أدب وفنون - 2016.11.05

السّينما التّونسيّة والأدب: الخيـط الضّـائـع

السّينما التّونسيّة والأدب: الخيـط الضّـائـع

يلاحظ المتتبّع لمسار تطوّر السّينما التّونسيّة على مدى خمسين عاما أنّ العلاقة بين الفنّ السّينمائيّ والأدب القصصيّ في تونس كانت في غالب الأحيان علاقة فاترة، إذ لا يتعدّى عدد الأشرطة التّي اقتُبست من آثار روائيّة أو قصصيّة منشورة العشرة أعمال، وهو ما يمثّل نسبة تقلّ عن الخمسة بالمائة.ورغم أنّ الجانب الأوفر من الأشرطة السّينمائيّة التّونسيّة يُصنَّف ضمن ما يسمّى بـ «سينما المؤلّف» التّي تحمل أطروحات فكريّة وتعالج قضايا جادّة، ورغم أنّ تجربة الاقتباس من الأدب كانت ناجحة في الغالب الأعمّ فإنّ السّينما التّونسيّة لم تتّجه إلى الرّواية والقصّة على النّحو المرجوّ ولم تستثمر الرّصيد السّرديّ الضّخم في الأدب التّونسيّ على الوجه الأكمل.

يتبين النّاظر في علاقة السّينما بالأدب أنّ الالتقاء بين الفنّين وتحاورهما يكاد يقتصر على مراحل معيّنة من تاريخ السّينما التّونسيّة هي بالأساس مرحلة البدايات، ومرحلة الانتعاشة الكميّة والنّوعيّة في بداية تسعينات القرن الماضي. فقد شهدت السّنوات 1969 - 1972 إنجاز أربعة أشرطة طويلة مقتبسة من أعمال أدبيّة. وكانت المحاولة الأولى للمخرج حمّودة بن حليمة الذّي أنجز سنة 1969 شريط «خليفة الأقرع» عن قصّة رائعة للبشير خريّف تحملُ العنوانَ نفسه، ورغم بعض النّقائص التّقنيّة فإنّ الشّريط عكس جانبا هاما من عبق الحياة في أحياء المدينة العتيقة وجاذبيّتها وصوّر فرادة نماذجها البشريّة، ونال التّانيت البرنزيّ في الدّورة الثّالثة لأيام قرطاج السّينمائيّة 1970. 

ثمّ حوّل المخرج عُمار الخليفي سنة 1970 رواية عبد الرّحمان عمّار (ابن الواحة) «حبّ وثورة» إلى شريط سينمائيّ: «الفلّاقة»، وهو يصوّر مرحلة من الكفاح الوطنيّ ضدّ الاستعمار وهي مرحلة الثّورة المسلّحة، ويمكن أن ندرج هذا الشّريط ضمن موجة كانت طاغية آنذاك في أفلام عدد من البلدان حديثة العهد بالاستقلال ولا سيّما في السّينما الجزائريّة. ورغم أنّ المخرج تصرّف أوجها من التّصرّف في الرّواية فقلّص مثلا من حجم القصّة العاطفيّة لفائدة التّجربة النّضاليّة فإنّ الشّريط نجح في شدّ الاهتمام فنيّا وجماهيريّا وتحصّل على إحدى جوائز المهرجان الدّوليّ للسّينما بموسكو سنة 1971.

ومن جهة أخرى شاهد الجمهور على شاشة السّينما أدب علي الدّوعاجي الذّي لا يخلو من كوميديا ساخرة وعميقة من خلال شريــط «في بلاد الطررنّي» وهو عبارة عن ثلاثة أشرطة قصيرة من المجموعة القصصيّة «سهرت منه اللّيالي»: «الفانوس» لحمودة بن حليمة، و«الزّيارة» للهادي بن خليفة و«نزهة رائقة» لفريد بوغدير، وتحصّل هذا الشّريط على الجائزة الكبرى للمهرجان الدّولي للأشرطة النّاطقة بالفرنسيّة في مدينة «دينارد» بفرنسا سنة 1972. وفي باب «السّينما الملتزمة» تابع جمهور السّينما سنة 1972 شريط «وغدا ...؟» للمخرج إبراهيم باباي، وهو شريط ذو قضيّة un film à thèse، اقتُبس من رواية «ونصيبــي من الأفــق» لعبد القادر بن الشّيخ، وهو يكشف فشل المنوال التّنمويّ في السّتينات وما ترتّب عن ذلك من هجرة ونزوح وبطالة وشعور بانسداد الأفق. وقد حقّق الشّريط نجاحا لافتا، إذ عُرض في مهرجان «كان» سنة 1972، ونال التّانيت البرنزي في الدّورة الرّابعة لأيّام قرطاج السّينمائيّة 1972.

إلّا أنّ تعامل السّينمائيّين التّونسيّين مع الأدب القصصيّ توقّف طويلا ولم نسجّل عودة إلى اقتباس النّصوص الرّوائيّة إلّا سنة 1990 مع ثلاثة أشرطة طويلة هي «مجنون ليلى» للمخرج الطّيب الوحيشي عن رواية للمستشرق الفرنسي أندريه ميكال«Leyla ma raison »، وشريط «ليلة السّنوات العشر» لإبراهيم باباي عن رواية بالعنوان نفسه

لمحمّد صالح الجابري، ثمّ شريط «برق الليّل» لعلي العبيدي وقد أُنجز انطلاقا من رواية البشير خرّيف الشّهيرة «برق الليّل». ولئن أجمع النّقّاد على القيمة الفنيّة والفكريّة لشريط إبراهيم باباي الذّي يلخّص تناقضات عشريّة اللّيبراليّة والانفتاح الاقتصادي التّي اصطدمت بأحداث 26 جانفي 1978 الدّامية فإنّ شريط علي العبيدي لم يصادف الإجماع نفسه إذ أثار جدلا بين المُخرج ومُنتقديه في مستوى إشكاليّة الوفاء للنّصّ الرّوائيّ وفي مستوى الافتقار إلى الكثافة الدّراميّة اللّازمة. 

أمّا شريط الطّيب الوحيشي فقد اُعتبر اقتباسا جيّدا ولم يُؤاخذ إلّا بعدم التّوفيق في اختيار بعض الممثّلين ولا سيّما التّركي «طارق أكان» الذّي لعب دور «قيس بن الملوّح» وبالمبالغة في التّركيز على الفضاء الصّحراويّ المُقفر. وقد اُختير الشّريط للمسابقة الرّسميّة في مهرجان البُندقيّة، وحصل على جائزة الجُمهور في مهرجان ميلانو 1991 وعلى جائزة أفضل صورة وأفضل صوت في مهرجان واقادوقو سنة 1991. ولن نجد بعد ذلك في باب الاقتباس السّينمائيّ من الأدب سوى شريطين اثنين هما «الرّديّف 54» (1997) لعلي العبيدي عن رواية محمّد صالح الجابري «يوم من أيّام زمْرا» وشريط «كِلْمة رجال» (2004) لمعزّ كمّون عن رواية «بروموسبور» لحسن بن عثمان.

ومن شأن هذا الإعراض عن الاستناد إلى الآثار الرّوائيّة أن يدفعنا إلى التّساؤُل عن الأسباب التّي تقف وراء هذه الجفوة بين السّينما والأدب في تونس؟

إنّ هذه العلاقة الفاترة يُمكن أن تُرَدَّ إلى نوعين من العوامل: عوامل موضوعيّة تتّصل بطبيعة الفنَّيْن ومقوّماتهما، وعوامل ذاتيّة تتعلّق بتصوّرات السّينمائيّين ورؤَاهم. 

أمّا الأسباب الموضوعيّة فتتلخّص في أربع نقاط أساسيّة: 

  1. الاختلافات الجوهريّة بين خصائص الكتابة الرّوائيّة وخصائص الكتابة السّينمائيّة ، ومدارها على الاختلاف بين المقروء والمرئيّ  le lisible et le visible، ذلك أنّ بنية الكتابة القصصيّة تقوم على حكايةٍ Récit  تُروى بواسطة آليّات السّرد وتقنياته المعروفة، أمّا بنية الكتابة السّينمائيّة فتقوم على الصّور والمشاهد واللّقطات تتعاقب وتتتابع، فإذا كان الرّوائيّ يستند في عمله إلى الكلام يصوغه ويشكّله ليصنع الأحداث والشّخوص والعلاقات بينها في إطار برنامج سرديّ يُنظّم تقدّم القصّة فإنّ السّينمائيّ يستند إلى العين والعدسة ليصنع صورا ينضّدها ويرتّبها انتقاءً وتركيبا حتّى تترابط الأعمال والأطوار في إطار حبكة Intrigue تستقطب اهتمام المتقبّل.
  2. ثمّ إنّ للصّورة قدرة على التّكثيف والاختزال لا يملكها السّرد القصصيّ، فما تقوله الصّورة في لقطة تدوم ثواني معدودات قد يحتاج القاصّ إلى فقرات طويلة للتّعبير عنه. والشّريط يبنيه الإضمار Ellipse في الغالب، وهي تقنيّة نجدها في القصّ إلّا أنّ السّرد مُحتاج أحيانا إلى الوصف المطوّل والمُفصّل لأنّنا لا نتلقّى الحكاية عيانا.
  3. وتترتّب عن كلّ ذلك نتيجة طبيعيّة وهي صعوبة عمليّات الاقتباس والتّحويل لأنّها تتطلّب إعادة الكتابة وإدخال تغييرات عديدة على البنية السّرديّة، ومن ثَمَّ فهي عمليّة شاقّة ومُضنية ودقيقة يتجنّبها كثير من السّينمائيّين، فأن تُنشئَ عملا جديدا أيسر من أن تكيّف وتُعدّل وتُعيد صياغة عمل قائم.
  4. ضعف وسائط التّعريف بالرّواية وتقريبها من القرّاء وترويجها، وغياب الحركة النّقديّة التّي تُغري بالأعمال القصصيّة وتصنع شُهرتها وتُلهم السّينمائيّين وتوجّههم إلى الاهتمام بهاـ فالصّحافة الأدبيّة والثّقافيّة فُقدت في بلادنا بعد احتجاب الملاحق المعروفة، والمساحات التّي تُخصّص للأدب وأعلامه وللإنتاج الأدبيّ مُحتشمة محدودة.
وأمّا الأسباب الذّاتيّة فلعلّنا نُجملها في الملاحظات التّالية:
  1. تدلّ الأشرطة السّينمائيّة التّي أُنتجت في السّنوات الأخيرة على أنّ التّصوّر الغالب لدى السّينمائيّين هو أنّ الفيلم مشروع إبداعيّ يَنشأ عن رؤية فردانيّة مغرقة في الذّاتيّة لا تلتفت لمصادر الإلهام الخارجيّة - والأدب واحد منها - ، فكأنّ الشّريط تعبيرة حميميّة لا يحتاج فيها صاحبها إلى محاورة العالم الخارجيّ وأشكال الإبداع المتنوّعة.
  2. يبدو أنّ السّينمائيّين لا يهتمّون كثيرا بالأدب القصصيّ التّونسيّ إمّا لأنّه لا يستجيب لأفق انتظارهم الفنّيّ والفكـــــريّ، وإمّا لأنّهم لا يـــُؤمنون به ولا يُؤمّلون أن يجـــــدوا فيه ضــــالّتهم.
  3. اتّجه بعضُ الرّوائيّين وكتّاب القصّة إلى ما يُسمّونه «التّجريب»، وإلى اختيار مناويل جديدة في الكتابة ابتعدت شيئا ما بالإبداع الرّوائيّ عن ثوابته السّرديّة المألوفة وبالتّالي عن النّموذج القصصيّ الطّيّع والمستساغ سينمائيّا، ولعلّ هذه النّزعة ممّا يزّهّد السّينمائيّين في الالتجاء إلى الأدب.

ومهما يكن من أمرٍ، فالثّابت أنّ المدوّنة الرّوائيّة والقصصيّة التّونسيّة غنيّة بالتّحف الفنيّة التّي يجدر أن يحتفي بها السّينمائيّون ويُقبلوا عليها دون تردّد، وإنّنا لنستغرب مثلا كيف لم يلتفت أهل السّينما إلى لؤلؤة الرّواية التّونسيّة «الدّقلة في عراجينها» للبشير خريّف وقد بلغ فيها صاحبها ذروة الإتقان الفنّيّ، وكيف لم يقتبسوا روايته البديعة «حبّك درباني»، أو السّيرة الرّوائيّة التّي أصدرها عزّ الدّين المدنيّ منذ بضع سنوات «أيّام سعيدة»، فضلا عن بعض أعمال عبد القادر بالحاج نصر ومحمّد الهادي بن صالح وحسن نصر وشكري المبخوت وآمنة الرّميلي وغيرهم كثير. فالبِدارَ البِدَار.

د. الحبيب الدّريدي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.