حول تنمية الثقافة الوطنية
قد يتساءل البعض عن أسباب نشر هذا المقال الآن وتونس تعيش أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة حادة وتجهد في محاربة الإرهاب ومحاصرة الفساد. والحقيقة أنه قد حفّزتني على كتابة هذا المقال عوامل عدّة:
أوّلها وأهمها اقتناع ترسّخ لديّ بأن الأزمة الحادة والمتفاقمة التي يعيشها وطننا منذ ستة أعوام هي أزمة أخلاقيّة بالأساس.فكل ما يجري اليوم في الساحة السياسية وفي العديد من الفضاءات الاجتماعيّة وفي المشهد الإعلامي يؤكد طبيعة هذه الأزمة وعمقها. ولا شك أنّ بعض الممارسات التي انحرفت بجهود التنميّة عن مساراتها السليمة خلال العشريّة الأولى من هذا القرن قد تسببت في اهتزاز منظومة القيم التي استند منوال التنمية إليها وقام عليها بناء مجتمعي مثّلت الطبقة الوسطى المتعلمة والمستنيرة فيه قاعدة واسعة منها يستمد استقراره وبها يحقق ديمومته واستمراره. بل إن هذه الممارسات قد جعلت بعض عناصر المنظومة تتهاوى في أذهان الناس وفي ضميرهم الجمعي. وإني اعتقد أنّ اهتزاز منظومة القيم هذا قد كان من أهم العوامل التي جعلت المجتمع التونسي يتداعى بكل فئاته لهبّة الانتفاضة الشبابيّة في الشوارع. كما أنني أعتقد أن لا مخرج من أزمتنا السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية الخانقة إلا بثورة ثـقافيّة هادئة وعميقة تمكّن من إبداع منظومة قيم توائم بين المستأنف والمستحدث وتستجيب لمقتضيات الحاضر والقادم.
أما الحافز الثاني الذي شجّعني على كتابة هذا المقال فهو حراك بدأنا نشهده وحديث سمعناه يتنامى حينا ويهفت حينا آخر في معهد الدراسات الاستراتيجية وفي الهياكل الحكوميّة التي تبدو كلها مهتمّة بوضع استراتيجية لتنميّة الثقافة الوطنيّة رغم غياب الثقافة عن وثيقة قرطاج وبعد أن تجاهلت حكومة السيـــد الحبــيب الصيد مقولة التنميّة الثقافيّة في أدبيّـاتها و ظلت تتحـــدث عـــن الثقـــافة «المثقفة» كعنـصــر مهـذّب للـذوق ومكمّـل للتنميــة الاقتصــاديّة ومسـاند في محـاربة الإرهاب. لذا رأيت من المفيـد اليــوم التذكير بأن حركة «نداء تونس» كـانت قـد وضعت، عندما كان للنداء صـدى في نفـــوس البعـــض منا وعندما كان في الحركة سعـي صادق إلى إنتاج برامج تـؤلف بين مكوّنـات متنوّعة المشارب في صلبها وتجمع التونسيين حولها، فيما وضعت مشـــروع خطة لتنمية الثـقافة الوطنـيّة ووعدت بأن يكــون هذا المشروع ورقة عمل أساسيّة لاستشــارة وطنيّة موسّعة حول الثـقافة تلي الانتخابات. ولئن كان المشروع نتاج تقييم لمســيرة التنمية الثقافية خــلال خمســة عقـــود، كما كان نتــــاج جهد استشراف للمقبل وحصيلة استشارة لمختلـف الأطراف العاملة في قطاع الثـقافة أو المهتمّــة به اهتمام المبدع أو الباحـث والمتابع، فقــد حرصـنا على أن تظـل الخـطة مشروعا قابلا للإثراء وللتعديــل في نطاق الاستشــارة الوطنية الموسّعة.
ومن أهمّ ما يميّز المشروع في رأيي منطلقات الخطة المقترحة ومرتكــزاتها الأســـاسيّة. من ذلك اعتبارها،في الأسّ، الثقافة محرّكا أساسيا من محرّكات التنميّة المستدامة في مشروعنا الحضاري؛ ذلك أنّ طبيعة المرحلة وما أفرزته العولمة من تحديـّات والثورة الرقميـّة من رهـانـات وانتفاضة الشباب من طموحـات قد زادت في خطورة الدور الذي يمكن أن يضطلع به الفعل الثقافي في كل تمشّ جاد يستهدف تحقيق التنمية البشريّة وتطوير نسيج المجتمع المدني نوعيا وإرساء قواعد مجتمع ديمقراطي متــوازن معتـزّ بجذوره ومتحفــّـز للانخـراط في مســار الحداثة يستمدّ قـوّتـه مــن تنوّع مكـوّناته ومن قدرته على استيعاب التنوّع في صلبه يفسح في رحابه المجال للذكاء والإبداع وتحفظ فيه الخصوصيـّـة دون انغلاق وتتطوّر فيه الهويـّة وفق حركة الحياة دون انبتات أو تنكـّـر للذاكرة ودون انحباس في تقديس الماضي. ومنطلقات الخطة القول بأن الثـقافة تحتلّ اليوم حيّـزا غير مسبوق في مجالات التخـطــيط الاستراتيجـي الــدولي وبأن للدبلومـاســيّة الثقـــافية دورا خــطيرا في إشاعة قيم الحوار والتواصل بين الحضارات والأديان.
ومن منطلقات الخــطة القــول أيضــا بضرورة تحقيق ديمقراطية الثقافة بتعميق اللامركزية وتوسيع حيــّــز المشاركة والقول كذلك بأهميـّــة ضمان حريّــة الإبداع والمبدعين. ومــن منطلقاتهــا القـــول، أخيرا وليــس آخـــرا، بضرورة الإفـادة مـن مستحدثات الثـورة الرقميّــة وتطــوير الصـنـاعات الثقافية وبالخصوص صناعة المحـتــوى التي يمكـــن أن تسهم إسهــامـا مهمّا في تقليص نسبة البطالة بين حاملي الشهادات العليا.
ذلك أن النهضة الثـقافية المنشودة هي تحوّل حـضاري عميق وليست عمليّة «ترقيع» لواقع وهي تستند إلى موقف من سيرورة الحياة وتطلــّـع معرفي ونمط سلوكي وتتطلب تبعا لذلك رؤية نقديّة للواقع بمستوياته المحليّة والوطنيّة والإقليميّة والعالميّة.وهي بالخصوص نتاج فعل إبداعي ذاتي وجمــاعي في آن. لذا يحســـن عدم النظر إليها نظرة تجزيئــيـّــة ومعالجة المنظومة بنظرة شـــاملة للشـــأن الثقافي بأنماطه الثلاثة: الثقافة العـالمة والثـــقافة الجــماهيريـة والثــقافة الشعبية (وفق ما جـاء في الخطة الشاملة المحدثة للثقافة العربيّة). بناء على الاعتـبـارات التي أسلفـنا ارتئــي أن تتضمـن استــراتيجية تنميّة الثقافة الوطنـيــّة المحاور الأســاسـية التنفــيذيــة التالية:
المحور الأول هو تطوير منظومة العمل الثقافي بما يحقق التحـوّل العميق والشامل من اللامحوريّة إلى اللامركزيّة الثقافيّة وبما يرسّخ ثقافة المشاركة وبما يوسّع قاعدة الإسهام في التخطيط للفعل الثقافي وفي إنجازه وفي الانتفاع به وذلك بـــ:
- جــعـل اللـجـان الثقافيّة الجهويّة والمحليّـــة منتخبة من قبل النسـيـج الجمعيّــاتي والمؤسسات الثقافيّة وتوطيد علاقتها بكل الخلايا الناشطة حتى تكون هياكل إصغاء وتخطيط وتنسيق ومتابعة تعكس برامجها الحاجات الحقيقيّـــة للحقل الثقافي في كل جهة.
- تنظيـــــم العــلاقة بــين اللجـان والمندوبيـات الجهويــة بما يسخّــر الإدارة جهازا تنفيذيا.
- إصدار القوانين الأساسيّة لدور الثقـــافة والمراكز الجهوية للفنون الركحية ومعاهد الموسيقى الجهوية والمتاحف والمهرجــانات.
- إعادة الاعتبار للجنة الثقافية الوطنيّة بما يجعلها تتحوّل إلى مجلس أعلى للثقافة تمثّل في صلبــه اللجان الثــقافية الجهوية وكل أصناف الفاعلين الثقافيين تمثيلا ديمقراطيا وتعهد إليه مهمــة رســم السياسة الثقافية ودراسة المشاريع الكبرى قبل إقرارها.
- تأهيل المؤسسات الوطنيّة المرجعيّة على نحو يجعلها تعمل كوحدات تصرّف حسب الأهداف تجدد عقود القائمين عليها دوريا ويراعى فيها تطــويــر العلاقة بينها وبين المبادرات الخاصة والفاعلين والمبدعين في مجال اختصاصها.
والغاية من مثل هذه الإجراءات هي تخلّي الإدارة الثقافيّة عن دور المنتج المباشر للفعل الثقافي وإفساح المجال للفاعلين الثقافيين والمبدعين حتـى يتملّكــوا فعلهم وينهضوا بتصوّر سبل تطويــره وتنميته. بذلك تكون الإدارة العصريــة في حـال إصغاء لمشاغل الفاعلين والمبدعين ويتركز دورها بالأساس على تـوفير الظروف الموضوعيّة والوسائل اللازمة لتنفيذ البرامج على نحو يوسّع قاعدة المشاركة.وهذا يقتضي تنسيقا محكما بين اللجان الثقافية والمؤسسات التربوية والشبابية ومؤسّسات التعليم العالي، كما يقتضي تقليص الفجوة بين العاصمة وبقيّة الجهات الداخلية من حيث مراجع الإبداع ومصادره المادية والفنيّة بالإضافة إلى تطوير البنية الأساسية وإحياء الصندوق الوطني لدعم الإبداع الثقافي وتنويع مصادر تمويله مع مزيد تطـوير التشريعات التي تحفّـز المؤسسات على التبني وتطوير آليات الدعم والمتابعة والتقييم. ولا بد من إصدار القانون الأساسي للمبدع واستكمال المنظومة التشريعيّة لحماية حقوق المؤلفين ومنظومة التغطية الصحيّة للفنانين والمبدعين.
المحور الثاني هو محور تنمية الصناعات الثقافية وتسهيل اندماجها في النسيج الاقتصادي والنهوض بصناعة المحتوى والانخراط في مجتمع المعلومات والإفادة من الثورة الرقميّة. فلا بــدّ مـــن إنجــاز دراسة استراتيجيّة استشرافيّة حـول سبل تطوير الصناعات الثقافية تبـــرز المعطيـات والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها أن تحدث نقلة نوعيّة في أذهان أصحاب القرار والمستثمرين. بذلك يتم تطوير الاستثمار في الصناعات الثقافية وتحفيز الجهاز البنكي وتحسين آليات ضمان القروض بما يشجع حاملي الشهادات العليا على المبادرة في هذا المجال وبما يخلق مزيدا من مواطن الشغل فيه.
وقد اقترح في سياق هذا المحور الذي يكتسي أهمية حيوية إحداث مؤسستين مدعوّتين للاضطلاع بدور القاطرة وهما على التوالي:
المركز الوطني للكتاب و الكتاب الإلكتروني
ويعنى بملفات النشر والترويج من خلال آليات دعم مختلفة لفائدة المتدخلين في سلسلة مهن الكتاب مع التركيز بالخصوص على مساندة دور النشر والتوزيع وتأهيلها وتيسير ترويج الكتاب التونسي في الخارج وعبر الوسائط الرقمية.
المركز الوطني لإنتاج الصّورة
هذا المركز مدعو بالأساس للنهوض بالإنتاج السينمائي والتلفزي في آن وكسر الحواجز المصطنعة والبالية التي ظلت قائمة بين الصنفين في بلدنا رغم رهانات الثورة الرقمية التي تقتضي اليوم أن يكون نهوضنا بإنتاج الصورة قائما على مقاربة مندمجة تتكامل فيها الأدوار وتتعاضد فيها الجهود من أجل تحقيق حضور أفضل للصورة التونسية على شاشة السّينما وشاشة التلفاز وفي المنصات الرقمية. ذلك أن الرهان حضاري واقتصادي في آن ولا يمكن كسبه إلا إذا تكاملت جهود كل الفاعلين.
