حـجّ التــونسيين إلى البـقاع المقــدّســة عبـر العصور
بين البلاد التونسية والبقاع المقدّسة صلات لم تنقطع منذ أنّ ترسّخت في إفريقيّة أركان الدين الإسلامي وانتشرت في ربوعها تعاليمه وشعائره، ومنها شعيرة الحجّ.
قبل ظهور وسائل النقل الحديثة، كانت تنطلق من تونس في كلّ موسم قوافل الحجّ التي ينضمّ إليها حجّاج المغرب الأقصى والجزائر في رحلة مشتركة كانت الغاية منها توفير أسباب الأمن والتعاون. ولم يكن لحجّاج الشمال الأفريقي بدّ من عبور البلاد التونسيّة، إذ ليس لامتطاء البحر من سبيل فلا توجد في العهد القديم شركات للملاحة تعدّ السفن للأسفار. ويُقابل الزائرون خلال إقامتهم في القطر التونسي بالحفاوة والتبجيل وتلبس مدنه حلل الزينة والفخار ترحيبا بهم.
وللحجّ طريقان، طريق مُسحّل، أي عبر السواحل الأفريقيّة ومدنها، ويكون هذا في فصل الصيف والآخر جنوبي في الشتاء يمرّ عبر وادي سوف والجريد ومدن الصحراء الليبية إلى الواحات الداخلة والخارجة في مصر إلى قوْص فحميثرة ثمّ مناطق الصحراء الشرقية الأخرى إلى ميناء عيْدات ثمّ إلى جدّة. وقد وصف الرحّالة المغربي محمّد العبدري الحاجي في القرن السابع هجري/ الثالث عشر ميلادي هذا الطريق وصفا دقيقا يثير الذعر في النفوس. وكان طوّف بأكثر مدن تونس سنة 688 هـ / 1289 م وتلقّى العلم عن كثير من فطاحلها كالشيخ عبد الرحمان ابن محمّد ابن عبد الله الأنصاري، المعروف بالدبّاغ، صاحب كتاب «معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان».
أخبار الحجّ في أدب الرحلة
ووثّق معاصر العبدري ابن رُشيْد السبتي وقبله الرحّالة الأندلسي ابن جُبيْر في القرن السادس هجري/ القرن الثاني عشر ميلادي مشاهداتهما للقرى والمدن التي مرّا بها في طريقهما إلى الحجاز وقدّما بيانات عمّا لقياه فيها من معاملة وعمّا عقداه من لقاءات مع علماء تبادلا معهم أسانيد المعرفة في العلوم الدينية. كما ترجم تقي الدين الفاسي المكّي المتوفى سنة 832 هـ/ 1428 م في كتابه «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» لمن دخل البيت الأمين من علماء المسلمين وصلحائهم وأمرائهم من أهل تونس ومن بينهم الأمير الأغلبي عُلوان بن الحسن وعبد الرحمن ابن عقبة المهندس وعبد الله ابن عمر ابن خلف القيرواني المقرئ الذي أصبح إماما لمقام ابراهيم بمكّة وعبد الرحمن ابن خلدون والإمام أبو عبدالله ابن عرفة الورغمّي.
ومن الرحلات الحجازية التي دُوّنت، رحلة العالم والفقيه المغربي الحسين بن مسعود اليوسي، وقد دوّنها ابنه محمّد العيّاشي بن الحسن اليوسي (المتوفّى سنة 1131هـ / 1719م) وقد حقَّق النصّ الأستاذ أحمد الباهي ليصدر في كتاب بعنوان «رحلة اليوسي» (سلسلة تاريخ/ إصدارات بيت الحكمة 2018). و«الرحلة شهادة عينية عن وضعية طريق الحجّ ومحطّاته ومناسكه زمن سلوكه» حسب المحقّق.
وعلى الرغم من كثرة رحلات المغاربة والأندلسيين إلى البقاع المقدّسة، فإنّه لم ترد إلّا أخبار متقطّعة عن خروج الحجيج التونسيين وطرق انتقالهم وتجمّعهم ولم تقم أيّة دراسة مكتملة ومستقصية لهذا الموضوع. ولعلّ مردّ ذلك أنّ أغلب الحجّاج هم من عامّة المسلمين.
وفي بدايات القرن العشرين، سُجّلت رحلة مفتي القيروان الشيخ محمّد بن صالح الجودي الذي استأذن في الحجّ الوزير الأكبر يوسف جعيّط سنة 1331هـ / 1912م، مضمّنا في وصفه للرحلة العديد من البيانات بخصوص ظروفها والمشاق التي تكبّدها منذ أن خرج من تونس وامتطى الباخرة في اتجاه بور سعيد بمصر إلى حين وصوله إلى جدّة. ويذكر محمّد بن صالح الجودي أنّ السلطان عبد الحفيظ، سلطان المغرب كان من ضمن الحجيج في تلك السنة، وهي السنة التي تخلّى فيها عن العرش لفائدة أخيه يوسف ابن الحسن. وقد تسنّى لمفتي القيروان مقابلة شريف مكّة الحسين ابن علي وحضور مجالس الأنس والذكر، في ضيافة التونسيين والجزائريين والمغاربة المقيمين بأرض الحجاز، ممّا يدلّ على روابط التآلف والتضامن آنذاك بين أهل المغرب العربي الكبير من ناحية، ونزعة عدد منهم إلى الاستقرار في البقاع المقدّسة، من ناحية أخرى. وقد مكّن فتح قناة السويس التي تعتبر من أعظم الإنجازات في القرن التاسع عشر من إيصال البحر الأبيض المتوسّط بالبحر الأحمر، فتعدّدت شركات الملاحة لنقل الحجيج، واستعاض الناس عن ركوب العيس والجياد بركوب البواخر، ممّا خفّف من أتعاب السفر، وذلك قبل أن تتيسّر الرحلات الجويّة نحو البقاع المقدّسة، بداية من أربعينات القرن العشرين بالخصوص، فأصبح الحجيج يقضّون فقط قرابة الشهر بين الذهاب والإياب، بعد أن كانت لا تكفيهم في العصر القديم الثلاث سنين.
الصرّة الهمايونيّة
ومن مظاهر التواصل بين البلاد التونسيّة والبقاع المقدّسة ما كان يرسل من مساعدات إلى الحرمين الشّريفين مع كلّ موسم والتي تسمّى بـ»الصرّة الهمايونيّة» لتوزّع على الأشراف والعلماء والفقراء في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة. وقد أنشئ لذلك في تونس وقف خاصّ سمّي «وقف الحرمين الشريفين».
ومن الوثائق المحفوظة في الأرشيف الوطني دفتر يعود تاريخه إلى سنة 1887 في عهد علي باي الثالث وتتضمّن صفحاته أختاما بأسماء ممّن وزّعت عليهم مساعدات ماليّة في مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة خلال موسم الحجّ لتلك السنة مع ذكر المبلغ الممنوح لكلّ شخص، وذلك لإثبات تسليم هذه المساعدات للمنتفعين بها، ولتبرئة ذمّة من تولّى توزيعها، ممّا يؤكّد اتّباع القواعد الإدارية السليمة بالدولة التونسية عصرئذ (انظر ليدرز العربية العدد 24 - 15 ديسمبر/ 15 جانفي 2018).
وحسب ما ورد في مقال للدكتور مصطفى الستيتي نشره موقع ترك بريس الإلكتروني، كانت الصرّة موجودة في عهد الدولة الحفصيّة وأكثر من اهتمّ بها السلطان أبو فارس عبد العزيز الذي تولّى ملك تونس سنة 796 هـ/ 1394م حيث كان يوشّحها ويزيّنها بالحلّي تقرّبا لأهل البيت وإكراما لجيران الرسول صلّى الله عليه وسلّم . وتواصل إرسال الصرّة مع الدولة المراديّة ، وكان حمّودة باشا باي يتولّى بنفسه حفظ مال الوقف الرّاجع للحرمين الشريفين ثمّ في عهد البايات الحسينيين الذين كانوا يختارون أفضل العلماء ووجهاء القوم لإيصالها لمستحقّيها.
ووفق المصدر نفسه، كان مقدار الصرّة يختلف بالزيادة والنقص حسب مداخيل أوقاف الحرمين الشريفين. وقد جعل لها الوزير المصلح خير الدين باشا مبلغا قارّا قيمته ثمانون ألف ريال سنويّا، يقسّم بالتساوي بين أهالي الحرم المكّي وأهالي الحرم المدني، وظلّ هذا المبلغ معتمدا إلى غاية سنة 1935 قبل أن يرتفع بمقدار الخمس في السنة الموالية. ويودّع ركب الصرّة في موكب بهيج يحضره الباي والوزراء ورجال الدولة وكبار موظّفي الأوقاف ومن ضمنهم وكيل وقف الحرمين الشريفين وبيده الصندوق الذي يحتوي المال الموجّه إلى الحجاز.
كما يفيد د.مصطفى الستيتي أنّ إرسال الصرّة توقّف بعد انتهاء الحـــرب العالمية قبـــل أن يستأنف بعد سنوات إثر تدخّل الملك عبد العزيز آل سعود لدى باي تونس الذي استجاب للطلب، رغم الضائقة المحيطة بجمعية الأوقاف وحُدّد مبلغ الصرّة بخمسين ألف ريال سنويّا. وتقديرا لمبادرة باي تونس، أهداه العاهل السعودي حزاما ذهبيّا مصنوعا من أستار الكعبة المشرّفة.
أبعاد متعدّدة
وللحجّ أبعاد متعدّدة، فعلاوة على بعده التعبّدي الخالص، فهو مناسبة للتّلاقح الفكري ومجال للتأثير والتأثّر بالرأي والعقيدة والمسلك، حيث تنشأ الصحبة وأحيانا القدوة وتتّسع الآفاق الذهنيّة والعاطفيّة. وأصبحت الدول الإسلامية تؤلّف من بين حجيجها وفودا رسميّة تقوم بمهام شبيهة بالسفارة، فتحمل الهدايا والرسائل من الملوك والأمراء والرؤساء إلى القائمين على الحرمين الشريفين ولضيوف الرحمان وللمقام النبوي ومرتاديه وتعود محمّلة بالتحايا من هؤلاء إلى قادة بلدانهم. وتعقد أثناء موسم الحجّ لقاءات تيسّر التشاور والتناصح والتنسيق فتزكو العلاقات بين الأفراد والأمم وتبرم العقود والاتفاقيات، وكلّها أبعاد اجتماعية إنسانية تكاد فريضة الحجّ تنفرد بتحقيقــها دائمــا، زيادة عن بعدها الجوهري الروحي.
وقد اغتنم الزعيم الحبيب بورقيبة فرصة أدائه فريضة الحجّ في نوفمبر 1945 لمقابلة العاهل السعودي ومستشاريه لحشد الدعم لقضية استقلال تونس وتحريرها من ربقة الاستعمار الفرنسي، كما تدلّ على ذلك الرسالة التي كان وجّهها من مكّة المكرّمة إلى صديقه الصحفي الفلسطيني محمّد علي الطاهر (انظر ليدرز العربية العدد 12 -15 ديسمبر 2016/ 15 جانفي 2017).
العلاقات بعد الاستقلال
أيّاما قليلة بعد الاستقلال وبالتحـــديد في يوم 31 مارس 1956 أصدر محمّد الأمين باي أمرا عليّا يقضي بحلّ جمعية الأوقاف وإلغاء الأحباس العامّة الذي تبعه إلغاء الأحباس الخاصّة في سنة 1957. ونتيجة لذلك توقّف نهائيّا إرسال الصرّة إلى مستحقيها في البقاع المقدّسة، لكنّ علاقات البلاد التونسيّة بالسلطات السعوديّة اتّخذت شكلا جديدا إذ أصبح من التقاليد الراسخة أن يشكّل رئيس الجمهورية وفدا رسميّا للحجيج التونسيين ويحمّل رئيسه رسالة إلى ملك السعودية تتضمّن تحياته ومشاعر إكباره للجهود المبذولة في خدمة الحرمين الشريفين ورعاية ضيوف الرحمان، فضلا عن تأكيد العزم على توطيد العلاقات الثنائيّة وتعزيز أواصر التضامن الإسلامي. ومنذ أن حدّدت المملكة العربيّة السعوديّة حصّة لكل بلد إسلامي وفق المؤشّر السكّاني، أصبح من مشمولات الدولة التونسيّة ضبط قائمة الحجيج اعتمادا على مقاييس معيّنة منها القرعة بالخصوص والسهر على توفير أفضل الظروف لتنقّل الحجيج إلى البقاع المقدّسة وإقامتهم فيها ورعايتهم صحيّا وإرشادهم والإحاطة بهم عند أداء المناسك، إلى حين عودتهم إلى أرض الوطن.
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق