تونس: الجامعات الخاصّة والبحث عن القيمة المضافة
للتعليم العالي الخاصّ في تونس، من العمر 17 سنة تقريبا. هو اليوم مكوّن أساسي لمنظومة التعليم العالي التونسي الذي لم يعد حكرا على القطاع العمومي بل أصبح يتكوّن من جناحين: عمومي وخاصّ، حتى أصبح التساؤل السائد اليوم: هل سيصبح التعليم العالي الخاصّ منافسا للعمومي أم سيكون شريكا له فحسب؟
وفّرت تونس منذ الاستقلال تعليما عاليا عموميا مجانيا لأبنائها. ومواكبة لتطور التعليم العالي في العالم فتحت الدولة المجال للتعليم العالي الخاصّ ليوفّر مقاعد للطلبة التونسيين والأجانب الراغبين في مواصلة تعليمهم تحت رايته ويعاضد المجهود المبذول في هذا القطاع ممّا ساهم في التخفيض من نفقاتها. انطلق التعليم العالي الخاصّ سنة 2000 ونظّمه القانون عدد 73 لسنة 2000. وفي سنة 2008 تمّ تنقيحه بالقانون عدد 59 لسنة 2008 الذي عدّل فيه بعض الأمور مثل الرفع في قيمة رأس مال الشركات الباعثة وتخفيض نسبة مساهمة الأجانب في رأس مالها وتحديد شكل المؤسسة الخاصّة لتكون إمّا كلية أو معهدا عاليا أو مدرسة عليا. وقد تطوّر عدد مؤسسات التعليم الخاصّ من 10 سنة 2000 إلى 74 اليوم يؤمّها جميعا أكثر من 32 ألف طالب ويبلغ عــدد الـطلبـة الأجــانب فيهـــا حــوالي 5 آلاف طالب.
واقع التعليم العالي الخاصّ
لقي التعليم الخاص منذ انطلاقه صعوبات خاصة لا سيّما عندما ربط المنتقدون بينه وبين التعليم الثانوي الخاصّ الذي كان آنذاك ملاذا للفاشلين في التعليم العمومي، لذلك لم يقبل عليه الطلبة وبلغ عدد المسجّلين فيه في البداية 530 طالبا إلا أنّ هذه التجربة شقّت طريقها نحو الانتشار شيئا فشيئا بفضل مثابرة أصحابها ومتابعة الإدارة وتنقيح قانون بعث المؤسّسات الخـاصّة وكذلك بفضل الدعـم الذي لقيته من الأولياء والطلبة الذيـــن تغيّرت نظرتهــم إليه بفضــل نجاح خرّيجي التعليم الخاصّ في سـوق الشغـل.
وتنتصب مؤسّسات التعليم الخاصّ في المدن الكبرى وخاصة تونس الكبرى وسوسة بينما لا توجد أيّ مؤسسة في الشمال الغربي وتوجد مؤسسة واحدة في الجنوب الغربي في قفصة.
وتوفّر المؤسّسات الخاصّة عديد الشعب والاختصاصات الدراسية بالخصوص تلك التي تجد إقبالا شديدا في التعليم العمومي ممّا يتيح للطلبة إمكانية الحصول على عدة إجازات وشهادات وطنية مؤهّلة ومعترف بها. وتتصدّر الهندسة عدد المسجّلين في التعليم العالي الخاص بنسبــة 37% يليها الاقتصاد والتصرّف بنسبة 23% ثم العلوم شبه الطبية بنسبة 22%.
