ترجمة العلـوم وتحديــاتــها فــي العصـر الحــديــث
عندما نتصفّح النسخة العربية الأكثر رواجا لكتاب الفيزيائي والفلكي البريطاني الشهير ستيفن هوكنغ «تاريخ موجز للزمن» نقف أمام دليل لا يقبل الشكّ على أزمة حقيقية يمرّ بها الفكر العربي المعاصر في تعامله مع العلوم الحديثة ومنجـزات العقــل الغـــربي، لا يتعلّق الأمر بتقييـم التّرجمة في مستوى المنتج النّهائي فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى التّدليل على جملة من العــوائق التي تؤدّي متداخلة إلى عطب معرفيّ حقيقي.
لقد ظهر كتاب ستيفن هوكنغ سنة 1988 تحــت عنـوان، «تاريخ موجـــز للزمــن، من الانفجار الكبير إلى الثقـوب السوداء»، وظلّ يتصدّر لائحةَ الكتب الأكثر مبيعا لمجلة «سانداي تايمز» طيلة أربع سنوات وبيعت منه أكثر مـــن عشر مــلايين نسخة خلال عقدين، فأصبح أحد أشهر الكتب العلمية إطلاقا في العصر الحديث. وقد تُرجم هذا الكتاب بعد سنتين من صدوره بشكل مختلف في بيروت ودمشق وبغداد وظهر في طبعات تعتبر محلّية مقارنة بالطبعة المصرية الصادرة ضمن مشروع «مكتبة الأسرة» الذي تُشرف عليه الهيئة المصرية العامة للكتاب بتوقيع الدكتور مصطفى إبراهيم فهمي، ثم في سنة 2008 وبعد أن قام هوكنغ بإعادة كتابته ونشره تحت عنـوان: «تاريخ أكثر إيجازا للزمن» ظهرت طبعة عربية جديدة في الإمارات العربيــة المتحــدة ضمن مشروع «كلمة» للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، ونظم احتفال رسمي بالمناسبة شارك فيه هوكنغ عبر الأقمار الصناعية ليعرب عن امتنانه بظهور هذا الأثر باللغة العربية ضمن خمسين لغة أخرى نقل إليها.
إن تتبع مسار الكتــاب في طبعاتــه العربية المختلفة خلال ربع قرن يعكس تحولات مراكز الجــذب الثقــافي في العــالم العربي وانزياحها التدريجي من بيروت وبغداد ودمشق والقاهرة إلى دول الخليج العربية حيث تعتبر منشورات سلسلة «عالم المعرفة» في الكويت المظلّة الأولى لنشر الثقافة العلمية وعبرها أمكن للقارئ العربي الاطّلاع على عناوين مهمة مثل: كتاب «الكون» لكارل ساغان وكتاب «الكون في قشرة جوز» لستيفن هوكنغ وغيرهما من العناوين في الفيزياء النظرية والمعلوماتية، قبل أن ينتقل المركز إلى الإمارات العربية المتّحدة. ويمثّل هذا الانزياح التّدريجي لمركز الاستقطاب الفكري عربيا امتدادا لهاجس تاريخي مُلحّ إذ يجمع المؤرخون على أن نقل العرب علوم الأمم السابقة كان من أهـم أسباب نهضتهم منذ العصر الأموي حيث بدأ الاهتمام بتعريب المصنفات الإغريقية والسريانية في الطبّ والفلك والكيمياء، ثمّ اتجه الاهتمام في خلافة أبي جعفر المنصور إلى أمهات الكتب اليونانية على غرار مؤلفات أرسطوطاليـــس وبطليمـوس، حتى أضحت الترجمة في عهــد المأمــون مع تأسيس «بيت الحكمة» القلــب النابض للحركة العقلية التي ميّزت العصــر العباسي.
الترجمة بوصفها خيانة موصوفة
لكن المتأمـل في النسخـــة الأكثر رواجـــا من كتاب هوكنغ والتي تقــف وراءها مــؤسسة وطنية للترجمة في مصر يلاحــظ أنها عمـدت إلى تجريد النص الأصلي مـن هواجس المؤلف الدينية وشكوكه العقائدية وهي بمثابة العمود الفقري للنص الأصلي، إذ لا ينفصل لديه البحث في الفيزياء الكمية وأصل الكون عن المبحث الفلسفي في مفهوم الخلق ودور الخالق، في مقدمته المنشورة بالطبعة الأولى من الكتاب يقــول الفلكي الأمـــريــكي كـــارل ســـاغان (1996-1935): إن قلّة من الناس يتساءلون عن مصدر الكون وعن ماهية الطبيعة، وما إذا كان الزمن قادرا على العودة يوما إلى الوراء، وما إذا كانت للمعرفة البشرية حدود قصوى، مؤكدا أن الأطفال وحدهم يعتريهم الفضول ويندفعون لمعرفة الثقوب السوداء وأصغر أجزاء الـمادة، والسبب الذي يجعلنا نتذكــر الماضي لا المستقبل، وكيف يمكــن أن يوجد اليوم نظام بعد أن كانت الفوضى سائدة في البدء، ولماذا يوجد كون؟ وقد حذفت من الطبعة العربية الفقرة الأخيرة من المقدمة والتي يقول فيها: «إنه كتاب عن الله، أو ربما عن غياب الإله، فكلمة «إله» تملأ صفحاته، وهوكنغ ينكبّ فيه على بحث للإجابة عن سؤال انشتاين الشهير: هل كان أمام الله اختيار عندما خلق الكون؟ هوكنغ يقول صراحة إنه يحاول أن يفهم كيف يفكّر الله، وهو ما يجعل أيضا خلاصة هذا الجهد غير متوقّعة أكثر فأكثر على الأقل حتى السّاعة: عالم بلا حدود في الفضاء، بلا بداية أو نهاية في الزّمن، ولا شيء يمكن فعله بخصوص الخالق!».
لم يكتف المترجم المصري بحذف فقرة كاملة من المقدمة مخلاّ بواجبات الأمانة العلمية إنما ظلّ يتقصّى أثر المفردة الدينية ليحذفها أينما كانت، فساغان يقول مثلا: «إن الأســـاتذة وأوليــاء الأمــور يجيبون عــن أسئلة أطفالهم بخصوص الكون والحيـــاة والزمــن بالإحالة على بعض المبادئ الدينية ينقلونها بغموض منزعجين لأنها تظهر حدود المعرفة البشرية»، فيعمد المترجم إلى استعمال عبارة «المفاهيم المطلقة» بدل المبادئ الدينية! وهو ما يطرح بحدّة سؤال الكفاءة المهنية لمترجمي الكتب العلمية خصوصا في مشاريع وطنية وقومية لا في ترجمات دور نشـــر محلية، فمصطفى فهمي الذي نقل إلى العربية تسعة كتب علمية ضمن منشورات عالم المعرفة بالكويت ومكتبة الأسرة المصرية حاصل على بكالوريوس الطب والجراحة والدكتوراه الاكلينيكية، وهو الذي أشرف على مـراجعة تـرجمة كتاب هوكنغ في صياغته الثانية ضمن مشــروع «كلمة» بعد أن ترجمه أستاذان يدرّسان الكيمياء بجامعة سوهاج.
الترجمة بين العلم والعقيدة؟
لقد تناولنا هذا الكتاب بوصفه أنموذجا لواقع ثقافي عربي يعاني من التشرذم والافتقار إلى مشروع قيادي متكامل في مجــال ترجمــة العلوم رغم تعدّد العواصم التي تحلم بإعادة الروح إلى «بيت الحكمة» العباسي، والأزمة ليست إجرائية فحسب بل هي فكرية أسـاسا لا نتحدّث هنا عن الأدب إنما عن الفيزياء والفلك في تماسّهما مع الفلسفة والدّين وهو جوهر ظاهرة ستيفن هوكنغ العبقري المُقعد على كرسيّ متحرّك والرجل الذي صنعت من أجله مؤسسة «انتل» الرائدة في صناعة المعالجات الدقيقة نظاما معقّدا للكتابة بتحريك العضلات، ينتقل هوكنغ تدريجيا في مسيرة بحثه من الإقرار بالضبط الدقيق للكون في كتاباته الأولى إلى طرح نظرية النشوء التلقائي والأكوان المتعدّدة في كتابه الأحدث «التصميم العظيم»، وقد وضعت مؤلفاته العلم في مواجهة الدين بحدّة وضراوة غير مسبوقين بما يمثّل تحدّيا صعبا أمام الثّقافة العربية الإسلامية التي لم تتخطّ بعدُ بعض دوائرها حلقات النقاش حول كروية الأرض وما إذا كـانت حقا تدور حـول الشمس، وبينما تواجه «نظريـــة كــلّ شيء» التي يريــد هوكنغ أن يفسّر بها الكون ردود فعل عنيفة في المجتمع الأكاديمي الغربي لافتقارها إلى وسائل إثبات مقنعة ولطابعها الميتافيزيقي المحض، انزاح مجال النقاش في الثقافة العربية الإسلامية كلّيا إلى المجال العقائدي دفاعا عن وجود الله، ضد النزعة الإلحادية لدى هوكنغ وقد نشر مؤخرا الدكتور حسن أحمد جواد اللواتي (طبيب أطفال من سلطنة عمان) كتابا بعنوان «المصمّم الأعظم» يتضمن قراءة نقدية لكتاب «التصميم العظيم» بغاية إثبات وجود الله وحاجة الكون للخالق.
لقد كـان ثمة دائما في هندسة الكون منذ التفسيرات الإغريقية للأرض الكرويـة مكان للجنة والجحيم حتى طرح هوكنغ نظرية الأوتار الفائقة، واستغنى عن الحاجة إلى الله قائلا ردّا على متّهميه بالإلحـاد: «لا يمكن لأحدٍ إثبات عدم وجود الإله، لكن في الآن ذاته فإن العلم لا يحتاج إليه».
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق