حمـــودة بــن حليــمــــة: حلقـــة الوصـــل بيـــن الأدب والسّينمـــا فـــي تـــونــــس
برحيل المخرج السينمائي حمّودة بن حليمة فقدت السينما التونسية أحد روّادها المؤسّسين، فقد كان الفقيد ضمن المجموعة الأولى التي ناضلت من أجل إنشاء سينما تونسية وطنية، سافر إلى فرنسا سنة 1957 لدراسة السّينما في المعهد العالي لدراسات السينما بباريس،وتخرّج فيه سنة 1960، في خريف تلك السنة ذاتها نشر البشير خريف على صفحات مجلة «الفكر» قصّة «خليفة الأقرع» التي ستظهر لاحقا ضمن مجموعته القصصية «مشموم الفلّ»، وسيجعل منها حمّودة بن حليمة فيلمه الروائي الأوّل عام 1968 فيرتبط اسمه بها إلى الأبد. ربما لم ينتبه النقاد في الإبّان إلى فرادة هذا الشريط السينمائي، لكن سرعان ما أصبحت مختلف الدراسات النقدية لتاريخ السينما التونسية تتوقف عنده باعتباره لحظة مهمة في سياق نشأة السينما في تونس وتطورها.
خليفة الأقرع عمل تأسيسي
تعتبر مرحلة الستينات الأرضية الصلبة التي نهضت عليها السينما التونسية حيث أسهمت مجموعة من السينمائيين الشبّان العائدين من فرنسا بتكوين أكاديمي بينهم حمودة بن حليمة الذي توفّي عن سنّ تناهز 82 عاما في وضع اللّبنات الأولى للقطاع. كان الإنتاج السينمائي مقتصرا على الوثائقيات الإخبارية المتخصّصة في الدّعاية السّياسية والأخبار الحكومية والحزبية، في الأثناء أسّس السينمائيون الشبان المنضوون منذ 1962 تحت مظلّة جامعة السينمائيين الهواة مهرجان قليبية الدولي للفيلم غير المحترف في 1964، فكان حاضنة مهمّة لخطاب سينمائي جديد برؤى وأساليب مختلفة. ولسوف تصبح سنة 1966 سنة مرجعية في الـتأريخ للسّينما التونسية باعتبار شريط «الفجر» للسينمائي العصامي عمار الخليفي أول فيلم روائي تونسي طويل رغم أن هذا الشريط الذي يتناول بالسّرد أحداثا من النضال الوطني لم يكن ليتناسب مع التّوجه الفنيّ الذي يمثّله التيّار الشبابي وكان موضع انتقاد عنيف من بعضهم علَنًا ، لكنّ اختلاف الرّؤى والتّوجّهات بين الأجيال والمدارس سيكون له دور مهم في وضع السينما التونسية على سكّة الاختلاف والتنوّع والتّجريب بما سيمنحها خصوصيتها ويجعلها قاطرة في المجال الافريقي والمتوسّطي، لا سيّما بتأسيس أيام قرطاج السينمائية في نفس السّنة، وإنشاء مخابر السّاتباك في قمرت سنة 1967، وخلال الخمس سنوات التي تلت ظهور فيلم «الفجر» ظهرت ثمانية أفلام تونسية يجمع النقاد على أن فيلم خليفة الأقرع لحمودة بن حليمة 1968 يعتبر من أهمّها إطلاقا لتعبيره عن الشخصية التونسية من جهة ولأنه يدشن بنجاح اتّجاها في السينما الروائية يهتمّ بالمنجز السّردي المحلّي، ولم يخرج الفقيد عن هذا التيّار في عمله التّالي سنة 1972 عندما أخرج أقصوصة علي الدوعاجي «المصباح المظلم» التي تضمنها فيلم «في بلاد الطررني» إلى جانب أقصوصتين ثانيتين لنفس الكاتب هما «سهرت منه الليــالي» للهـــادي بن خليفة و«نزهة رائقة» لفريد بوغدير، وسيظلّ عدد الأعمال الأدبية التي يتمّ تحويلها إلى السّينما في تونس قليلا لكن السينما التونسية ستفرض بسرعة نفسها على النّطاق الدولي حيث انتهت عشرية التّأسيس باختيار فيلم عبد اللطيف بن عمار «حكاية بسيطة كهذه» للمشاركة ضمن القائمة الرسمية لمهرجان كان السينمائي.
سينما المدينة والجسد
لئن كان اختيار المدينة فضاء للسّينما قد ارتبط بتجارب متقدّمة في التسعينات على غرار «عصفور سطح» لفريد بوغدير أو «سلطان المدينة» للمنصف ذويب، فإن البداية الأولى كانت حتما مع فيلمي «خليفة الأقرع» و«المصباح المظلم» لحمودة بن حليمة، في الفيلم الأول يدور جزء كبير من الأحداث فوق سطوح البيوت حيث يتجوّل خليفة الأقرع بكل حرّية ليطلّ على عوالم محظورة في مراوحة بين المكان الضيق والفضاء المفتوح تعبيرا عن نشدان الذات إلى الحرّية والانعتاق عبر التجربة الحسّية التي تتحرر فيها الأجْساد من قيود المجتمع وتقاليده، هذه اللّغة الرمزية أساسية في أدب البشير خريف، نجدها في «برق الليل» حين يصوّر مغادرة الفتاة الشابة السجن الذي وضعها فيه زوجها قبل الذهاب إلى البقاع المقدّسة وتجوالها فوق السطوح ليلا وهي تتقصّى أثر موسيقى إفريقية غامضة تأتي من مكان ما، وفي مقالته عن هذا الفيلم ضمن كتابه «من مدوّنة السينما التونسية» والتي جاءت تحت عنوان: «خليفة الأقرع عمل تأسيسي متميّز»، يخصص الهادي خليل فقرة كاملة لوظائف اللّقطة الفوقية في الفيلم يرى فيها أن المخرج كان حريصا على إيجاد الصيغ الأسلوبية التي تمكّنه من إظهار مأساة خليفة الدفينة، فجعل اللقطة الفوقية تُهيكل الصورة بشكل أساسي لتبرز البطل وهو يتجوّل في المدينة كما ترافقه وهو في خلوته وهي بذلك تتجاوز كونها مؤثرة تقنية لتصبح خيارا جماليا، فاللّقطة الفوقية تظهر أن «وجود الشخصية وجود جنيني كامن في ذلك الرحم الواقعي كما تظهر انحدار مكانتها». وفي شريط «المصباح المظلم» يسند المخرج كذلك دور البطولة المطلقة للمكان حيث تدور وقائع القصّة في المسافة الفاصلة بين محلّ الحلاقة الكائن في نهج الباشا وبيت الحلاّق الذي ينتبه وهو يستعــد لإغـــلاق المحل إلى وجود امرأة وحيدة تحت المطر، ويغلب الصمت على حوار الاستدراج والإغراء الذي بنيت عليه القصة كلّها بين الشخصيتين المرأة والرجل أو آدم وحواء في المطلق.
العتبات المحظورة
بعاهة جسدية استطاع الفتى دخول البيوت المحصّنة والتّمتع بما فيها من فواكه محرّمة بعيدا عن أعين الرقباء، تلك هي قصة خليفة الأقرع التي تنبني على ثلاثة مشاهد تتعلّق بالجنس، المشهد الأول حين دعته النسوة ليملأ لهن الماء من الماجل لغسل ثياب العروس رفيقة والحقيقة ليضحكن منه.. وفي هذا المشهد تجتمع الفتيات حول جسد خليفة الأقرع وهو يدلك الفرش رقصا فيتحول غسيل الفرش إلى ما يشبه الرقصة التي تصوّر جوع الغريزة (تملّص مرّة وحبا وأمسك محرزية من حيث لا ينبغي، فدفعته، فوقع في الماجل..)، المشهد الثاني في القيلولة، زمن العولة، فوق السطح، حيث يلتقي خليفة مع جليلة بنت الحاج ويتآلفان (بلغت بهما الصداقة إلى أن أطلع كل منهما صاحبه على ما يشتمل عليه من بدائع، ثم قارناها، ثم ألّفا بعضها ببعض فتآلفت، إلى أن طغى الوجد مرّة على الحذر، فغرزت أظفارها في وجهه) أمّا المشهد الثالث فيروي كيف استدرج خليفة الأرملة صلّوحة بعد أن هدّدته بكشف الوساطات التي يقوم بها بين الفتيات والفتيان لأخيها سي المختار، لكنّه وفي جوّ غريزي مثير ينتبه إلى ما تعيشه الأرملة من كبت جنسي عنيف وينتهي إلى مواقعتها بالقوّة (ومن الغد أصبحت الأرملة صلوحة تطارد القطّ لتذر خليفة ينام ورمت على رأسها رداء وخرجت تشري الحليب لتعد له وجبة إفطاره).
أدبيّا تعتبـــر قصـــة البشيـــر خريف هذه واحدة من أهمّ الأعمال القصصية التي تصدّت بشفافية عالية إلى موضوع الجسد، فبقدر ما كان المجتمع التّقليدي محافظا إذا ما نُظر إليه من الخارج، فإن دمّلة على رأس خليفة الأقرع أباحت النظر إلى هذا العالم المغلق من الداخل لاكتشاف ما ينطوي عليه من قفز على المحظورات، وسينمائيا انتبه كمال بن وناس في مقالة له بعنوان: «السّينما التونسية، في البحث عن الهويّة» إلى أن حمّودة بن حليمة قد ابتكر في فيلم «خليفة الأقرع» لغة سينمائية خاصّة به تجاوز بها حيرة البدايات حول هويّة السّينما التونسية في علاقتها بمختلف الروافد شرقا وغربا، و» قد اسْتطــاع أن يحـكيَ بالسّينـما الواقـــع اليـومي داخل فضـــاء المدينـة التقليدي المحافظ»، هـــذا التميّز الأسلـــوبي هـــو الذي جعـــل تجربة حمودة بن حليمة تحتلّ موقعا خاصا في تاريخ السينما التونسية على ندرة أعماله واقتصاره لاحقا على المشاركة في أعمال أخرى في مستوى السيناريو، كما جعلت تجربة فيلم «خليفة الأقرع» لحظة فارقة في سياق التحاور الخصب بين الأدب والسينما..
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق