أخبار - 2017.02.28

الحبيب التّـهامي: الطبقــات‭ ‬الوسطى‭ ‬في‭ ‬تــــونس‭ ‬بعـــد‭ ‬14‭ ‬جانفي‭ ‬2011

الطبقــات‭ ‬الوسطى‭ ‬في‭ ‬تــــونس‭ ‬بعـــد‭ ‬14‭ ‬جانفي‭ ‬2011

تكاثرت الأطروحات والمجادلات حول تآكل الطبقات الوسطى في تونس نتيجة للأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية الخانقة التي تمرّ بها البلاد منذ ست سنوات دون أن تفصح عن حصيلة مقنعة، شأنها شأن كل المجادلات والأطروحات التي مسّت اختلال توازنات الميزان التجاري والصناديق الاجتماعية والمالية العمومية مثلا. ويعبر هذا عن السطحية التي تمّ بها التعامل مع مشاكل البلاد وعن رداءة وتدنّي مستوى النقاش السياسي والفكري الدائر في تونس منذ 14 جانفي 2011.

وما من شك أنّ الأزمة المشار إليها أدخلت على تركيبة وحجم مختلف الطبقات الاجتماعية تغيّرات ملحوظة بالرجوع إلى ما وقع في البلدان التي مرّت بأزمات مشابهة حيث لوحظ انزلاق نسبة من الطبقات الوسطى السفلى لتلحق بالطبقات الفقيرة وصعود نسبة من الطبقات الوسطى العليا لتلحق بالطبقات الاجتماعية العليا، إلا أنّ النقاش الذي دار حول هذا الموضوع في تونس افتقد إلى حدّ أدنى من المنهجية لأنه لم يعتمد على معطيات علمية ثابتة ولا على تعريف واضح ودقيق للطبقات الاجتماعية.

والواقع أنّ تآكل الطبقات الوسطى في تونس لم يبدأ مع الأزمة السائدة حاليا رغم أنّ المعهد الوطني للإحصاء أشار في نشرته المتعلقة بنتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك ومستوى عيش الأسر لسنة 2005 إلى أنّ نسبة الطبقات الوسطى من مجمــوع السكان تطوّرت مـن  70,6 % في سنة 1995 إلى 77,6في سنة 2000 وإلى 81,1 % في سنة 2005، وهذا ما سنعود إليه لاحقا عند مناقشة تعريف الطبقات الوسطى بالاعتماد على شرائح الإنفاق بل إنّ هذا التآكل بدأ منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي جرّاء تقلص نسبة الأجور في الناتج الداخلي الخام وجرّاء المردود الانعكاسي للتحويلات الاجتماعية التي يزداد الانتفاع بها كلما ارتفع الدخل.

كيف نعرّف الطبقات الوسطى؟

يطلق مصطلح الطبقات الوسطى عموما على فئات المجتمع التي تقع في وسط الهرم الاقتصادي والمالي أو التي تقع في وسط الهرم الاجتماعي المهني وهما طريقتان مختلفتان وغير متقاطعتين بالضرورة، فإذا استند تعريف الطبقات الوسطى إلى الناحية الاقتصادية والمالية فإنّه يستند تباعا إلى تقسيم السكان حسب شرائح الدخل وإن تعذّر حسب شرائح الإنفاق وهي الطريقة التي يتّبعها المعهد الوطني للإحصاء، أما إذا استند التعريف إلى الناحية المهنية فإنه يستند تباعا إلى تقسيم السكان حسب المركز الاجتماعي المهني لأرباب الأسر. وُتضبط حدود الطبقات الوسطى في الحالة الأولى بالرجوع إلى الشريحة أو الشرائح المتوسطة للدخل أو الإنفاق فمن زاد دخله أو إنفاقه على هذا المستوى حُشر ضمن الطبقات الغنية أو العليا ومن نقص دخله أو إنفاقه على هذا المستوى حُشر ضمن الطبقات الفقيرة أو السفلى. ولقد اعتمد المعهد الوطني للإحصاء على توزيع السكان حسب شرائح الإنفاق لحساب نسبة الطبقات المتوسطة من مجموع السكان لأسباب عملية ،ذلك أنّ توزيع السكان حسب شرائح الدخل غير متوفّر وهذا عيب كبير في حد ذاته تعود أسبابه أساسا إلى فقدان الإرادة السياسية. ولقد صرّح المعهد الوطني للإحصاء في 2005 برأيه علانية حول تطوّر نسبة الطبقات الوسطى من مجموع السكان بمناسبة نشره لنتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك معتبرا أنها تزايدت بين سنتي 1995 و2005  لأنّ نسبة مجموع شرائح الإنفاق الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة من مجموع السكان تزايدت في هذه الفترة وهي حدود الطبقات الوسطى كما يراها المعهد. ولكنّه سكت بعد ذلك فلم يفصح رسميا بمناسبة نشره لنتائج المسح في سنتي 2010 وفي 2015 عن تطوّر نسبة الطبقات الوسطى مكتفيا بإضافة شريحة ثامنة للإنفاق دون شرح تأثيرها في تحيين النسبة المشار إليها.

