عامــر بوعــزّة: عن الشّعر والسّلطة والثّورة
ستحوذت أيـّام قـرطاج الشعرية مثلما كــان متــوقّعــا على كثــير مـــن الاهتــمــام، لا فقط لكونها تمثّل حجر الأساس للمحتوى الإبداعي في مدينة الثّقافة، وإنّما لما أحدثته في نسختها الأولى من أثر مدوّ حرّك السّواكن وأيقظ النوّم، فانقسمت دولة الشّعراء بين من يرحّب بهذه الأيام ومن ينتقدها، ولذلك أسبـــاب لا تتّصل فحسب بالتنظيم المادّي بل بطبيعة الشّعر التونسي -الآن وهنا- وما يعتمل داخله من تدافع بين الأجيال والاتّجاهات.
تتسم التّجــربة الشّعــرية في تونــس بالثّراء والتنـــّوع، فهــي تُغـطّي كلّ ألـــوان الطّيــف الشّعــري، وتحتوي التّجــاذب المألــوف بين النّزوع إلى الكـلاسيكية والتعلّق بهاجس التّجاوز المستمرّ تحت طائلة الحداثة وما بعدها، هكذا تتدافع التّجارب الشّعرية في حـــركة صراع لا تتـــوقّف، وقد أصبح بعض حداثيي الستينات والسبعينات كلاسيكيين لضمور تجاربهم وتراجع فورتها، أو تحت ضغط الإقصاء الذي يمارسه المتمرّدون الجــدد والـــرّوح الصّدامية التي يتسلّحـون بها في مواجهة مراكز القوى التّقليدية في السّاحة الشعرية، نقرأ في ملفّ مُخصّص لشعراء الألفيّة الجديدة نشرته مجلة الحياة الثقافية في عددها لشهر مارس 2018 تصوّرا للحالة الشعرية في لحظتنا هذه يقول فيه سفيان رجب أحد المتحدّثين باسم الموجة الجديدة محاكما فترة التّسعينات: «في نهاية الثمانينات من القرن المنقضي، بدأت الأدوار تتوضّح، وبدأنا نعرف حاكم الأرض الجديد وهو يلقي خطبه الواعدة بالجنّة والسعادة الدنياوية، ويدور على العالم الثالث ليُغيّر فتريناته السياسيّة. كان الشّاعرُ وقتها مُشوّش الحواسّ، لا يعرف هل يكتبُ نصّه تحتَ أنصاب زعمائه الغابرين أم يتحوّل إلى قاذف حصى على الفيترينات البلورية الجديدة. وكان جهد السياسيّ ينصبّ في تركه داخل بيضة النّصّ». وانطلاقا من هذا التشخيص يقدّم الكاتب الشعراء الجدد بوصفهم قد كسّروا قشرة البيض التي يريد السياسي أن يسجنهم داخلها ويعتبر أن الشّعر في تونس الآن، «قد خرج من بيضة النّصّ، وتخلّص من وهم الحرب الدّنكيشوتية ضدّ القصيدة التقليدية، تخفّف من بدلاته الرّسميّة، وخرج إلى الشارع بالدّجين الممزّق والقمصان الضّيقة، اقترب أكثر من حياة النّاس، ركب الميتروهات والحافلات...وكتب شعاراته بالقرافيتي على الحيطان»، هذا التوصيف الثوري للحالة الشعرية يردّد من غير أن يدري ربّما صدى ثورة شعراء طلائعيين مثل محمد الحبيب الزناد والطاهر الهمامي وصالح القرمادي الذين ولدت نصوصهم من معايشة ماسحي الأحذية والفقراء والنازحين في شوارع العاصمة والأرياف النائية وتشرّبت روح الحياة اليومية بشتّى تحوّلاتها في المجتمع التونسي بعد فشل تجربة التّعاضد وبداية مرحلة الانفتاح الاقتصادي مطلع السّبعينات بكلّ ما تحمله مباهج الحياة الرّأسمالية من قيم جديدة ثار ضدّها شعراء المرحلة. وثورة الشّعراء الجدد وإن كانت كما يقول النص الإطار لا تتّجه إلى القصيدة التقليدية فهي تمثّل مواجهة مفتوحة مع السلطة بكل رموزها، تبدأ هذه الثّورة من بلاغة النص، يقول وليد تليلي في نص بعنوان «أنا الآخر الذي يقول عنه سارتر الجحيم»: «أنا أتقن إشعال الحرائق فقط ولا شيء غير ذلك، حائطي صار حانة كبيرة بلا مرحاض وبلا كونتوار وبلا تعريفة على الجدار، هناك فقط باب مخلوع ونافذة صغيرة تتسرّب منها القصص والعقد القديمة طوال الوقت، ولا شيء آخر سوى مروحة معلّقة في السّقف تتدلّى منها جثث المثقّفين وأعوان السّلطة». وتتجسّد الثّورة في محاولة البحث عن مفهوم جديد للشّعر خارج المفاهيم التقليدية، يقول صابر العيسي في مساهمته ضمن ملفّ أنجزته مجلة الجديد تحت عنوان: «هل غادر الشعراء من متردّم»: «أن تكون شاعرا هو أن تخلع قلبك باستمرار وتطعمه لفقراء العالم، الذين لا بدّ أن يزحفوا من الأرض قاطبة في اتّجاه وول ستريت، لأنّ الخــطاب الجمالي يتراجع على وقع أظلاف الخطاب السياسي الذي يحتكر القبح المتجلّي في أشكال من الحروب التي لا تحصى. ههنا ينهض الخطاب الشعري الجمالي لينتصر للمعنى في زمن الانهيارات الكبرى».
تتّضح أكثر ملامح هذا التمرّد الشعــري في بيانات «حركة نص» حيـــث تتلازم الكتابة والثورة، يقول عبد الفتاح بن حمودة في بيان بعنوان الحركة/النص/الثورة: «الحركـــة فعل تحــرّر من القيود والمشتَرَكِ. وكلّ حــركـــة لا تحمل ثورة هي سكون وعدم وموت وفناء وانتفاء». هذه الحركة التي أسّسها مجموعة من الكتّاب في العـــام 2011 وإن كان يغلب على كتّابها الانتماء إلى قصــيدة النّثر فإنّها تقوم على الاختلاف الإبـــداعي والتحرّر من كــلّ أشكـــال التحـــزّب الفــنّي، بما يجعلهـا لا تمثّل تيّارا إبداعيّا بل تبدو أقرب إلى التنظيم المتنطّع عن سلطة المؤسّسات القائمة، وقد رأى الشّاعر الفلسطيني عمر شبانة في مقال نشره بمجلة «الحياة» أنّ هذه الحركة تشهد قدراً من المبالغة في إمكاناتها، والانفعال في طريقة أدائها، وفي إدارة حواراتها مع «الآخر» الذي يختلف عنها ومعها، الأمر الذي يتطلّب في رأيه مقداراً من الانفتاح على التّجارب السّابقة، أكبر ممّا يعتقــد مؤسّسوها».
في خضمّ هذه المواجهة المفتوحة من جانب واحد بين الأجيال الشّعرية المختلفة في تونس، وفي غيــاب حــركة نقـــدية حقيقية تمحّص الاختلافات بين هذه الأجيال وتحدّد مكامن القوّة في التّجارب الإبداعية الجديدة التي تراهن على الاختلاف والتمايز انتظمت النسخة الأولى من أيّام قرطاج الشّعرية وأشرف على تنظيمها والتّحكيم فيها أكاديميون لا تعرف لهم دراسات نقديّة عن الشّعر التونسي، ومن المعروف أنّ الجامعة اهتمّت بالسّرد أكثر لكنّها ظلّت عالقة فترة طويلة في برنس الشّابي، وهي التي أسهمت في جعله شجرة عملاقة تحجب غابة من الشّعراء وارفة الظّلال، وباستثناء بعض الجامعيين المعروفين بانحيازهـــم إلى التّجربة الشّعرية التونسية تظلّ المسافة دوما بعيدة بين الشّعر والجامعة، فلم تكن ردود الفعل الغاضبة التي عبّر عنها عدد غير قليل من الشعراء إزاء هذه الأيام الاّ ردّ فعل إزاء الشكل الاحتفالي التقليدي الذي ظهرت به، وهو غضب حريّ بأن يؤخذ بعين الاعتبار لأنّه يتّصل بهويّة هذه الأيام وأهدافها بعيدة المدى، كما تؤثّر في نوع العلاقة الممكنة بين المدينة وقطاع عريض من المبدعين المتمرّدين الثائرين على السلطة. إنّ الطابع التقدّمي الثّوري للسينما والمســرح التونسيين يعــود في جزء منه إلى أيّام قرطاج بوصفها منصّة للتّجريب والتّعريف بالتّجـارب الرّائدة، وكان من الضّروري أن تنفتح الأيّام للشعراء الذين كسّروا قشر البيضة وغادروها وأن تحتوي تمرّدهم وثورتهم تناغما ومقتضيات اللحظة التي يعيشها المجتمع التونسي.
عامــر بوعــزّة
- اكتب تعليق
- تعليق