أخبار - 2017.03.04

محمـود‭ ‬المسعـدي:‭ ‬الفكــر‭ ‬والـمـسيــرة

محمـود‭ ‬المسعـدي:‭ ‬الفكــر‭ ‬والـمـسيــرة

تحيّة لِرجل من أفذاذ تونس قام، أستاذا، بإيقاظ المُهج، لدى الشبابثمّ وضع، وزيرا، اللبنات الأولى لِنظام وطني، للتعليم والتربية والتكوين، بعد أن كادت برامج التعليم تفقد أيّة منهجيّة وطنيّةثمّ، قبل هذا وذاك، ألّف أدبا مستحدث الهموم والمشاعر، عريق اللغة، «تأصيلا لِكيان»سيبقى اسمه مقترنا بواجب النضال الفكري، بعد أن كان قِوامُ أدبه مأساة الفكر، في طلب المعنىتحيّة لأستاذنا، تحيّة محبّة ووفاء.

الأدب‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬المسعدي(1)

‬انطلقت‭ ‬شهرته‭ ‬من‭ ‬أوساط‭ ‬تلاميذه،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬منزلة‭ ‬فريدة‭ ‬لديهم،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أساتذتهم.‭ ‬زميله‭ ‬الذي‭ ‬يَكبره،‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بكير،‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬تعليم‭ ‬اللغة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬هي‭ ‬أداة‭ ‬الكتابة؛‭ ‬أمّا‭ ‬محمود‭ ‬المسعدي،‭ ‬فهمّه‭ ‬مضامين‭ ‬الكتابة‭ ‬الأدبيّة،‭  ‬منصهرة‭ ‬بين‭ ‬المشاعر‭ ‬والفكر‭. ‬فالاستاذ‭ ‬بكير‭ ‬يُخرّج‭ ‬أجيالا‭ ‬يُتقِنون‭ ‬العربيّة؛‭ ‬ويتولّـى‭ ‬المسعدي‭ ‬تلقينهم‭ ‬هواية‭ ‬الأدب،‭ ‬سبيلا‭ ‬إلى‭ ‬سبر‭ ‬منزلة‭ ‬الإنسان‭.‬ شاع‭ ‬بين‭ ‬النُقّـاد‭ ‬أنّ‭ ‬المسعدي‭ ‬مُتأثّر‭ ‬بالوجوديّة؛‭ ‬وقد‭ ‬ألّـف‭ ‬كتبا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬‮«‬الوجوديّة‮»‬‭ ‬من‭ ‬منابر‭ ‬الفلسفة‭ ‬إلى‭ ‬شوارع‭ ‬الحيّ‭ ‬اللاتيني،‭ ‬عند‭ ‬طلوع‭ ‬نجم‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬Jean Paul Sartre‭.

كِتابات‭ ‬المسعدي‭ ‬تُلقّن‭ ‬التزاما‭ ‬بالأدب،‭ ‬والتزاما‭ ‬بالعربيّة‭ ‬–‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كانت‭ ‬الفرنسيّة‭ ‬تستقطب‭ ‬اهتمام‭ ‬الأجيال،‭ ‬زمن‭ ‬الحماية،‭ ‬وتستبدّ‭ ‬بهواياتهم‭.‬

أنهى‭ ‬المسعدي،‭ ‬صراعاته‭ ‬الأدبيّة،‭ ‬بالتوجّه‭ ‬إلى‭ ‬النضال‭ ‬النقابي‭ ‬والعمل‭ ‬السياسي‭. ‬فحاول‭ ‬أن‭ ‬يجعل‭ ‬الكفاح‭ ‬الاجتماعي‭ ‬من‭ ‬وقود‭ ‬قيم‭ ‬الفكر‭ ‬والحياة‭. ‬ولكن‭ ‬قُواه‭ ‬لم‭ ‬تستجب‭ ‬له‭.‬

‬الكاتب‭ ‬محمود‭ ‬المسعدي‭

كان،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬سائر‭ ‬أدباء‭ ‬عصره،‭ ‬أكثرهم‭ ‬طرافة‭ ‬فيما‭ ‬انتهج‭ ‬من‭ ‬توجّهات،‭ ‬وأعمقهم‭ ‬فيما‭ ‬حاول‭ ‬من‭ ‬معان،‭ ‬وأجزلهم‭ ‬لغة،‭ ‬وأصفاهم‭ ‬أصالة‭.‬

فقد‭ ‬كتب‭ ‬بلغة‭ ‬متأصّلة‭ ‬في‭ ‬أمجادها‭ ‬العريقة،‭ ‬لكن‭ ‬بمضامين‭ ‬ذاتية،‭ ‬تنتسب‭ ‬إلى‭ ‬الحداثة،‭ ‬هواجس‭ ‬ومشاعر،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تُذكّرنا‭ ‬بنثر‭ ‬أكابر‭ ‬أدبائنا‭ ‬في‭ ‬ماض‭ ‬مجيد‭.‬

تناول،‭ ‬في‭ ‬كتاباته،‭ ‬منزلة‭ ‬الإنسان‭ ‬ولعلّها‭ ‬تتمحور،‭ ‬عنده،‭ ‬فيما‭ ‬اعتبره‭ ‬مأساة‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني،‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬مُعضلات‭ ‬المصير،‭ ‬ومغلّـقات‭ ‬الغيب‭. ‬فأضفى‭ ‬على‭ ‬نثره،‭ ‬من‭ ‬سحر‭ ‬العبارة،‭ ‬وروعة‭ ‬الخاطر،‭ ‬ما‭ ‬جعله‭ ‬نموذجا‭ ‬فريدا‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭.‬

ولئـن‭ ‬كان‭ ‬أسلوبه‭ ‬يذكّر‭ ‬ببعض‭ ‬أسلافه‭ ‬القدامى،‭ ‬ولئن‭ ‬كانت‭ ‬خلجات‭ ‬معانيه‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يُخالطها‭ ‬استيحاءات‭ ‬من‭ ‬الأدب‭ ‬الأوروبي،‭ ‬فلا‭ ‬هذا‭ ‬الشبه،‭ ‬ولا‭ ‬ذاك‭ ‬المأخذ،‭ ‬يرقى‭ ‬إلى‭ ‬المسّ‭ ‬بالروعة‭ ‬والفذاذة‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬المسعدي‭.‬

أسلوبه‭ ‬في‭ ‬محاضراته،‭ ‬مثل‭ ‬منهجه‭ ‬في‭ ‬نثره،‭ ‬مُمتِعٌ،مُغلَّقٌ،‭ ‬مُمتنع‭ ‬المحاكاة،‭ ‬مع‭ ‬جزالة‭ ‬اللفظ،‭ ‬ورجّة‭ ‬المشاعر،‭ ‬وفخامة،‭ ‬في‭ ‬الصوت،‭ ‬يتميّز‭ ‬بمثلها‭ ‬مَن‭ ‬اعتـُبِر،‭ ‬طيلة‭ ‬حياته،‭ ‬عميدَ‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬وقد‭ ‬شُغف‭ ‬بمطالعة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬السدّ‮»‬،‭ ‬وأعاد‭ ‬قراءته‭ ‬مِرارا،‭ ‬لعـلّه‭ ‬يظفر‭ ‬بحلّ‭ ‬رمزيّة‭ ‬معانيه‭. ‬وعندي‭ ‬أنّ‭ ‬طه‭ ‬حسين،‭ ‬في‭ ‬قراءته‭ ‬للسدّ،‭ ‬إنّما‭ ‬خَلبَت‭ ‬سمعَه‭ ‬لغتُه‭ ‬وأسلوبُه‭ ‬الكتابي‭ ‬؛‭ ‬دُون‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬النفاذ‭ ‬إلى‭ ‬معنى‭.‬

من‭ ‬جلّ‭ ‬كتاباته،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬أحاديثه‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬عزّ‭ ‬قواه،‭ ‬وفـُتوّة‭ ‬شبابه‭ ‬–‭ ‬كان‭ ‬يتضوّع‭ ‬أريج‭ ‬الإيمان‭ ‬بأنّ‭ ‬الأدب‭ ‬علاج‭ ‬الحَيرة‭. ‬فجاء‭ ‬أدبه‭ ‬مضطرما،‭ ‬فكرا‭ ‬ولفظا‭. ‬فلقد‭ ‬كتبه‭ ‬في‭ ‬عزّ‭ ‬شبابه،‭ ‬وقبْل‭ ‬أن‭ ‬تتغلـّب‭ ‬لديه‭ ‬هموم‭ ‬الحياة‭ ‬اليوميّة،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تستأثر‭ ‬بفكره‭ ‬شواغل‭ ‬المجتمع‭. ‬أدبه‭ ‬مُقترنٌ‭ ‬بِفَوْرة‭ ‬الشباب،‭ ‬ونبض‭ ‬الفكـر،‭ ‬وصراع‭  ‬مأساة‭ ‬رَمزَ‭ ‬إليه‭ ‬بـ«السدّ‮»‬‭.‬

فلمّا دُعي، في منتصف العُمر، إلى معترك الكرامة والنهوض، إذا مسؤوليّة الإسهام في البناء تُنسيه مآسي الحيرة، وصراعات السدود ؛ وإذا هو ساع لِكفاح يُخرجه ممّا كان انغلق عليه من الفردية، لِيقذف به في معترك «الغيريّة»، «تأصيلا لِكيان» وطني.

مسيرة المسعدي(2)

لا شكّ أنّه من أفذاذ تونس. بدأ حياته الاجتماعية أستاذا، في طليعة المربّين، فكرا وطموحا وحزما. ثمّ أثبت منزلتَه بين أهمّ كُتّاب العربيّة، نثرا فنّيا فريدا في نوعه، لِما يُخالجه من أريحيات شِعريّة، وما يُداخله من أتواق فلسفيّة، وما أراد به من انتماء إلى «الأدب الكبير» بعيدا عن المجتمع.

لكن في منتصف مساره الاجتماعي، إذا هو يلتحق بالنّضال النِّقابي، صحبة الزعيم فرحات حشاد.وإذا به يَصبح العضدَ الثقافي لزعيم اضطلع بدور تاريخي في تمكين الكفاح التحريري من قاعدة شاملةٍ للشغّالين، كافة، بالساعد وبالفكر. وكان ذلك مُنعرجًا في حياة المسعدي، جعَله يقترب من الأوساط الشعبيّة، فيُلقي خُطبه بلـُغة بين الفُصحى والدارجة ولكنّها دارجة الأديب المثقّف.

قد كانت أغلب دروسه مُحاضرات، يُلقيها بصوته الجهوري، ذهابا وإيابا بين صفوف التلاميذ، متحدّثا عن رسالة الأدب، جوهر الوجود، في نظره. وكانت العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه وتشرّفتُ بأن كنتُ منهم على نمطٍ فريد من الجِدّ والحزم، مع التزام أسلوب في التخاطب يقي العلاقة من الابتذال. وكان تلاميذه أوّلَ قُرّاء مقالاته التي يَنشرها في مجلّة المباحث. وهم الذين كانوا يُروِّجون لها في مختلف الأوساط.

ومن مقالات المسعدي، في المباحث، شاعت مقولةٌ علِقت بالأذهان، وهي أنّ «الأدب مأساةٌ أو لا يكون». ولا يهمّ أن يَعرف تلاميذه أنّ هذه المقولة تُذكِّر بمناخ بعض كتاباتٍ أوروبية، يَنظُر أصحابُها إلى الحياة على أنّها مغامرةُ، مآلها على منوال المآسي المسرحية اليونانية.

والمسعدي، على غرار زعماء الوجوديّة في فرنسا وظنّي قبل أن يكون لهم شأن أدبي وإعلامي يرى أنّ الأدب جدّ والتزام، لا تَرفٌ ولهْوٌ. فقد بدأ الالتزام، عند المسعدي، من أجل معالجة المنزلة الإنسانيّة. ثمّ اعتنق النضال الوطني، فتطوَّرَ به الالتزام إلى كفاح من أجل حريّة الوطن، وكرامة المجتمع. كان المسعدي ينظر إلى الأدب على أنّه من أهمّ وسائل إثبات الذاتِ، وتأصيل الكيان. فلم يَتَّبع ما ذهب إليه بعض «المهاجرين» ثقافيّا، من مواطنيه، إذ كتبوا بالفرنسية على أنّه كانت له تجربة من هذا القبيل في شبابه، لكنّها لم تطل، ولم يتحدّث عنها. ثمّ صار الهمّ النقابي محورَ شواغله الخاصّة والاجتماعيّة، وفي قلب حياته العائليّة إلى جانب زوجته الباسلة، شريكة كفاحه.

وهذا التطوّر، في حياة المسعدي، أدخل على سلوكه سِماتٍ جديدة، من أهمّها مسحة ٌمن التواضع، بعد أن كان يُعرف عنه نبرةٌ من الخيلاء.

يَقترن اسم المسعدي بكِتاب السدّ. كان ألّفه في عزّ شبابه، بعد أن ألقى، على الورق، شذراتٍ منه، بالفرنسية؛ ثمّ تفرّغ لكتابته على النحو الذي نعرفه؛ وبقي في مخبّآته، حتى صَحَّ منه العزم، فدفع به إلى الطبع. ولم يكن ذلك من باب الصدفة: فلا شكّ عندي أنّ «السدّ» يروي قصّة التزام، وطورا من كفاح فكري، اجتازه الأديب بالتغلّب على القنوط، الذي طالما جعل بينه وبين الحياة «سُدّا» يمنعه من التعاطي مع شواغلها. لكن بنشر «السدّ»، انفتحت مسيرة جديدة أمام المسعدي، إذ طبّقت شهرتُه الآفاق؛ ثمّ كَتَبَ عنه، بالثناء والإعجاب، عميدُ الأدب العربي، طه حسين. على أنّ الكِتاب لم يَحظ بما كان به جديرا، لا في مصر، ولا في بقية أقطار المغرب والمشرق. وحُرم الشبابُ العربي، من الاطّلاع على لغةٍ، وأسلوبٍ في الكتابة، وفكر في النظر إلى الحياة، على طرافة بالغة الأهمّية.

أمّا بقية مراحل مسيرة المسعدي، منذ قِيام المجتمع الجديد، بعد الاستقلال، فمُشْرقَةٌ:

فقد استنارت بهديه وزارةُ التعليم؛ وشَرُفَت بإطلالته وزارة الثقافة؛ وكَرُم برئاسته مجلسُ النواب. والحقُّ يُقال: هذه الشُرُفاتُ، التي أطلَّ منها المسعدي على المجتمع الجديد، لم تـَزِدْ في قيمة الرجل، ولا في قامة الأديب، إذ كان قد ارتفع ذكرُه بفضل كبير أدبه.

الشـاذلي القليبي

(1) من حديث إذاعي للكاتب

(2) حديث للكاتب أُلغي عن المسعدي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.