وينشر المعهد الوطني للإحصاء أيضا معلومات تهمّ توزيع السكان حسب الصنف المهني والاجتماعي لربّ الأسرة تبدأ تنازلا بالإطارات والمهن الحرة العليا ثم الإطارات والمهن الحرة المتوسطة ثم أعوان آخرين ثم الأعراف في الصناعة والتجارة والخدمات ثم المستقلين في الميادين السالفة الذكر ثم العملة غير الفلاحيين ثم الفلاحيين ثم العملة في الفلاحة إلى آخر ذلك من 12 صنفا بما في ذلك المتقاعدون. إلا أنّ النظر في مستوى الإنفاق الأسري أو الفردي لهذه الأصناف يدخل على الترتيب المعتمد من طرف المعهد الوطني للإحصاء شكّا كبيرا في إمكانية تقريبه بالمعطيات التي تهمّ شرائح الإنفاق حيث نلاحظ أنّ المتقاعدين يحتلون المركز الثالث من ناحية مستوى الإنفاق وأنّ الأعراف في الصناعة والتجارة والخدمات يحتلون المركز الرابع عوضا عن الأعوان الآخرين. يبقى أنّ العملة بجميع أنواعهم والعاطلين عن العمل والفلاحين يحتلون المراكز الأخيرة من ناحية مستوى الإنفاق مع أنّ هذه الأصناف لا تكوّن وحدة  سوسولجية وهذا من الدوافع التي تجعل من الصعب المقاربة بين نتائج الطريقة الأولى والطريقة الثانية في تحديد نسبة الطبقات الوسطى من مجموع السكان.

ونستخلص من هذه التوطئة المتعلّقة بمفهوم الطبقات الوسطى ما يلي:

1 - أنّ الاعتماد على توزيع السكان حسب شرائح الإنفاق لحساب نسبة الطبقات المتوسطة من مجموع السكان لا يفي بالحاجة ولكنه يبقى الوسيلة الوحيدة الموصلة لذلك على ضوء المعلومات الإحصائية المتوفّرة في بلادنا.

2هناك فرق واضح بين الإنفاق والدخل مع وجود ترابط بينهما وهناك فرق واضح أيضا بين الدخل والثروة الممتلكة مع وجود ترابط بينهما كذلك وبالتالي فإنّ الفروق على صعيد الإنفاق لا تترجم كليا الفروق على صعيد الدخل والثروة الممتلكة.

3 - ما قيل وما كُتب السنة الماضية حول تناقص الطبقات الوسطى أو تآكلها لا يستقيم لأنّ المعهد الوطني للإحصاء لم يفصح إلا أخيرا عن نتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015.

نتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015

كما أشرت سابقا فإنّ المعهد الوطني للإحصاء أضاف شريحة ثامنة للإنفاق بداية من سنة 2010 ونشر تطوّرا للتوزيع النسبي للسكان بين سنتي 2000 و 2010 حسب شرائح الإنفاق السنوي للفرد بأسعار سنة 2010 ممّا أدخل على نسبة الطبقات الوسطى من مجمل السكان تغييرات، من ذلك أنّ هذه النسبـة بلغت 78.8 % في 2005 عوضاعن 81.1 % المصرّح بها سابقا. ولكن المهم هنا أنّ المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015 بيّن أنّ نسبة الشريحة الثامنة أي الطبقات العليا من مجمل السكان بلغت 25,4 % مسجلة تطوّرا مرموقا بين سنتي 2010 و 2015 في حين سجّل مجمل الشرائح الأولى والثانية أي الطبقات الضعيفة تقلصا لافتا أيضا حسب المعهد ممّا من شأنه أن يفسّر تقهقر نسبة الفقر حسب المعهد أيضا.

