنسانية راقية وإيجابية تساهم في تمتين التماسك الاجتماعي، وهي التي أولتها المواثيق الأممية صدارة اهتماماتها وأفردت لها قوانين وفصولا وبنودا تؤكّد فيها على أهمية المساواة بين البشر في الحقوق، وتشجب فيها استعبادهم، وتعذيبهم، والمتاجرة بهم، وامتهان كرامتهم، فإنّ للأئمّة، توفّره لهم الدولة من تكوين ديني وثقافي وتاريخي وبيداغوجي سليم، دورا حيويا في التعريف بهذه المواثيق والقوانين وذلك بالاستعانة بما تتضمّنه الكتب السماوية من حثّ على مكارم الأخلاق مثل المعاملة الحسنة بين البشر، والنصح في العمل وعدم الغشّ في التجارة، وفي الصدق في القول وعدم سرقة مال الغير أو استغلال عرق العمّال، وفي احترام المرأة كذات بشرية مساوية للرجل، لها نفس الحقوق والفرص وعليها نفس الواجبات. على هذا الأساس تزول معاييرالأفضليات القديمة القائمة، إمّا على الأصل أو على النسب أو على الجاه أو على الذكورة أو على المرتبة الدينية، لتحيل أساسَ التقييم إلى الكفاءة والخبرة والاجتهاد في العمل، وفي أداء الواجب وفي احترام القانون ومبدإ المواطنة. النتيجة هي أنّ الجميع في مثل هذه المجتمعات يتمتّعون بحريّاتهم الفردية طالما لا ضرر من ورائها لأيٍّ كان! وبممارسة المواطِنة والمواطِن لحريتهما بهذا الشكل، تتحرّر أيضا قدراتهما على الخلق والإبداع والإفادة، فيأتي النجاح والتألق اللذان يعودان بالفائدة أيضا على البلد بأسره، وبالتالي على مزيد متانة تماسكه الاجتماعي الذي يجد في إطاره كلّ المواطنين والمواطنات فرصهم التي يستحقّونها من أجل تحقيق النجاح الذي يطمحون إليه.
ولكن هل حقّقت منظومة الحكم القائمة في بلدنا، وحتّى تلك القائمة في بقية البلدان العربية أيضا، ذلك السلم الاجتماعي وهذا التماسك الاجتماعي بمواصفاتهما الصحيحة وليس تلك المغشوشة المسوَق لها في كل آن وحين؟ الإجابة هي قطعا لا! والسبب واضح مثلما بيّنا، هو إن منظومة الحكم تلك بُنيت على الخداع، وعلى إقامة تحالفات معادية لمصالح الشعب والارتهان، إمّا لأفكار محنَّطة لم تعد تتماشى مع تطور الحياة في العالم أجمع، وإمّا لإملاءات جهاتٍ ودوائرَ ودولٍ أجنبية تمسّ من سيادة الوطن، وعلى الإذعان لهيمنة أباطرة الفساد وأصحاب الحظوة منذ العهود السابقة في التصرّف في مقدّرات البلد وثرواته. فشوّهت بذلك معاييرالدولة الحديثة القائمة على قيم الحرية والعدل والمساواة والكفاءة وعلوية القانون وإنفاذه على الجميع، وأرست بدلا عنها نظام دولة هجينة، ظاهرها عصري وداخلها حبيس نموذج قروسطي يطغى فيه التنازع المفضوح على مواقع النفوذ في سلط الدولة جميعها والحطً من علوية القانون بما يهيّء المناخ الملائم لانتشار الفوضى وبالتالي لتفكّك أواصر النسيج الاجتماعي... لتقويم هذا الاعوجاج وإزالة هذا التشويه أوالتشوّه، يجب العمل على التّمسّك بنموذج الدولة الحديثة، ولايمكن التّمسّك به والحرص على إقامته في صورته النقية، إلاَّ بالشروط التالية:
1 - البحث عن العناصر التي تُجمِّع مكوّنات وأفراد المجتمع وجعلها أساس تماسكهم الاجتماعي، وهي العناصر المستمدّة من القيم الكونية لحقوق الإنسان والجماعات، ومن مختلف الديانات السماوية، وكلّها تحثّ على المعاملة الحسنة وعلى التراحم وعلى الإقرار بحريّة كلّ فرد وكلّ مجموعة في المجتمع في معتقداتها وفي أفكارها طالما لا تضرّ بها الآخرين ولا تفرضها عليهم. وهذه العناصر تكون مضمّنة في دستور ينظّم حياة الجميع ويكون مرجعا أصليا لتقنين نظام عيشهم.
