أدب وفنون - 2017.07.15

المهرجانات الدوليــة الصّيفيّــة لا بدّ من الرّجوع إلى الأصول

المهرجانات الدوليــة الصّيفيّــة

كان انتقال مهرجان بنعروس إلى المسرح الكبير بالمكان الأثري الّذي يُسَمَّى أُوذْنَه مفاجأة سارة لا بالنّسبة إلى الجمهور الّذي لا يعرف فقط هذا الموقع الرائع فاكتشفه بل أيضًا بالنّسبة إلى جميع الّذين يعرفون المهرجان وألفوه منذ سنوات وواظبوا على حضور حفلاته وسهراته إلى اليوم.

ومعلوم لدى العارفين أنّ أيّ الهدف من أيّ مهرجان ثقافي دولي –وأيّ مهرجان عموما-  ينتظم في كلّ فصل صيف إتحاف جمهوره بالجديد وبالطريف، بالجيّد العالي المتروك وباستثنائي المغمور، بالرّفيع المبتكر غير المسبوق وبالظّاهرة الفنيّة النّادرة البعيدة المنال...

المفروض في أيّ مهرجان أن تُرفض برمجة كلّ ما هو شعبويّ ومعمَّــم على كــلّ مكـان، وكلّ ما هو مكــرّر ومجترّ ومبتذل عند العامّ والخاصّ، وكلّ ما هو تجاريّ لامع بفراغه، مزيّن بلــون القهقهات المجانيّة ولون الكلام القبيـح المسْتَهلَك. ذلك أنّ الغاية بعد أكثــر مــن نصف قرن من الاستقلال، أن يجــود المهرجـان بكلّ ما لديه للجمهور وأن يوفّر له فرصة فريدة لإمتـــاع الإحســاس والفكر والرّوح معا، بشتّى ضروب الفنــون والآداب، سواء بالموسيقى أو بالمسرح أو بالغناء الفردي والجماعي أو بالرّقـــص... من الرّصيد الوطني التّونسي ومن الأرصدة العربيّة والأوروبيّة الغربيّة والآسيويّة والأمريكيّة، أي من أقطار العالم أجمع.

موسم الإبداع

وقد أدرك السياسيون منذ فجر الاستقلال وطوال ثلاثين سنة متتالية أنّ فنّ المسرح الّذي يستقطب كــافّة الفنــون يجسّم الإبداع في أسمى معانيه، وفي أجلى صوره ومظاهره، وأنّه يمثّل الثقافة الوطنيّة الحيّة الحديثة والمعاصرة، وكان على رأسهــم الزّعيم المثقّف العبقري الحبيب بورقيبة رحمه الله. وقد كان يُفْهم من خطابه المنهجي الكبير الّذي ألقاه في نوفمبر سنة 1962 بدار الإذاعة التّونسية أنّ المسرح هو العَصَبُ الفاعل للثّقافة الوطنيّة القويّة النّاهضة من جهة، والدّينامو الفاعل في الفكر وفي الفنّ، من جهة أخرى، لأنّ المسرح يكوّن المواطن التّونسي الجديد، وهـــو الطارئ على العالم بحداثته على أكثر من صعيد: شحــذ الذّوق السّليم وتنمية حبّ الاكتشاف للمخبأ، والانفتاح على الآخر وعلى المعرفة وتربية ملكة الحوار والنّقد والنّقاش، لكن دون وصاية ولا وكالة ولا نيابة وبعيدا عن الموعظة وإلقاء دروس أخلاق وسلوك على أحد... والمسرح يعلّم المواطن الحريّة الفكريّة والسّياسيّة والمهرجـان حينئذ إنّما هــو موســـم الإبداع الوطنــي والأجنبـــي، وهــو عيد ثقافي.