ومهما يكن من أمر،  فإنّ المعلومات التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء بشأن المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015 لم تتضمن إطلاقا رأي المعهد فيما يخص تحيين نسبة الطبقات الوسطى من السكان وسكوت المعهد هنا كما كان الشأن في الوثيقة المتعلقة بالمسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2010 دلالة واضحة ومباشرة على دقة الموضوع علميّا وعلى حساسيته سياسيّا، فضلا  عن تحرّج المعهد من الإدلاء برأيه. وهكذا ترك المعهد الوطني للإحصاء مجالا كبيرا للنقاش حول نقطة لا يمكن البتّ فيها في كل الأحوال عبر توزيع السكان حسب شرائح الإنفاق فقط. على أنّ المعهد الوطني للإحصاء نشر جملة من المعطيات يجب الوقوف عندها حتى تكون لنا صورة عن جملة التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية التي حصلت في تونس بين سنتي 2010 و 2015 نلخّصها كالتالي:

1 - بلغت نسبة السكان الذين يقلّ إنفاقهم الفردي السنوي عن 500 دينار في سنة 2015 ما يقارب 0,1 % ونسبة السكان الذين ينفقون بين 500 و 750 دينارا 0,8 % والسكان الذين ينفقون بين 750 و 1000 دينار 2,1 % والسكان الذين ينفقون بين 1000 و 1500 دينار 8,1 % وهي الشرائح الأربع الأولى ومجملها 11,1 %. كما بلغت نسبة السكان الذين ينفقون بين 1500 و 2000 دينار 12,5 % بالمائة والسكان الذين ينفقون بيـــن 2000 و 3000 دينــار 26,4 % والسكان الذين ينفقــــون بين 3000 و 4500 دينار 24,5 %. وبالتالي فإنّ نسبة السكان الذين ينفقون بين 1500 و 4500 دينار بلغت 63,4 % واعتمادا على مستوى الفقر الذي أقرّه المعهد نفسه (15,2 %من مجمل السكان) فإنّ نسبة الطبقات الوسطى لا يمكن أن تتجاوز في كل الأحوال نسبة 63,4 %.

2 - هيكلة الإنفاق أي نسبة كل باب من أبواب الإنفاق الرئيسية كالتغذية واللباس والسكن من مجمل الإنفاق دلالة على تطوّر المجتمع إما إيجابا و إمّا سلبا فلمّا تنقص نسبة الإنفاق الموجّهة إلى تغذية نستخلص أنّ الدخل ارتفع نسبيا وأنّ الحاجيات المعبّر عنها بالأولية لُبّيَت  إلى حد ما ليخصّص جزء أكبر من الإنفاق للاستجابة إلى الحاجيات الموالية في الترتيب كالسكن واللباس ثم بعد ذلك لتلبية الحاجيات المتعلقة بالصحة والنظافة والتعليم إلى أن نصل إلى الحاجيات المتعلقة بالترفيه والسياحة. فبعد أن شكّل الإنفاق على التغذية نصف الإنفاق العائلي تقريبا كمعدل في منتصف السبعينات من القرن الماضي انخفض تدريجيا بعد ذلك ليصل إلى 34,8 % في 2005 و29,3 % في 2010 28,9 % في 2015. إلا أنّ هيكلة الإنفاق الأسري تختلف كما هو متوقع حسب شرائح الإنفاق. فالشريحـــة الأولى من الإنفـــاق ( أقل من 500 دينار سنويا للفرد) تخصّــص 33,2 % من إنفاقها للتغذية في 2015، في حيــن تخصّص الشريـحـــة الثــانية (مـــن 500 د إلى 750 د) 40,7 % والشـريحة الثالثة (من 750 د إلى 1000 د) 40,0 % والشريحة الرابعة (من 1000 د إلى 1500 د) 38,4 % والشريحة الخامسة (من 1500 د إلى 2000 د) 36,5 % والشريحة السادسة (من 2000 د إلى 3000 د) 34,8 % والشريحة السابعة (من 3000 د إلى 4500 د) 32,5 % في حين لا تخصّص الشريحة الثامنة والأخيرة (4500 د فما فوق) إلا 23,7 % فقط من إنفاقها للتغذية.

وربما يلحظ عدد من القراء تعارضا بين العلاقة المشار إليها أي انخفاض نسبة النفقات الموجّهة للتغذية كلما ارتفع الإنفاق الجملي فيما يخصّ الشريحة الأولى (أقـــل مــن   500 دينار سنويا للفرد) حيث تخصّص هـــذه الشريحـــة الأكثر فقــرا 33,2 % من إنفاقها للتغذية وهي نسبة  قريبة جدا من النسبة (32,5 %) التي تخصّصها الشريحة السابعة (من 3000 د إلى 4500 د) للتغذية والجواب هنا أنّ قسوة الفقر هي التي حتّمت على الشريحة الأولى الضغط على مصاريف التغذية لسدّ حاجياتها المتأكدة في السكن (45,9 %) وهي أعلى نسبة تسجّل إطلاقا. وتعزز استدراكنا للشذوذ عن القاعدة المشار إليها آنفا نسبة الإنفاق المخصص للتغذية حسب عشيرات الإنفاق، إذ نلاحظ أن العشير الأول (الأكثر فقرا) يخصّص 39,0 % من نفقاته للتغذية وهي أعلى نسبة تسجّل ثم تبدأ هذه النسبة في الانخفاض تدريجيا لتصل إلى 19,8 % فقط بالنسبة للعشير العاشر(الأكثر ثروة).

ويتناغم مستوى الإنفاق الفردي حسب الأبواب الرئيسية للإنفاق والصنف المهني والاجتماعي إلى حدّ ما مع هيكلة الإنفاق حسب شرائح الإنفاق إذ نلاحظ أنّ الإنفاق لفائدة التغذية وصل إلى22,3 % بالنسبة للأسر التي ترأسها الإطــارات والمهــن الحرة العليـــا ووصــل إلى 25,2 % بالنسبة للأسر التي ترأسها الإطارات والمهن الحرة المتوسطة ووصل إلى 35,2 % بالنسبة لأسر العملة الفلاحيين وهي أعلى نسبة تضمّنتها نشرة المعهد الوطني للإحصاء الخاصة بنتائج المسح الوطني حول الإنفاق والاستهلاك لسنة 2015.

وبالمقارنة مع هيكلة الإنفاق حسب الأبواب وشرائح الإنفاق لسنة 2005 وهي السنة الأخيرة التي أفصح بمناسبتها المعهد الوطني للإحصاء عن نسبة الطبقات الوسطى حسب رأيه يتّضح أنّ التطور العام الإيجابي الذي شهدته هيكلة الإنفاق هذه بين 2005 و 2015 لا يمكن أن يؤخذ كدلالة على ازدياد نسبة الطبقات الوسطى من مجموع السكان ولو أنّ نسبة الفقر تقلّصت  إبان الفترة المذكورة ولو أنّ المؤشر التأليفي «جيني» الذي يلخص درجة التفاوت في توزع الإنفاق الأسري تقلّص كذلك (من0,41 إلى 0,309 حسب المعهد)، لأنّ تقدير نسبة الطبقات الوسطى يخضع في النهاية إلى قراءة معمّقة في التغيّرات التي حصلت داخل التركيبة الاجتماعية وهي مسألة نسبية بالأساس.

الخلاصة

ما من شكّ أنّ الطبقات الوسطى في تونس عانت نسبيا أكثر من غيرها تبعات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد منذ سنوات لأسباب تتعلق بتدهور القدرة الشرائية للأجور وباستفحال بطالة حاملي الشهادات العليا وبغلاء المعيشة وخاصة نفقات السكن وبالضغط المتزايد عليها من جراء الضرائب المسلطة عليها ، هذا الضغط الذي يتزامن مع استفحال التهرّب الجبائي لأصناف مهنية واقتصادية مؤثّرة، وكذلك جرّاء المردود العكسي لمجمل التحويلات الاجتماعية. وحتى ولو صعب الاتفاق حول تحيين نسبة الطبقات الوسطى بعد نشر المعهد الوطني لنتائج المسح الوطني حول الاستهلاك 2015 فمن المؤكد أنّ هذه النسبة تناقصت وهذا يكفي لإطلاق صفارة الإنذار لأنّ تآكل الطبقات الوسطى من أعلى أو من الأسفل يشكّل خطرا كبيرا على ترابط المجتمع التونسي وتماسكه.

الحبيب التّــهامي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.