الحبيب الدّريدي: فـي البحــث عــن النّســق الضّائع
ما يزال عموم التّونسيّين يشعرون بأنّ الوضع العامّ في البلاد ليس على أحسن ما يرام. صحيح أنّهم يعيشون منسوبا عاليا من الحريّة في التّعبير والتّنظّم والتّظاهر، وصحيح أنّ الحكومة الحاليّة تُبدي قدرا من الشّجاعة في الإقدام على إصلاحات حقيقيّة وإن كانت مؤلمة، ولكنّ المشهد السّياسيّ عند شريحة هامّة من الرّأي العامّ مشهد مُنفّر، وأداء الأحزاب في نظرها مخيّب للآمال بما جعل الاهتمام بالشّأن السّياسيّ يتضاءل يوما بعد يوم والثّقة في الطّبقة السّياسيّة تكاد تنعدم. أمّا الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ فمازال مبعث قلق وتوجّس، إذ أنّ ملفّ التّشغيل يظلّ معضلة مؤرّقة، والمقدرة الشّرائيّة لسائر الفئات تتراجع باستمرار، وما يُعلَن هنا وهناك عن مؤشّرات الوضع المالي والاقتصادي لا يزيد التّونسيّين إلّا حيرة وخوفا من المستقبل. يُضاف إلى ذلك استحكام عقليّة الفوضى والانفلات التّي تعبّر عنها بين الفينة والأخرى إضرابات عشوائيّة وتحرّكات احتجاجيّة غريبة.
كلّ ذلك يدعو إلى البحث عن الأسباب العميقة التّي أفضت إلى هذا التّردّي، فلا بدّ أنّ هناك اختلالا ما لم يقع تصويبه وتقويمه ولا بدّ أنّ هناك موطن داء لم تقع معالجته وإصلاحه. إذ يبدو أنّ الأمر أبعد عن مجرّد أزمة اقتصاديّة هيكليّة أو تحوّل سياسيّ لم يستكمل مفرداته ولم يحقّق رهاناته أو طبيعة المراحل الانتقاليّة في التّجارب الثّوريّة وما شابه ذلك من التّحاليل التّي باتت أقرب إلى الإنشاء واللّغة الخشبيّة منها إلى محاولة تدبّر الواقع وفهمه. تشير كلّ عناصر الواقع السّياسيّ والاجتماعي اليوم إلى أنّنا إزاء مشهد يفتقر إلى بنية تنتظم أجزاءه ويشكو غياب نسق système يلتئم مكوّناته، فالإعاقة الأولى تتمثّل في أنّ البلاد شهدت حركة تفكّك لم تعقبها حركة إعادة تشكّل. لقد تكوّنت على مدى عقود بنية نسقيّة قطبها المركزيّ هو الدّولة سُلطاتٍ ومُؤسّساتٍ وهياكلَ وقوانينَ، وصاغت هذه البنية نسيجا متماسكا فيه من المحامد والمحاسن بقدر ما فيه من العيوب والمساوئ ولكنّه يمثّل رغم كلّ شيء نسقا منسجما.
ولا شكّ في أنّ 14 جانفي 2011 كان حدثا فارقا لم تسقط بمقتضاه منظومة حكم فحسب وإنّما تفكّكت بنية سياسيّة و سوسيو- ثقافيّة فانحلّ نسيجها وانفرطت حبّاتها. إلّا أنّ هذا التحوّل السّياسيّ، وقد جرى على نحو سريع ومباغت، لم تكن له القدرة على إرساء بنية بديلة وإحلال نسق جديد لأسباب موضوعيّة منها ما يتّصل بطبيعة التّحـرّك الذّي أدّى إلى إسقــاط النّظام ومنــهــا ما يتّصل بخصائص السّياق الإقليمي والدّولي الذّي اكتنفه، فلسنا بحاجة إلى تجشّم البرهان على أنّ «الثّورة» لم تكن لها قيادات ولا برامج ولا أطروحات متماسكة ولا بدائل حقيقيّة، ثمّ إنّها اندرجت – كما هو معلوم – في إطار أجندا دوليّة تهدف إلى فرض تغييرات جيو- سياسيّة جذريّة في المنطقة. وعلى هذا النّحو فإنّ تفكيك النّسق القديم لم يواكبه تشكيل نسق جديد ناشئ ممّا أنتج ضربا من الفراغ الهائل، ولمّا كانت الطّبيعة تأبى الفراغ فقد ظهرت بشكل تدريجيّ أنساق هامشيّة وبُنى وكيانات موازية للدّولة منفصلة عنها، لا تعمل في إطارها ولا تتحرّك لفائدتها ولا تحمل لواءها، وقد اكتست هذه الكيانات صورا مختلفة، فمنها ما اتّخذ شكل الحزب السّياسيّ، ومنها ما استتر بغطاء العمل الجمعيّاتي، ومنها ما أعلن عن نفسه في بعض التّجمّعات القطاعيّة والمهنيّة ، ومنها ما اصطبغ بصبغة شبكة التّهريب، ومنها ما كان يُمثّل بعض قوى السّوق والأثرياء الجدد (وقد كشفت حملة مقاومة الفساد جانبا من هذه الكيانات وارتباطاتها).
وهكذا لم نعد إزاء نسق متكامل له نظامه ومحاوره ونقاط استدلاله وإنّما إزاء أجسام هامشيّة صغرى أخذت بمرور الوقت تتضخّم وتتحوّل إلى مجموعات ضغط ومعــاول لهـدم ما تبقّى من الدّولة une subversion de l’Etat، فهي تتحرّك وتشتغل لتحقيق مصالح ضيّقة حزبيّة أو فئويّة أو إيديولوجيّة أو قطاعيّة بمعزل عن خيارات الدّولة وبرامجها وأهدافها لأنّ القاعدة التّي تقود مواقفها وتحرّكها ليست قاعدة «الصّالح العامّ» le bien public وإنّما قاعدة «المواقع والمنافع». وظهرت علامات كثيرة على تفكّك النّسق التّي تمثّل الدّولة محوره الأساسيّ منها انهيار المرفق العامّ في الإدارة والصّحّة والتّعليم، وتردّي وضعيّة عديد المؤسّسات والمنشآت العموميّة في قطاعات حسّاسة مثل النّقل والطّاقة وغيرها، وتراجع أداء الإدارة الجهويّة والمحليّة ونزول مؤشّرات الإنتاجيّة في القطاع العامّ إلى أدنى مستوياتها. وعمّق النّظام السّياسي الذّي أقرّه دستور جانفي 2014 هذه الأزمة فارتهن الحكومة للبرلمان كليّا وكبّل طاقتها على المبادرة والتّحرّك.
أمّا في المجال السّياسي فإنّ ظواهر عديدة تدلّ على أنّ رهان الطّبقة السّياسيّة ليس تقديم التّصوّرات الكفيلة بإخراج البلاد من أزمتها وإنّما كسب معركة المواقع والمنافع، لذلك صرنا نرى مفارقات عجيبة وانقلابا في الأدوار فبعض أحزاب الحُكم تعارض الحكومة أحيانا وبعض أحزاب المعارضة تساند الفريق الحاكم، وجلّ التّعيينات لا تراعي مقياس الكفاءة التّقنيّة والقياديّة وإنّما تستند إلى الولاء الحزبيّ دون غيره من المعايير، وشاع في الاصطلاح السّياسي ما سُمّي بالتّوافقات ولم تكن في الحقيقة سوى محاصصات وترضيات لا يخفى ما تبطنه من مقايضة وابتزاز بعضه مُعلَن صريح وبعضه الآخر مُضمَر ضمنيّ، كلّ ذلك على حساب المصلحة العليا للدّولة ونجاعة أداء مؤسّساتها وهياكلها. ثمّ إنّ الجدل السّياسيّ لم ينعقد على عرض البرامج والأفكار والاستراتيجيّات ومناقشتها بل انصرف في الغالب الأعمّ إلى مسائل جانبيّة ومماحكات وسجالات هي أقرب إلى المهاترة منها إلى الخطاب المخصب والبنّاء.
والمحصّل أنّ الاهتمامات عند هذه الكيانات الهامشيّة ليست موجّهة إلى الحفاظ على الدّولة وضمان هيبتها وتعزيز أركانها وخدمة مصالحها وإنّما إلى انتهاز حالة التفكّك والانحلال للاستحواذ على جانب من شوكتها ونفوذها والاستئثار بأكبر نصيب من رَيْعها ومن سلطتها الاعتباريّة والرّمزيّة. ولذلك فإنّ الشّعور العامّ الذّي تمتزج فيه خيبة الأمل بالقلق والتّشاؤم مردّه إلى اختلال في النّسق وفي البنية، فالهامشيّ والموازي والفوضوي مازال يتفوّق على المُمَأْسس والمنظّم والمقَنَّن، ومنطق « المواقع والمنافع» مازال يهيمن على منطق الصّالح العامّ، وشبكات الدّولة العميقة مازالت تنازع أنسجة الدّولة العريقة.
ومن هذا المنطلق فإنّ الإصلاح الحقيقيّ – في تقديرنا- يبدأ من إعادة تشكيل النّسق العامّ الذّي ينتظم الحياة الوطنيّة وإعادة صياغة البنية التّي تلتئم العلاقات بين مختلف مكوّناتها على الوجه الذّي تستعيد فيه الدّولة مكانتها المحوريّة وموقعها المركزيّ وتسترجع مؤسّساتُ الدّولة وأجهزتُها وهياكلُها علويَّتَها فتتمكّن من بسط نفوذها وفرض سلطتها وإنفاذ قوانينها. وهو شرط ضروريّ ليُتاح لسائر مكوّنات المجتمع النّهوض بأدوارها في إطار منظّم وديمقراطيّ. وإذا نجحت كلّ القوى الوطنيّة في إعادة تشكيل النّسق الذّي تكون الدّولةُ قطبَه المكين والمجتمعُ المدنيّ دائرتَه المتينة والمصلحةُ الوطنيّةُ هدفَه الأسمى فإنّ ذلك سيكون المدخل الأمثل لتعافي البلاد من العلل التّي تحول دون استقرارها الكامل ومضيّها بلا تعثّر في طريق الإقلاع.
الحبيب الدّريدي
- اكتب تعليق
- تعليق