2 - اتفاق كلّ مكوّنات المجتمع، وهذا يصحّ على كل المجتمعات العربية، على التخلّي عن العناصر التي هي مصدر اختلاف في النظر إليها وتفسيرها، ومنها حمل الغير بالقوّة على: إمّا إتباع دين بعينه أومذهب بذاته أو تفسير محدّد لمسألة أو قضيّة معيّنة. أي بكلمة، نبذ كلّ ما يمتّ إلى التعصب والانغلاق الفكري بصلة.
3 - التسليم بأن التّديّن من عدمه مسألة شخصية تهمّ صاحبها أو صاحبتها فقط.
4 - اضطلاع الدولة بالدور الموكول لها طبق ما يُحدِّده الدستور بكامل المسؤولية بما يقتضيه من ضمان للحريات الفردية والجماعية جميعها بالتساوي لكلّ أفراد المجتمع، بما فيها حريّة الضمير والعقيدة والممارسة الدينية والإشراف على تكوين أئمّة المساجد والسهر على أن يقوموا بدورهم وفق الأسس التي تقوم عليها الدولة الحديثة، والارتكاز على التفريق بين السلط واستقلالها. والتصدّي بكلّ حزم للفساد وتبنّي سياسة تنموية وتنويرية في نفس الوقت، عادلة وشاملة لكل الميادين والشرائح والمناطق، بما يشعّ الثقة والطمأنينة في النفوس ويعيد ثقة المواطنات والمواطنين في الدولة وفي مختلف هياكلها ومؤسّساتها.
بذلك، تكون الدولة بهذا النموذج وهذه المواصفات، قد وفّرت من ناحية، عوامل تحقيق التماسك الاجتماعي، ومن خلاله السلم الاجتماعي، وبالتالي نموّ وازدهار البلد ككلّ! إنّ هذه الدولة التي اكتفينا بوصفها بالحديثة، ما هي إلاّ الدولة المدنية، وما مقوم سياستها العادلة والقائمة على المساواة تلك، والضامنة لحرية المعتقد والفكروالعمل، إلاَّ العَلمانية خالصة نقية وبعيدا عن تشويهات السياسة ونزعاتها الحرباوية المختلفة!
لذلك، وممّا تقدّم، وبكامل الاختصار، لا حلّ لهذا البلد ولهذا الشعب للنجاة من المآل المدّمرالذي سقط فيه عدد من البلدان العربية والذي بدأ يلوح خطرُه الداهم في سماء بلدنا، إلا بإزالة كامل المنظومة الحاكمة القائمة بشقيّها، أو بشقوقها، والتي يزداد تطاحنها يوما بعد يوم، والتي تلاحقها القضايا العالقة العديدة! غيرأن تحقيق هذه الغاية لن يتمّ إلا بالطرق الديمقراطية وعبرصناديق الاقتراع لضمان التداول السلمي على السلطة، وأساسا بتوحيد القوى والطاقات الوطنية التقدّمية، الكفأة والنزيهة، سواء كانت في أحزاب أو في ائتلافات أوفصائل، أومنعزلة ومستقلّة، ولكن، بعيدا عن النرجسية والزعاماتية، وبتغليب عناصر التوحيد العامة على عناصر الفُرقة الخاصّة!!
إنقاذ الوطن الآن، وبالطرق الديمقراطية، هو الأولوية.. وفي إنقاذه يكون للحديث عن السلم الاجتماعي الحقيقي وعن التماسك الاجتماعي غير المغشوش، نفعُه وجدواه.. ويكون لمفهوم الدولة المدنية المواطنية العادلة وذات السيادة المصانة والقائمة على الحرية والمساواة، وقعُه وتأثيرُه في تحقيق ذلك التماسك المنشود، وبالتالي إزدهار البلد ونهوض شعبه!
هل هذا حلم؟؟ بعضه كذلك... وأكثره يجب أن يكون تخطيطا وعزما وعملا! ثمّ من قال إنّ أحلاما كهذه لا تتجسّد؟؟.
خديجة معلّى
- اكتب تعليق
- تعليق