وقد صدر الأمر بأنّ يفتتح أي مهرجان دوليّ برنامجه بإبداع مسرحي جديد وأن يختمه بإبداع مسرحي حظي من قَبْل بالنّجاح الفنّي والجماهيري معًا. فكان العمل بهذا الأمر. وما هي سنوات قليلة حتّى نهض المسرح وشمّر أهله على سواعدهم فأثّر في فنّ الموسيقى وفي فنّ السّينما وفي الفنون التّشكيليّة التّونسيّة خلال العشريتين الأوليين من الاستقلال، كما نهض التّلحين الموسيقى للمسرحيات والعزف الجماعي. فمن لا يذكر قطع المالوف المسجّلة في دار الإذاعة التونسية سنة 1957 من قبل الموهوبين من العازفين، بشهادة الموسيقار فتحي زغندة اليوم؟ ومن منّا لا يتذكّر الرّسّامين الكبار كالزّبير التّركي ومحمود السهيلي ونجيب بلخوجة وغيرهم من نظراء قامتهم وموهبتهم واهتماماتهم بفنّ المسرح ومشاركتهم في إبدعاته التّونسية الجديدة؟ ومن منّا لا تعود به الذاكرة إلى أولئك المخرجين الّذين لم يمض على تخرّجهم من معهد «إيداك» الفرنسي إلاّ وقت قصير، فشاهدوا على الركح المسرحي في تونس ممثّلين محترفين مقتدرين واختاروا بعضهم لأفلامهم من أمثال نور الدّين القصباوي ورشيد قارة ورجاء بن عمّار ومحمد كوكة؟ فكان المهرجان سندا لكلّ إبداع فنّي وأدبي تونسي بل ووسيلة لمؤازرته ماديا ومعنويًّا في البلاد وخارجها لا العكس!

فلنتّعظ بالماضي القـــريب حتّى ندرك الأعالي ونستمر.

بين الإبداع والتوزيع الجماهيري

انقسمت المهرجانات الدّوليّة الصّيفيّة في ذلك العهد إلى صنف خاصّ بالإبداع وصنف خاصّ بالتّوزيع الجماهيري. فمهرجــان الحمّامـــات الدّولي اختار صنف الإبداع نظرًا لكون المركز الثّقافي بالحمامات يظلّل المهرجان بتنشيطه للثقافة العالية، وأيضًا لكــون مســرحه الجديد الّذي يُذكّرك معماره الهندسي بمســرح «أݕيــدور» الإغريقي إذا زرت اليونان، وقد مضت على تأسيسه قرون قبل ميلاد المسيح. فلا عجــب أن يوحي لك هذا الموقع بالعمل الفنّي، بالابتكار، بالإبداع. هذا ما أعرب عنه كبار الفنّانين والكتاب والمفكّرين العالميين، مثل المخرج المغربي النّابغة الطيّب الصّدّيقي، والمخرج رأس الطّليعة المسرحيّة الفرنسيّة جان ماري سيرو، والممثّل المصري الموهوب نور الشريف، والموسيقي اليوناني الكبير تيودوراكيس، والنّاقد المسرحي المصري علي الرّاعي، والمخرج الجزائري الفذّ مصطفى كاتب رئيس أوݕيرا الجزائر، والفيلسوف الفرنسي فرانسوا شاتلي، والممثل الانڤلو الفرنسي ميكائيل لُونْسْدَالْ، والكوريغراف البلجيكي العبقري موريس بيجار الّـذي أقام «صلاة العصر الحديث» وقد توفي مسلمًا.

بعض الأمثلة...

كانت سهرة «المولوية» الأَصْلِيـــة قــد استقدمها المهرجان الدّولي للحمامات لأول مرّة في تونس رأسًا من قُونية وطن المتصوّف المتألّه جلال الدّين الرّومي، وسهرة معهد «البُولْشُوْيْ»، وسهرة العازف العبقري الهندي راڥي شَنْكَر، وسهرات مسرحيــة نظّمها المنصف السويسي رحمه اللّه بوصفه مدير الفرقة المسرحية القارّة بمدينة الكاف، وسهرات مسرحية فرنسيّة كــان مؤلّف إحـــداها الشاعر المسرحي الفرنسي ݕـُولْ كْلُودَالْ، وكان مخرج إحداها محمد كوكـه وهـــي «ريشارد الثّالث» لشكسبير..

تميّزت جميع هذه السّهرات الفنيّة بمستوى فني وأدبي وفكري رفيع وبفضله اشتهر المهرجان الدولي بالحمّامات وظلّ على هذا المنوال زهاء عشرين سنة من أواسط السّنــوات السّتين إلى مشــارف السنوات الثّمانين من القرن العشرين... ثمّ انزلق هذا المهرجان انزلاقات خطيرة وكثر ضرب «الدّربوكة»...أمّا مهرجان قرطاج الدّولي الّذي يحتضن آلاف المتفرجين في مسرحه الروماني الكبير (خلافًا لمهرجان الحمامات الّذي لا يستوعب إلاّ بين ألف وألف ومائتين من المتفرّجين)، فإنّه بحكم رحابته كان مؤهّلا لبرمجة الحفلات الموسيقية والغنائية والمسرحيّة والرّاقصة ذات الإقبال الجماهيري الكبير، ولكن مع الاحتفاظ بالمستوى الثّقافي العالي وترك نوع «العوّادة»!

وكان مهرجان قرطاج يتحف الجماهير بحفلات غير منتظرة كحفلة الرّاقصتين النّجمتين من فرقة «البُولْشُوْيْ». فلقد رخّص لهما ليونيد بريجنيف زعيم الاتحاد السّوفياتي يومئذ «أن تتحوّل الرّاقصتان النّجمتان إلى تونس بلاد بورڤيبة». وكأنّ تلك الحفلة البديعة الّتي اكتشف خلالها الجمهور التونسي روعة الرّقص الكلاسيكي الروسي الصّارم هديةٌ ثمينة القيمة إلى تونس، الحديثة العهد بالحرية والاستقلال من الاتحاد السوفياتي ونظامه الشيوعي الذي كان بصدد التحرّر آنذاك من الستالينيّة.

ولا أنسى سهرة المطرب الفرنسي جِيلْبَار بِيكُو الملقّب بـ 100.000 ڥـُلط كهربائي. وما إن حضر على ركح المسرح وبدأ يغني حتّى شرعت آلاف الجماهير تردّد بصوت جماعي واحد ما يغنّيه هذا المطرب الشّهير الّذي أحبّه التّونسيون. فكانت من أمتع السّهرات وأجملها.

وفي صيف آخر، كان الموعد مع  كامل بالي مدينة إشبيليّة الإسبانيّة، وهي دارة فنّ الفلامنكو وشارك في العرض نحو  مائة راقص وراقصة عمّروا الرّكح الشّاسع. فكان أداؤهم مبدعًا مدهشًا على غاية من الإتقان والدقّة والصّرامة الفنيّة في مجال فنّ الفلامنكو...

ومن الشرق العربي جاء نجوم الطّرب القديم والحديث وعرفت القدود الحلبية بين الجماهير الذّواقة للعتيق صيتًا ضخمًا ذائعًا.

وكان إذ دعي إلى مهرجان قرطاج أحد من المطربين المشارقة من مصريين ولبنانيين وسوريين أو من المطربين المغاربة اعتبر ذلك اعترافًا عظيمًا بقيمته الفنيّة. ومن هنا بدأت تبرز الخصائص التّونسية.

السقوط وأسبابه

ثمّ انزلقت المهرجانات الدّولية الصّيفيّة للأسف الشّديد نحو الرّوتين والاستنساخ بتوزيع نفس الحفلات التّونسية والعربيّة والأجنبيّة على ســائر المهرجانات من الشّمال إلى الجنوب الكبيرة منها والصّغيرة، وبتعبئة البرنامج والإكثار من السّهرات إلى حدّ التّخمة حتّى صار المهرجان عبارة عن صالة أفراح! وقد قيل الكثير من الكلام الفارغ عن  تطبيق سياسة اللامركزية الثقافية، ولم ينْجُ مـــن تلك الرّداءة العــامّة إلاّ مهرجــان ڤابس الــدولي ومهـــرجان الجم للموسيقى السّمفونية ومهرجان تستور للمالوف الّذي كـــان يدعـــو البلدان المغاربية إلى المشاركة في فعالياته.

وأسبــاب هــذا السّقــوط في الضّحالة عديدة ومتشابكــة، منهـا أنّ الحالة الصحيّة للرّئيس بورقيبة لم تكن تسمح له بالمتابعة والتّصويــب والدّفع المجدّد نحو الأفضل وأنّ تغيير المسؤولين على رأس وزارة الثقافة قد تتالى، مع استثناء وزارة البشير بن سلامة الّتي بقيت مدّة ست سنوات تقريبا وهي من المعجزات الّتي سار بها الركبان.

ومن أسباب السقوط أيضا سياسة الدّولة التي أرادت أن تنتهـج مسلك اقتصاد السّـوق وهو الوصف المقنّع للرّأسمالية الليبرالية. وشرع النّاس في مدح فضائلها وقيمها ومثُلها، دون النّظــــر فيمــا يصلح منها للبلاد وما يسيء، ولذلك جاء الأمر بأن يقنع مديــرو المهرجانات أصحابَ مؤسّسات الإنتاج بالمساهمة في تمويل المهرجانات فصار المديرون كالشحّاذين وهو شيء مخجل يجلب العار. فأصبحت المهرجانات بعد أن كانت أداة  لتثقيف الشّعب وتكوينه مجــالا للمساومات والابتذال، يتحكّم فيهــا منطق الدَّخــل والخَرج!

كما أنّ الحكــومات المتعــاقبة  قلّصت التّطوّر الضّروري لميزانية الثّقافة فصارت المهرجانات فقيرة بائسة. وكان من الواجب  والمشروع أن تكون ميزانية الثقافة من ميزانية الدولة لا من صدقات المؤسسات العامّة والخاصّة.

ولمّا كان الساسة الكرام لا يحبّذون النقاش والجدل وتبادل الرّأي والنّقد والانتقاد الحادّ، أهملوا افتتاح أيّ مهرجان بمسرحية جديدة وإنهاءه بمسرحية مشهورة، وتمّ إلجام الأفواه وتهميش المسـرح وغلق نــوادي السّينما، كمــا تمّـــت تصفيــة صنــدوق الدّعم الّذي أسّستــه وزارة بـن ســلامة.

نضيـــف إلى ذلك أنّ بعــض المســـؤولين الإداريين قد وقــع تكليفهم بالمهرجـــانات الدّولية بينما هم يحتقرون شديد الاحتقار المبدعين، ومن لفّ لفّهم ويلصقون بهم تهمة الابتزاز ويرون أنّ لا حقوق لهم إلاّ ما يقبضونه من الكاشيات. وهؤلاء الإداريون يجهلون تماما الأوساط المبدعة في الداخل وخاصّة في الخارج.. ويجهلون كذلك المصادر والمراجع والمضامين المتعلّقة بالأعمال الفنية فكانوا يعمّرون البرامج بما هو تجاري سخيف وتافه حقير، ويسمّون ذلك ثقافة!!! كان ذلك مجرّد حشو لا أكثر ولا أقل...

وقد شرعت يومئذ حفنة من الجهّال والأمّيين من حاملي بعض الشّهائد ومن متقلّدي بعض المناصب في انتقاد ثقافة النّخبة، وهم يقصدون المثقّفين والمبدعين فطفقوا يشتمون اللّغة العربيّة، ويقلّلون من شأن الكتــب والمجلاّت والمكتبات فعزلوا الكثير من هؤلاء عن وسائل الإعلام ولا سيما التّلفزة مردّدين زعمهم: نريد ديمقراطية الثقافة! واستمرت هذه الرداءة العامّة حتّى خلال السنوات التي عقبت ما يسمّى بالثورة.

هم لا يــريدون أن يَعْلَموا أنّ تونس قد ركّــزت حضــورها العالمي على خصائص متلازمة:

  • الثّقــافـــة الوطنية والعالمية لجميع التّونسيين بالمجّان... وما عدا ذلك فهو كلام يحمله الرّيح!
  • التعليم لجميع التّونسيــين بالمجــان.

فمتى نتّعظ؟.

عز الدّين المدني

كاتب مسرحي، رئيس المهرجانات الدولية سابقا بوزارة الشؤون الثقافية،

ومؤسس العديد من المهرجانات

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.