عوامل نجاح التعليم الخاصّ
ساهمت عدّة عوامل في نجاح تجربة التعليم العالي الخاصّ في تونس ممّا أدّى إلى زيادة ملحوظة في عدد الطلبة الملتحقين به رغم أنّ تكاليف الدراسة باهضة إذ تتراوح في المعدل بين 6 و 8 آلاف دينار في السنة وتصل إلى 10 آلاف أحيانا ، علما أنّ القانون المنظّم للقطاع لا يحدّد سقفا لمعاليم الدراسة التي تبقى من مشمولات المؤسّسة الخاصّة مع شرط ألاّ ترفع من المعاليم بأكثر من 5% سنويا طيلة دراسة الطالب (الفصل 20 من القــانون عدد 73) ومن أهمّ العوامل نذكر الموقف الإيجابي للطلبة وأوليائهم من التعليم العالي الخاص في السنوات الأخيرة. وحسب «سامي» طالب في الهندسة في جامعة خاصّة فإنّ سبب التحاقه بالتعليم العالي الخاصّ يعود إلى عدم حصوله على رغبته الدراسية ألا وهي الهندسة عند توجيهه بعد حصوله على البكالوريا لأنّ منظومة التوجيه الجامعي العمومي حسب رأيه لا تسمــح للناجحين في البكالوريا بمتابعة اختصاصات التعليم العالي التي يرغبون فيها ويحلمون بها بسبب اعتماد آلية ترتيب الطلبة حسب مجموع النقاط وتعطى البقاع لأفضل مجموع، فيجد الطالب ضالته في التعليم العالي الخاصّ باختيار الاختصاص الذي يريد. وأشار إلى أنّ عددا كبيرا من زملائه جاؤوا إلى التعليم الخاصّ لهذا السبـب. أمّا «مهدي» فقال إنّه اختار التعليم العالي الخاصّ بعد حصوله على الإجازة في الإعلامية لرغبته في الحصول على شهادة مهندس لأنّ التعليم العمومي لا يسمح بذلك إلاّ لأقليّة من الحاصلين على الإجازة، مضيفا أنّ المؤسسة الخاصّة تتميّز عن المؤسّسة العمومية بنوعية الفضاء والتجهيزات المتوفّرة والخدمات المقدّمة وجودة الدراسة التي تعتمد على التكوين التطبيقي الذي يحتاجه الطالب في سوق الشغل بعد التخرّج إضافة إلى التكوين باللغة الإنڤليزية. ولاحظ أنّ المؤسسة التي يدرس فيها منفتحة على سوق الشغل وتدعم طلبتها في التربّصات داخل الوطن وخارجه. وتذكر بعض الإحصائيات المتداولة لدى الطلبة أنّ نسبة تشغيلية خرّيجي التعليم الخاصّ في بعض الاختصاصات هي نسبة عالية مقارنة بالتعليم العمومي بل ويؤكّد «مهدي» أنّ كلّ خريجي المؤسّسة التي يدرس فيها حصلوا على شغل وبسرعة. لذلك لا يؤمّ التعليم الخاصّ اليوم أبناء الميسورين فحسب بل نجد أيضا أبناء الموظفين وشرائح اجتماعية أخرى لأنّ التونسي يراهن على الاستثمار في دراسة أبنائه ولا يتأخّر عن دفع مبالغ هامّة من أجلهم بل نجد أنّ عديد الطلبة قدموا إلى العـاصمة مـن مناطق داخـل الجمهـورية ويتحمّـل أولياؤهم مصاريف إضافية تتعلّق بالسكــن ومصارف الإعـاشة.
مراقبة جودة التكوين
ومنذ انطلاق التعليم العالي الخاصّ طُرحت مسألة جودة التكوين فيه ومدى ملاءمته للبرامج الرسمية المعتمدة من طرف وزارة التعليم العالي وللنصوص الضابطة لنظام الدراسات وشروط الحصول على الشهادة الوطنية. وتحسّبا لأيّ تجاوزات خصّصت كراس الشروط المنظّمة للقطاع بابها الثالث لتحديد الشروط الواجب اتّباعها بخصوص نظام الدراسة والمواد المدرّسة مطابقة سواء أكانت للتعليم العمومي أم لا. ولضمان الجودة أيضا جاء الباب الثاني من كراس الشروط ليحدّد شروط انتداب إطار التدريس القارّ أو الاستعانة بمدرّسين عرضيين وكيفية تأمين التأطير الجيّد للطلبة. وتشغّل المؤسّسات الخاصّة أساتذة قارّين من حملة الدكتورا وأساتذة عرضيين من أساتذة القطاع العمومي. وتقول الأستاذة الجامعية السيدة «س» إنها تدرّس في التعليم العمومي ولها ترخيص للتدريس في القطاع الخاصّ، مؤكدة أنّ المحتوى الذي تدرّسه في القطاع العمومي هو نفسه الذي تدرسه في القطاع الخاصّ.
وتخضع الوزارة كلّ ذلك لمراقبة قبلية وبعدية لضمان تطبيق كراس الشروط. وهذا يضمن التكوين الجيّد المنتظر من الطلبة وأوليائهم. لكن هذا لا يعني عدم وقوع تجاوزات، وإن وجدت فهي قليلة حسب صاحب مؤسّسة جامعية خاصّة. وتخضع البرامج المدرّسة لتقييم وزارة التعليم العالي ومراقبتها مثلما يجري مع التعليم العمومي.كما أنّ الشهادات التي يحصل عليها طلبة التعليم العالي الخاصّ معترف بها لأنّها تخضع للمعادلة من وزارة التعليم العالي. ويؤكّد لنا أستاذ جامعي وصاحب مؤسّسة خاصة أنّ المعادلة الوطنية أساسية لكن يجب أن تكون الشهادة مصادقا عليها عالميا من مؤسسات المصادقة المعروفة ويحصل ذلك عندما تحترم المؤسسات الخاصة المعايير الدولية في جودة التدريس.
إقبال الطلبة الأجانب
وممّا ميّز التعليم العالي الخاصّ في الفترة السابقة إقبال الطلبة الأفارقة عليه حتىّ بلغ عددهم حوالي 12 ألف في وقت من الأوقات، ممّا وفّر لتونس عائدات مالية محترمة من العملة الأجنبية وأعطى صورة ناصعة عن التكوين الأكاديمي التونسي في الخارج .وسألنا «إيمانوال» وهو طالب من الكوت ديفوار يدرس في اختصاص الهندسة المعمارية عن سبب اختياره تونس للدراسة الجامعية فقال: «اخترت قبل بضع سنوات الدراسة في تونس لأنّ الدراسة فيها تتمّ باللغة الفرنسية ولأنّ للبلاد سمعة أكاديمية طيّبة في إفريقيا ونظرا كذلك لكفاءة الموارد البشرية التي تتخرّج من المؤسّسات التونسية وسهولة انتدابها في سوق الشغل». أمّا «جوليان» وهو طالب من الكامرون يدرس إدارة الأعمال فقال إنّ سبب اختياره تونس للدراسة يعود إلى نوعية التعليم في المؤسّسة الخاصّة التي يدرس بها وجودته وقيمة التأطير فيها وهو ما لا يتوفّر في بلداننا الإفريقية حسب رأيه، مؤكّدا أنّ اعتراف الدولة بالشهادات التي تمنحها المؤسسات الجامعية الخاصّة يعتبر معيار اختيار مهم بالنسبة إليه ثم إنّ تكاليف الدراسة في تونس مناسبة مقارنة بالدراسة في فرنسا أو بلجيكا التي كان الطالب من بلاده يواصل تعليمه الجامعي فيها.وأشار إلى أنّ بعض أصدقائه اختاروا الدراسة في جامعة فرنسية منتصبة في المغرب.
بعث الجامعات الأجنبية
وفي المقابل نلاحظ غياب المؤسّسات الجامعية الأجنبية في تونس ما عدا واحدة تعمل بالشراكة مع مؤسسة تونسية ففي بعض الدول العربية في الخليج والمغرب تمّ تشجيع الاستثمار في هذا المجال وفتح المجال لانتصاب عدّة مؤسّسات جامعية أجنبية لديها من كبار الجامعات الفرنسية والأمريكية والبريطانية. والقانون في تونس يسمح بذلك بشرط أن تكون 65% من أسهم الشركات الباعثة مملوكة لتونسيين بمعنى أنّ نسبة مساهمة الأجانب في رأس مال تلك الشركات لا تتجاوز 35%. ويبدو أنّه سبب من أسباب عدم انتصاب المؤسسات الجامعية الأجنبية في تونس .ويدعو صاحب المؤسّسة الجامعيّة الخاصّة اليوم إلى دعم الشراكة مع المؤسسات الأجنبية من أجل تبادل الخبرات وتبادل الطلبة والمدرسين ويعتبر أنّ انتصاب المؤسسات الأجنبية في تونس أمر مهمّ ويمثل فرصة للتنافس والتفاعل معها ممّا يعود بالنفع على تكوين الطلبة.
وأخيرا يبدو واضحا أنّ التعليم العالي الخاص ساهم بقسط وافر في دعم التعليم العالي العمومي وتحمّل معه أعباء القطاع وفتح باب الأمل أمام عديد الشبان الذين ارتقى بقدراتهم ونمّى معارفهم فحقّقوا فيه رغباتهم وحصلوا على شهادات علميّة معترف بها وطنيا ودوليا. لكنّه إضافة إلى الدعم يبقى منافسا للتعليم العمومي لا بديلا عنه بسبب الفضاءات التعليمية والتجهيزات الجيّدة ونوعية التكوين التي يوفّرها للطلبة والتزام أغلب المؤسّسات بتبنّي مبدإ الجودة في التكوين واحترامه .ولعلّ الهدف الاستراتيجي للتعليم العالي اليوم يتمثّل في فتح باب الشراكة بين التعليم العمومي والتعليم الخاصّ ممّا سيفيد القطاعين على حدّ سواء ويدفع التعليم العالي عموما نحو مزيد التطوّر إذ لدينا في النهاية تعليم عال واحد باحترام نفس قواعد العمل ومعايير الجودة العالمية في التدريس والتكوين.
معطيات وإحصائيات
- يبلغ عدد مؤسّسات التعليم الخاص اليوم 74 مؤسسة (كانت 10 سنة 2000 ).
- يدرس بها حوالي 32 ألف طالب منهم 5 آلاف طالب أحنبي.
- يمثل طلبة التعليم العالي الخاصّ حوالي 12% من إجمالي عدد الطلبة في التعليم العالي العمومي.
- تتصدّر شعبة الهندسة عدد المسجّلين بنسبة37 % يليها الاقتصاد والتصرّف بنسبة 23% ثم العلوم شبه الطبية بنسبة 22 %.
- مؤسسات التعليم الخاص موجودة في 10 ولايات فقط (تونس الكبرى وصفاقس وسوسة والمنستير ونابل وقابس والقيروان وقفصة).
- 90% من المؤسسات منتصبة في تونس الكبرى وسوسة.
- يعمل في المؤسسات الخاصّة 1225 مدرّسا قارّا (حسب إحصائيات 2016) من بينهم 40% من حاملي الدكتورا و3926 مدرّسا عرضيا ينتمي أغلبهم إلى قطاع التعليم العالي العمومي.
- يعمل بمؤسّسات التّعليم الخاصّ حوالي 1000 موظف.
- المسالك الدراسية المتوفّرة في تلك المؤسسات هي خاصّة الاقتصاد والتصرّف والحقوق والهندسة والهندسة المعمارية والعلوم شبه الطبية، إضافة إلى بعض الاختصاصات الأدبية والإنسانية وفي اللغات وفي الفنون الجميلة وفنون الحرف.
- الشهادات المتوفرة: الإجازة الأساسية أو الاجازة التطبيقية أو الشهادة الوطنية لمهندس أو الماجستير المهني أو الشهادة الوطنية لمهندس معماري.
- تطوّر عدد خرّيجي التعليم العالي الخاص من 5278 متخرّجا سنة 2014 إلى 7080 متخرّجا سنة 2016.
الإشكالات والمقترحات
- بطء في إصلاح منظومة التعليم العالي والبحث العلمي والتعليم العالي الخاصّ بصفة خاصة في علاقة بحريّة المبادرة كمبدإ دستوري.
- عدم مراجعة النصوص القانونية المنظّمة لقطاع التعليم العالي الخاصّ.
- قرار التحكّم في تسمية المؤسّسات الخاصّة بحيث تقتصر على كلية أو معهد أو مدرسة عليا ولا تكون جامعة . وكذلك منع فتح فروع للمؤسّسات الخاصّة في الجهات والسماح فقط بفتح مؤسسات جديدة في الجهات برأس مال جديد وبترخيص جديد.
- هناك تضارب في النصوص القانونية المتعلقة بالرخص التي تعطى للأساتذة الجامعيين للتدريس في التعليم الخاصّ . فلا يرخّص للمدرّس إلا بساعات قليلة للتدريس .
- غياب نصّ قانوني خاصّ بالتعليم العالي الخاصّ يتعلّق بالتصرّف في الحياة المهنية للمدرسين العاملين بصفة قارة في التعليم الخاصّ من حيث المسار المهني والترقيات لذلك هناك عزوف من بعض المدرّسين عن الالتحاق بالتعليم الخاصّ لانعدام الآفاق المهنية وحتى من يلتحق بالتعليم الخاصّ من الأساتذة الحاصلين على الدكتورا يغادره عندما يحصل على خطّة في التعليم العمومي
- عدم توفّر مدرسين من صنف «أ».
- غياب أنشطة البحث العلمي والنشر.
- عدم حصول الباعثين في القطاع على الامتيازات المالية والجبائية والاجتماعية التي يخوّلها القانون للباعثين المستثمرين في هذا القطاع ولم تنتفع المؤسسات إلاّ بشراء التجهيزات دون خلاص الأداء على القيمة المضافة، علما أنّ المؤسسة الوحيدة الّتي حصلت على الامتيازات هي مدرسة ليلى بن علي .
- لم يتـم إلى اليوم تفعيـل الهيأة الـــوطنية للتقييم وضمان الجــودة والاعتماد التي بعثـت بموجب قانون 2008. كما أنّ بعثها كان تحت إشراف وزارة التعليم العـالي بينما يجب أن تكون هيأة مستقلّة عــن الوزارة حتـى يتـمّ الاعتراف بها دوليا.
- إرساء عقود برامج بين وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والمؤسسات الخاصّة.
- وضع منظومة لتقييم المؤسسات ووضع مواصفات لضمان جودة التكوين بها.
- إعادة النظر في تركيبة ومهام الهيكل التنظيمي لمؤسسات التعليم العالي الخاصّ.
خـالــد الشّــابــي
- اكتب تعليق
- تعليق