علي اللواتي: التّجريد في الفن التّشكيلي إلى أين؟
أدّى ظهور التّجريد في الفنون التّشكيليّة بتونس على يد جيل جديد من الفنّانين، في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، دورا هامّا في تطّور الحركة الفنيّة وفي السّاحة الثّقافية التي كانت، آنذاك، تعيش بداية تحوّلات في مفاهيم الأدب والموسيقى والمسرح والسّينما. وقد طرح الرّسّامون التجريديّون أمثال الهادي التّركي ونجيب بالخوجة ورفيق الكامل وغيرهم رؤى جديدة ـــ في المستوى المحلّي على الأقلّ ـــ حول دور الفنّ ووظائفه في المجتمع واتّجهت إلى البحث عن صلات بالثّقافات الأخرى تخرج الفن التّشكيلي من حدود المحليّة أو إلى إعادة الصّلة بالموروث الفنّي لثقافة العربيّة الإسلاميّة.
ورغم أنّ نجــــم التّجريــــد في الفنّ العالمي بدأ آنذاك في الأفول بعد عقود من الازدهار، فإنّ ظهوره بتونس يُعدُّ علامةً صحيّة لما كان يحمله من رؤى وأفكار تساوقت مع اتّجاهات تجديديّة أخرى في مجالات الفنون والآداب. لم يكن مجرّد نزعة فنيّة بل مناخا فكريّا حافلا بالنّقد والمراجعات للفنّ السّائد، ممّا ساهم خلال الستّينات والسّبعينات في بعث حركة ثقافيّة نشطة ومتنوّعة. لقد رأى بعض الفنّانين في التّجريد ضرورةً ملحّة للخروج من أزمة حصرت التّعبير في جملة مواضيع تشخيصيّة لا تكاد تخرج عن المشاهد الشّعبية والصّورة البشريّة (portrait) والمنظر الطّبيعي والطّبيعة الصّامتة (nature morte). ورغم أنّ التّشخيص كان له ممثّلوه المميّزون من فنّاني مدرسة تونس وغيرهم أمثال عمّار فرحات وعبد العزيز قرجي وعلي بن الآغا والزّبير التّركي وحاتم المكّي، لاّ أنّه تحوّل عند آخرين إلى تسجيليّة باهتة تُنفَّذُ غالبا بمعالجات مدرسيّة.
من النّظرة الخارجية إلى الرؤية الباطنية
يتمثّل الرّسم التّجريدي أساسا في الابتعاد (أو الانفصال) عن الواقع المرئي في أشكاله الملموسة للتّركيز على مساحة اللّوحة من حيث كونها حيّزَ علاقات تشكيليّة بذاتها ؛ فالهدف ليس نقل صورة العالم الخارجي أو تأويلها وإنّما ترجمة الأحاسيس الذّاتيّة للفنّان إلى منظومة أشكال وألوان مجرّدة من أيّ مضمون «حكائي». ورغم أنّ التّجريد ظلّ فنّا نخبويّا لما يطرحه من أفكار غير معتادة للجمهور الواسع، إلاّ أنّه كان بالغ التّأثير في الثّقافة عموما إذ خلق، لدى فئة المثقّفين على الأقلّ، وعيا غير مسبوق بمكانة الفنّ ومعانيه ووظائفه بما كان يثيره من أسئلة ملحّة في إطار الحداثة.
أثر التّجريد في الحركة التّشكيليّة
وقد أثّر التّجريد، على نحو ما، حتّى في مسار بعض الفنّانين التّشخيصيين مولّدا لديهم مزيدا من الاهتمام بالعناصر التشكيليّة البحتة في بناء العمل، بل لقد دفع بعضهم من كبار رسّامي مدرسة تونس إلى تأويلات للواقع المنظور حوّلته من الوضوح والاستقرار إلى تعبيريّة تعتمد المجاز والاختزال وحتّى الغموض مثلما تشهد بذلك أعمال عبد العزيز قرجي الذي تخلّى منذ نهاية ستّينات القرن الماضي عن منمنماته الرّصينة إلى ضرب من التّشخيص «الخام» أو «الطّفولي». ونلاحظ أثر التّجريد أيضا في الدّفع إلى مزيد العناية بالضّرورات الشّكليّة، فنرى علي ابن الآغا، مثلا، يغادر أجواءه اللّونيّة الانفعاليّة إلى تمثيل الأشياء والشّخوص باختزال ضمن تكوينات يختفي منها البعد الثّالث وتُنْجَزُ بخطوط واضحة ومعالجة لونيّة حرّة.
رسّامون تجريديّون
وعلى الرّغم من تطوّر الفنّ التّجريديّ في شبه عزلة عن الجمهور العريض إلا أنّه جلب إليه رسّامين قدّموا تجارب مميّزة امتدّت على مدى عقود؛ منهم الهادي التّركي وهو أحد روّاد ذلك الفنّ حيث اكتشف «التعبيريّة التّجريديّة» خلال رحلة دراسيّة إلى الولايات المتّحدة سنة 1959، ثمّ تحوّل إلى تجريد تأمّلي قوامه مساحات هادئة ذات حدود ضبابيّة تغطّيها ألوان شفّافة. وقد أنجز الهادي التركي فيما بعد، مع احتفاظه بالمعالجة اللّونيّة ذاتها، تّكوينات تغطّيها خطوط متوازية ذات تأثير بصري يذكّر بأسْدِيَةِ النسيج وأخرى تلمّح إلى ما يشبه المناظر الطّبيعيّة.
ومن مزايا التّجريد أن دفع إلى الاهتمام بالإرث الفنّي الإسلامي وإعادة اكتشاف خصوصياته التّشكيليّة التّي سبقت بقرون ظهور مفاهيم الفنّ الحديث الأوروبي في منتصف القرن التّاسع عشر، وذلك بتركيزه على تعبيريّة الأشكال في ذاتها وإعراضه عن نقل الأشياء كما تبدو في الواقع. وقد أفاد فنّانون تونسيون من تلك العودة إلى المنابع وكان من أبرزهم نجيب بالخوجة الذي استوحى بِنْيَةَ العمارة الإسلاميّة وهيكلية الخطّ الكوفي، ولطفي الأرناؤوط المُتأثّر بتكوينات الرّقش العربي ونجا مهداوي الذي قدّم تأويلا بصريّا خاصّا للخطّ العربي. وخاض فنّانون آخرون تجارب تجريدية مميّزة منهم رضا بالطّيّب بتكويناته العتيدة واحتفائه باللّون الأزرق وحسن السّوفي بأسلوبه الهندسيّ وعبد الرّزّاق السّاحلي الذي أنتج أعمالا تؤديّ فيها العلامات دورا بنيويا والحبيب شبيل ذو الأسلوب المُشْبَع بشاعريّة عميقة وهادئة.
الذروة ثم الانحسار
وتلا التّجريديين الأوائل جيل ثان من الرسّامين خلال السّبعينات والثّمانينات، اجتمعوا حول قاعات رفعت شعارات الطّليعة مثل «ارتسام» و»التّصوير» و»شِيم»، من بينهم رفيق الكامل والحبيب بيدة ونورالدين الهاني ورشيد الفخفاخ وابراهيم العزّابي وأسماء منوّر وغيرهم ممّن لهم مساهمات متقطّعة في التّظاهرات الفنيّة. ولا يزال بعضهم متمسّكا، منذ عقود، بتجريد خالص بعيدا عن صخب ساحة فنيّة اختلط فيها الحابل بالنّابل.
لقد نما الاتّجـــاه التّجـــريدي في تـــونس على مدى عقدين من الزّمن، وتنوّعت تجــاربه وسيطر أو يكاد على الحركة التّشكيليّة إلى موفّى الثّمانينات ثمّ أخذ في الانحسار مع عودة بعض أتباعه إلى التّشخيص وظهور جيل جديد ركب موجة التّشخيصيّة المحدثة النّاشئة في الفنّ العالمي، بينما اتّبع آخرون موجة «واقعيّة جديدة» تخلّت عن الرّسم أصلا واتّجهت إلى عرض أشياء وقطع من العالم الملموس في ما يُسمّى بالتنصيبات (installations) التي اكتسبت هيمنة واضحة في تظاهرات الفنّ المعاصر.
إرث التّجريد الضّائع
واليوم وقد أدركت الوفاة بعض التجريديين الكبار أمثال رضا بالطّيّب ونجيب بالخوجة وعبد الرّزاق السّاحلي وأقعد المرض آخرين مثل الهادي التّركي فقد بقي منهم قلّة يجهدون من أجل أن يحتفظ ذلك الفنّ ببعض الحضور في محيط يعجّ بأعمال هي أقرب إلى سلعة تُعرض في الأروقة العديدة دون استناد إلى تنظير جادّ ودون أن يبرز من بينها ما يشكّل اتّجاها يطرح بوعي قضايا الفنّ وموقعه من حياة المجتمع. لقد أدّى التّجريد في زمنه دورا هامّا في تغيير الذهنية الثقافيّة وخلق مجالا للجدال والحجاج وتبادل الآراء باتت السّاحة التّشكيليّة ما تفتقر إليه اليوم بعد أن تحوّلت إلى سوق والأعمال الفنيّة إلى مجرّد بضاعة. فهل تكون للتّجريد عودة قويّة إلى فضاء الإبداع وهل لا يزال بإمكانه التّعبير عن رؤى جديدة تحرّك السّواكن وتنير الطّريق إلى المستقبل؟.
علي اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق