عز الدّين عناية: أيّ دور للمثقّف التــونسي؟
ما يشهده العالم اليوم من تحوّل على صلة بالرأسمال الثقافي وبالصناعة الثقافية وبأدوار المثقّف، هو مؤشّر على تحوّل أعمق وانتقال من طور إلى آخر، ليس في مجال الثقافة فحسب. وتبعا لتلك المستجدّات، يبدو التونسيون اليوم أحوج ما يكون إلى تطوير رؤاهم، وإلى إيجاد صيغة تشحذ الروح وترسّخ التوازن وترتقي بالإنسان، تؤسّس لفعل حضاري إيجابيّ مؤثّر في واقعهم، بعد أن دبّ التفسّخ في العديد من أشكال النظر والعمل السالف؛ وبالمثل تصلهم بالعالم ليعرفوا مقامهم فيه، ويدركوا مستويات إسهامهم في بناء صروحه، الفنية والجمالية والفكرية والقيمية.
فلا يمكن أن نزعمَ أن الوضع الثقافي التونسي الحالي، المتّسم بالسطحية، فضلا عن طابع الشكلانية الطاغي عليه، قادرٌ على أن يوفّر إشباعا على مستوى الداخل، أو أن يكون منافِسا مقتدرا على مستوى الخارج. فنحن أمام محدودية الفعل الحضاري التونسي بوجه عام، داخلا وخارجا. واللسان الثقافي الذي نتحدّث به مع أنفسنا يعتوره الخلل، والذي نخاطب به العالم يشي بفهمٍ قاصر لسير هذا العالم. ذلك أنّ التكتّل الغربي المؤثِّر بشكل واسع في وقائعنا السياسية وفي مساراتنا الحضارية، تفصلنا عنه هوّة سحيقة، يتجلّى ذلك في فتور الثِّقاف معه وعجز حتّى جامعاتنا ومؤسّساتنا العلمية والبحثية عن مواكبة ما تمور به أوساطه العلمية من طروحات وآراء وأبحاث ومؤلّفات.
تخليق نموذج جديد
ما هي الملامح البارزة لهذا النّموذج الثقافي الجديد إذا ما أقررنا بأنّ عالمنا بصدد هجران طور تتقلّص صلاحيته والدخول في طور مغاير؟ لا شكّ أنّ الثروات الثقافية عامّة، والمثقّف أحد عناصرها المهمّين، قد شهــدت تبدّلا في وظائفها وأدوارها، ولعلّ ذلك حـاصــل بموجب السيولة المفرطة التي تطبَعُ أوضاعنا اليوم: «المجتمع السائل»، و«الحداثة السائلة»، و«الأخلاق السائلة» وغيرها، استنادا إلى ما رصده المفكّر البولندي زيغمونت باومان. ذلك أن وعود النّموذج الثقافي المنشود تقتضي التملّي في معطيين: كيفية استثمار الفعل الثقافي في الداخل التونسي بطريقة ناجعة، يمكن أن تنعكس إيجابا على الناس في الرقيّ بأحوالهم وتطوير نظرتهم للحياة؛ ومن جانب آخر، كيفية الإسهام في المسار الثقافي الكوني، أخذاً وعطاءً، وبشكل إيجابي أيضا، دون انعزال عن حراكه أو قصور في فهم الشّكل الذي يسير به أو الآليات التي تتحكّم فيه؟
لكن لعلّ من البديهي أن نذكّر بأنّ الثقافة التونسية لا يمكن أن تبني خريطة طريق سالكة في ظلّ اهتزاز الثّقة بمخزونها الحضاري وبلغتها وبكيانها. ذلك أنّ الظرف يقتضي عملا حثيثا لردّ الاعتبار للذات المهشّمة والجريحة. كما أنّ النّموذج التونسي المنشود يقتضي من المثقّف أن يكون بمنأى عن التوظيف السياسي. إذ ثمّة مطبّات تتربّص به، تشلّ إمكانياته وتقلّص من قدراته، ومن بين المطبّات تلك خضوع مخياله إلى هذه الجهة أو تلك. وهو ما لم يتحرّر من هذا الكابوس ويبني إنجازاته بمنأى عن هذه الضّغوطات، فإنّ ذلك يبقى معطِّلا لإبداعه. فأمام شتّى أشكال الإغواء لا يمكن أن ننفي تورّط المثقف في الأجندات السياسية، والصراعات التي تشقّ البلاد في الراهن المكتظّ بالتحديات.
ولو تابعنا الحضور الثقافي التونسي خارجا نلحظ أنّ التونسيين يعرضون أنفسهم أمام عالم اليوم بوجه ثقافي شاحب، مغاير لملمحهم النضير السالف. وحتى التونسيين ذاتهم لم يعهدوا في أنفسهم هذا الفتور، ولو إبّان أحلك فترات التراجع والغزو والاستعمار، حيث واكب الانتكاسات تحفزٌ تخلّل جلّ فترات التأزّم. في هذه الأجواء العسيرة، لا يمكن للتونسيين أن يبشّروا بطرحٍ ثقافيٍّ واعد، ما لم يكونوا أكثر إيمانا بجدواه وأكثر إخلاصا في تطبيقه، ولا يمكن للتونسيين أن يحوزوا موضعا معتبرا في هذا العالم، بعد أن باتوا عالة عليه، ما لم يدركوا ما يدور في هذا العالم ويعوا سيره. إضافة ثمة قطاعات ثقافية وحقول معرفية وعلوم مبتكرة في الإنسانيات والاجتماع لا يفيها التونسيون حقها إلماماً وإنماءً، والحال أنّها مفاتيح لفهْمِ الحراك الثقافي والمعرفي الدائر في عالمنا. فالجليّ أنّ تونس تدرّس اللغات الأجنبية في جامعاتها ولكن إسهام أقسام اللغات تلك في ربطنا بالثقافات الأجنبية وبالزّخم الحضاري العميق لبلدانها ضئيل ومحدود جدّا. وكأنّ المسألة مقتصرة على التّرديد الميكانيكي للغات الأجنبية دون حاجة إلى الإلمام بمخزون المجتمعات الثقافي والسياسي والاقتصادي. ما جعل إطلالنا على الحضارات مفرغا من مدلوله، ولا يسهـم في ترشيــــدنا إلى ما نصبو إليه. ولا يعني النّقص الفادح أنّ التونسيين يفتقدون إلى خطّة في الراهن، لكن الجلي أن رؤيتهم يعتريها الاضطراب ويتخللها الارتجال.
مراجعة السياسات المعرفية
منذ عقود لدينا جدلٌ محمومٌ يدور حول سؤال: أي نموذج مجتمعي نريد، إسلامي أو علماني، ديني أو مدني؟ دون أن نبلغ حلاّ في فك هذه الأحجية، وواقع الأمر يكشف أن هناك رؤية سحرية بالفعل في الإدراك التونسي لتلك الخيارات، متأت من هشاشة مفهوم الثقافة وافتقارها إلى مرجعية رصينة. وكأنّ مجرّد موالاة الخيار العلماني أو الخيار الديني، على مستوى لفظي، كاف لبلوغ الخلاص. والحــــال أن التحزّب السطحي، على ما نحن عليه، هو حلّ مضلّل لِما يخلّفه من هدر للطاقات دون وعي بعمق المسألة. فليست العلمانية في الغرب حلّة سحرية، بمجرّد أن ترتديها الشعوب والجماعات تحلّ عليها بركتها، وإنما هي رؤية ثقافية وخطّة ليفضّ الناس خلافاتهم بحكمة وروية، وحتّى يجدوا سبيلا للتفاهم بين بعضهم البعض. فقد أرسى القوم نهجا تواضعوا عليه بينهم، يراعي مجمل الأطراف، ولنُطلق على ذلك التوافق ما نشاء «علمانية» أو «فهمانية» أو «حكمانية» أو «عيشانية»، ولكنه يبقى سبيلا عمليا لتجاوز التدافع المقيت داخل المجتمعات وفضّه بطريقة حضارية. وبالتالي يقتضي النموذج الثقافي التونسي المنشود الخروج من طور أوهام التغيير الإيديولوجي إلى طور حقائق التغيير العملي بعيدا عن المهاترات اللفظية. ذلك أنّ كثيرا من المؤسّسات الثقافية الرسمية في تونس هي مؤسّسات ينخرها سوس البيروقراطية، وهي تجمّعات لشغّيلة رثّة تتلقّى رواتب، وبالكاد تتمّ مهامها الإدارية، وهي دون القدرة على إنتاج ثقافة مجتمعية حيوية. إذ لا تخلو البلاد من وزارات وهيئات مكلّفة بشؤون الثقافة والإعلام، وقد تحولت فيها جحافل الموظفين والإداريين والساهرين إلى أخطبوط متحكّم بمفاصل الثقافة دون إنتاج ثقافة. ودائما ضمن تلمّس ملامح الطور الجديد، يتأكّد بعد تراجع الأنماط الثقافية المؤدلجة والمسيَّسة أن الرهان على الطروحات الثقافية ذات الطابع العقلاني والعلمي، بوصفها الأقدر على مسايرة التحوّلات والأكثر قبولا عند مخاطبة العالم، هي الأوفر حظّاً. فالثقافة التونسية ينبغي أن تكون إنسانية الملامح حتى تحوز مكانة في المسرح العالمي وحتّى لا تنحصر في عزلة قاتلة.
وضمن هذا التطلّع لبناء سياسة ثقافية جديدة، من المفتَرض أن تلعب الأوساط الأكاديمية التونسية دورا رياديا في صياغة النموذج الثقافي المرجوّ، غير أن وعود إسهامها في هذا الجانب ضئيلة وهامشية. ولطالما عزونا الأمر في السابق إلى التّهميش السلطوي المقصود للمثقّف، وإلى مناخ الدكتاتورية السائد، وهي في الحقيقة تبريرات نسبية، تستّرنا بها عن العياء الذي يشل الأكاديمي التونسي، بعد أن بات همّه الترقي في سلّم الوظيفة، ومضاعفة الراتب، دون بذل جهد علمي حقيقي، بل سبيله إلى ذلك الأقدمية والشللية والولائية، وغيرها من سبل النطّ السريع. هذا الوضع الطاغي في الساحة الأكاديمية غالبـــا ما يخلّف إحباطا وفتورا، لذلك قلّة من الأكاديميين من يشتغلون داخل الجامعة وخارجها، لأجل النهوض بالثقافة. فواقع الحال يكشف أنّ ثمّة عطالة أكاديمية متفشّية سلبت الجامعي إمكانيات المساهمة في تطوير المجال الثقافي وتحويره.
عز الدّين عناية
- اكتب تعليق
- تعليق