أخبار - 2016.11.23

الحبيب الدّريدي: تَـخلُــدُ‭ ‬بَـعْــــدهم‭ ‬أحـاديثُـهم‭ ...‬

تَـخلُــدُ‭ ‬بَـعْــــدهم‭ ‬أحـــاديثُـهم‭ ...‬

كلّما أراد بعضنا أن يستعرض خيرة الأعلام التّونسيّين في الفكر والثّقافة أو في العلوم والآداب اكتفى غالبا بالعودة إلى عهود سالفة يسترجعها وأزمنة ماضية يستحضرها، فذكر ابن خلدون وابن رشيق وابن الجزّار وابن عرفة وابن منظور... وقلّما التفت إلى المعاصرين وأعلام الماضـي القريب والحاضر القائـم، وذاك ما سمّاه أحد نقّادنا «حجاب المعاصرة».

ظلّ كثير من رجالات العلم والفكر والثّقافة قليلي الحظّ من العناية والاهتمام رغم غزارة عطائهم وقيمة إضافاتهم وبالغ إسهامهم في إغناء الثّقافة الوطنيّة وتزكية الحياة الفكريّة ببلادنا.

وقد لا يُلتفـــتُ إلى هـــؤلاء الأعـلام إلّا بعد أن يغـــادرونا فتُقام تحيّةً لأرواحهم مواكب التّأبين والأربعينيّات، وتلتئم إحياءً لذكراهم بعــضُ النّدوات والملتقيات، وتُكتب في شأنهم بعض المراثي وكلمات الوفاء ثمّ يلفّهم النّسيان من جديدوالحقّ أنّ أكثر من أعطوا وبذلوا بعيدا عن الاحتفاء والتّنويه وبمنــأى عن الإكبار والتّثميــن هم رجـال العلم في الجـامعة التّونسيّــــة ولا سيّما الروّاد المؤسّســـون والبُناة الأوائل الذّين كافحوا من أجل إحداث النّواة الأولى للتّعليم العــالي في تونس المستقلّـة منــذ ما يقرب ستّين عاما (1958)، فقد عملوا في صمت تعفّفا وترفّعا وزُهدا في الأضــواء، ولكن أيضا تنــاسيا من عديد وسائل الإعلام وإعـــراضا عن العلـــم وأهله.

وقد وافــت المنيّة كثيرا منهم في السّنوات الأخيرة على غرار الأساتذة أحمد عبد السّلام (1922 - 2007) ومحمّد عبد السّلام (1934 - 2008) والشّاذلي بو يحيى (1918 - 1997) وفرحات الدّشراوي (1928 - 2007) ومحمّد السّويسي (1915 - 2007) فلم نرَ إحياء يليق بمكانتهم العلميّة والفكريّة إلّا ما كان من مبادرات زملائهم الأساتذة وطلبتهم القدامى والمؤسّسات الجامعيّة التّي انتسبوا إليها بالتّدريس والبحث.

وها إنّ السّاحة الجامعيّة والثّقافيّة تفقد في الأسابيع الأخيرة الأستاذ الكبير والعلّامة منجي الشّملي (1931 - 2016) رائد الدّراسات الأدبيّة الحديثة والمقارنة في تونس الذّي غيّبه الموت يوم 13 سبتمبر الماضي، كما فقدت قبل ذلك بأشهر قليلة (13 ماي 2016) الجامعي الشّهير والأستاذ المتميّز عبد القادر المهيري (1934 - 2016) رائد الدّراسات اللّغويّة والنّحويّة، وقبله بأشهر أخرى الأستاذ محمّد اليعلاوي (1929 - 2015) المختصّ في الدراسات الأدبيّة والشّعريّة القديمة والتّرجمة.

وقد أردنا لهذه الورقة أن تكون تحيّة خالصة لأرواحهم الطّاهرة، واعترافا صادقا بما أسدوا من جميل، وامتنانا لما بذلوا مـن عطاء، واعتزازا بما تركوا من أثر، ووفاء لما أنهجـــوا من سُبل.

ولعلّ أبرز ما يشترك فيه هـــذا الثــــّالوث الذّي غــــادرنا في الأشهـــر الأخـــيرة أنّ أفراده جمعوا في تكوينهم المتين بين التّشبّع بأصول الثّقافة العربيّة القديمة لغةً وحضارةً وتاريخا وأدبا وبين التّزوّد من مناهل الثّقافة الغربيّة الحديثة فكرا ومنهجا ورؤية وتصوّرا، فكانوا رموزا لجيل متجذّر في هويّته الحضاريّة، منغرس في بيئته الثّقافيّة ومُنفتح على الرّوافد الأجنبيّة، يغتني من الرّصيد الكونيّ ويحاور التّراث الإنسانيّ.

غير أنّ أهمّ خصلة من خصالهم تكمن في أنّهم جمعوا بين ثلاثة أنواع من النّشاط قلّما اجتمعت لغيرهم:

  • النّشاط العلميّ الأكاديميّ بحثا وتدريسا وتأطيرا وتأليفا، فكانوا من الأساتذة المتميّزين الذّين تخرّجت على أيديهم نخبة من علماء اللّغة والنّحو والبلاغة وصفوة من أساطين الأدب والنّقد، أشرفوا على عشرات الرّسائل والأطروحات، وأسّسوا وحدات البحث المختصّة وبعثوا واحدة من أهمّ المجلّات العلميّة المُحكَّمة في البلاد العربيّة كلّها «حوليّات الجامعة التّونسيّة» وأحاطوها بالرّعاية والصّون حتّى أصبحت في أعلى درجة من التّقدير العلميّ شرقا وغربا.
  • النّشاط الثّقافي والفكريّ خارج أسوار الجامعة وأروقتها، إذ لم يكن هؤلاء الأساتذة مـــن الصّنف الذّي يكتفي بأداء وظيفته العلميّــــة الأكــــاديميّة على نبلها وخطورتــها- وإنّما أدركوا أنّ لهم رسالة لا تقلّ أهميّة ونُبلًا وهي المشاركة الفاعلة في إذكاء الحركة الثّقافيّة والفكريّة وتنشيطها، فألقوا المحاضرات وساهموا في أعمال النّدوات والملتقيات في جميع أرجاء البلاد، ونشروا الفصول والمقالات في المجلّات الثّقافيّة بمختلف عناوينها (الفكر، الحياة الثّقافيّة، رحاب المعرفة ... وغيرها)، وكانوا قد أسّسوا في بداية ستّينات القرن الماضي مجلّة «التجديد» تطلّعا إلى المساهمة في تجديد البلاد وفي معاضدة حركة البناء والتّشييد التّي كانت تقوم بها الدّولة التّونسيّة الفتيّة في جميع الأصعدة الأخرى. وقد وجدوا في تسيير هذه المجلّة كثيرا من العناء وواجهوا عديد العراقيل حتّى أُجبروا على حجبها، فتوقّفت عن الصّدور أواخر سنة 1962 في سياق تاريخيّ وسياسيّ مخصوص.
  • النّشاط الوطنيّ، فقد تميّز الثّالوث: الشّملي- المهيري- اليعلاوي بانخــــراطهم في الحيـــاة العـــامّة واضطــــلاعهـم بمســــؤوليّات عــديـــدة في الحقليـــن التّــــربويّ والثّقـــافي وبمهامّ برلمانيّة وحكوميّــــة، لا يدفعهم إلى ذلك التّعلّق بتولّي المناصب واحتلال المواقع بل كانت تُعرض عليهم هذه المسؤوليّات فيتحمّلون أعباءها بأمانة وإخلاص مدفـــــوعين بحسٍّ وطنيّ عالٍ وبشعور عميق بواجب أداء ما عليهم من دين إزاء الوطن، وهكذا تحمّل الأستاذ محمّد اليعلاوي مسؤوليّة وزير للشّؤون الثّقافيّة (1978 - 1979) وعضـــويّة مجلــــس النّـــــواب لدورتين (79 - 81) ثمّ (89 - 94). وتـــولّى الأستاذ عبد القادر المهيري خـــطّة مديـــر مســــاعد بالحزب الاشتراكي الدّستوري بــــداية السّبعينـات ونـــائب رئيـــس المجلس الاقتصادي والاجتماعي وكاتب دولة للتّعليم العالي والبحث العلمي (ماي- نوفمبر 1987).

أمّا الأستـــاذ منجـــي الشّمـــلي فكــان أحـــد مؤسّسي نقابة التّعليم العالي التّابعة للاتّحـــاد العام التّونسيّ للشّغل وأحد مؤسّسي الرّابطة التّـــونسيّة للدّفاع عن حقوق الانسان وأحد أعضاء أوّل هيئة مديرة لها (1979-1983)، كما مثّل الجمهوريّة التــــّونسيّة في المجلـــس التّنفيــــذي لمنظّمة اليونســـكو لدورتين متتــــاليتين (1991 - 1995).

ولا شكّ في أنّ الجمع بين هذه الأوجه المتعدّدة من النّشاط إنّما هو دليل إيمان بأهميّة دور المثقّفين ورجال الفكــر في الإدلاء بآرائهـــم والمشاركة في تسيير حياة شعبهم والنّهوض بمستقبل أمّتهم.

غير أنّ الأثر العميق الذّي تركه هؤلاء الروّاد المؤسّسون هو أنّهم ساهموا في إرساء ما يمكن أن نعتبره «مدرسة تونسيّة» في البحث والتّفكير تستند إلى قيم العقلانيّة والحداثة والتّنوير، وكانوا يجسّمون مشروعا وطنيّا ذا أربعة أبعاد كبرى:

1- بُعد علميّ معرفيّ: فقد أنجزوا وأطّروا –كما ذكرنا- أعمالا علميّة في اللّغة بمختلف علومها وفروعها، وفي الأدب بشتّى أجناسه وأطواره، وفي الحضارة بجميع شعبها ومشكليّاتها، وإنّما خلاصة هذه الأبحاث سعي دائب وجهد مُضن من أجل معرفة يقين سليمة من شوائب الوهم والتّقريب وعلم دقيق خالص من شوائن الزّيف والتّلبيس.

2- بُعـــد منهجـــيّ: فقــــد كانوا حــــريصين على ترسيــــخ أشـــدّ منــــاهـــج البحث العلميّ دقّة وصرامة وإرساء أكثر أساليب الدّرس حداثة وعقلانيّة، وإنّ قوام منهجهم التّثبّت والتّحقيق والتّحرّي والتّدقيق والأناة والصّبر والصّرامة والجدّ والإعنات والكدّ والنّزاهة والتجرّد، وعلى هذا النّحو جعلوا من الجامعة التّــــونسيّة مــــدرسة للبحـــث العلميّ المنهجــيّ ومعقلا من معاقل العلم الصّحيح وقلعة من قلاع العقل الجيّد ومعلما من معالم الحداثة.

3- بعـــد فكــــريّ: فقــــد كانوا بما أشاعوه مــــن معــرفة دقيقة وبما جــــذّروه من منهج صارم- يعرضون أنموذجا  لفكر حداثيّ مستنير يقطع مع السّطحيّة والسّهولة ويقدّم مثالا عن عقليّة التميّز والإتقان وروح الإضافة والابتكار والخلق.

4- بعـــد حضــــاري ثقـــافي عــــامّ: لأنّهــــم أعطوا بمجمل آثارهم صورة من الثّقافة التّونسيّة لامعة متألّقة، ومثّلوا بإنتاجهم العلميّ والفكريّ جانبا من هذه الثّقافة قادرا على الاندراج ضمن الرّصيد الانســــانيّ، ثــــابت الإضافة إلى التّراث الكـــونيّ. إنّهم يصدرون عن تصوّر مستنير ورؤية متبصّرة لما ينبغي أن يكون عليه مشروع ثقافي فكريّ.إنّ لهولاء الأساتذة الكبار ولأعلام الجامعة التّونسيّة عموما مزيّة لا تُنكر وفضلا لا يُجحد على الحياة العقليّة التّونسيّة بما أسّسوا له من قيم ساميــــة رفيعة ومــــا أرســـوه من منـــــاهـــج في التّفكير قويمة، ولكنّهم كانوا يؤسّسون دون ادّعاء وضجيج ويبنون دون جلبة أو ضوضاء لأنّهم أدّوا رسالتهم بأمانة الصّديقين؟ وصبر المجتهدين وتواضع المريدين، فإذا غيّبهم الموت فإنّ ذكرهم باقٍ لا يموت، وقديما قال الشّاعر (زهير بن أبي سُلمى):

أَلَمْ تَرَ أَنَّ النَّاسَ تَخْلُدُ بَعْدَهُم ******* ْأَحَـادِيثُهُـمْ وَالمَرْءُ لَيْسَ بِخَالـِدِ.

د. الحبيب الدّريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.