لكن هــذه الأداة لن تـؤتي أكلهــا إلاّ إذا طوّرنا ونوّعنـا مصـادر تمويل الإنتاج وانتهجنا سـيـاســة إراديّة في التشجيـع على إحداث القاعات والمجمّعــات. فلا بد أن يعاد للقاعة اعتبارها وأن يسهّل انخراطها في شبكات التوزيع العالميّة. وعلى شباك التذاكر أن يسهم في تمويل إنتاج الصورة الوطنيّة.
المحور الثالث السياحة الثقافيّة: إن رصيد تونس التّراثي ومناخها وذكاء بناتها وأبنائها كلها عوامل تؤهلها لأن تكون قبلة للسياحة الثقافيّة الراقيّة .كما أن تطوّر سوق السياحة العالمي يفرض علينا السعي بجد إلى تطوير سياحتنا الثقافيّة والإمعان في ذلك بـ:
- استكمال تهيئة المواقع المهمة وتوفير المرافق فيها وتنشيطها بتظاهرات فنية تصنع الحدث وتستقطب اهتمام الزائر.
- تأهيل المتحف على غرار ما تمّ في متاحف باردو وسوسة وجربة بتمويل من البنك الدولي.
تطـــوير المهـــرجانــات الـدولية الكبرى (قرطـــاج، الحمـــامات، الجــم، طبرقة، أيام قرطاج السنمائيّة والمسرحيّة) بإكسابها الشخصيّة القانونيّة وأدوات الاستمراريّة لجعلها قادرة في برمجتها على استقطاب أسمـــاء وأعمال فنيّة ذات مستوى رفيـــع وصــيت عـالمي بما يــجعــل هـــذه المهـرجانات تخلق الحدث اللاّفت الذي يمكـن تسويقه قبـــل وقت كاف ضمن حزم تتضمّـــن عروضا فنيّة وزيارات إلى مواقع و متاحف. وما قلناه عن المهرجانات يمكن أن ينطبـــق أيضـــا على دار الأوبرا في مدينة الثقافة المستحدثة إذا ما أصبحت تنظم مـــوسمــا شتــويا يضبط برنامجه قبل وقت كــاف ويتضــمّـــن نجـــوم الأوبرا والبـــالي ويتم الترويج له في العواصم العالميّــة بحملات اتصالية مركّزة عبر كل الوســـائط تستهـــدف تسويق كل أصناف المنتج السياحي الثقافي التونسي.
هذه الخطوط العريضة لمشـــروع خـــطة تستهــدف تنميّة الثقـــافة الوطنيـّة. وكان أصحــاب هذا المشروع يأملون أن يشكّل ورقة عمل أولية لاستشارة وطنيّة موسّعة حول مستقبل الثقافة في تونس فيتمّ، بالحوار، إثراؤه وتطويره أو تعديله إن لزم الأمر. لكن الاستشارة التي وُعدنا بها قبل الانتخابات لم تنظم بعدها وضاع المشروع كغيره من المشاريع في متاهات الخلافات السياسوية التي عصفت بالنداء وأفقدته جوهر الرسالة التي حفّزت على الالتــفاف حوله.فعسى أن يـــدرس صناع القرار اليوم فكرة تنظيم هذه الاستشارة لأنّ مسألة تنميّة الثقافة الوطنيّة جديــرة، في رأينــا، بأن تكـــون مــوضــوعــا لحوار وطني محكم التنظيم ولأنّ نجاحنا في استئناف دينـــاميكيّة التنميّة الشاملة والمستدامة وفي مغامرة الانتقال الديمقراطي وفي تركيز اللامركزية والديمقراطية المحليّة وفي توسيع قاعدة المشاركة يتوقّف إلى حد بعيد على حسن مقاربتنا للشأن الثقافي بمعناه الأشمل مقاربــة تخــرج بمسألة التنميّة الثقافيّة من دائرة «تصــورات المـــوظفين» إلى الأفق الأرحب..
- اكتب تعليق
- تعليق