عز الدّين المدني: مساهمات تونسيّة في مجمع اللّغة العربيّة بالقـاهرة
كان للعالمين الجَليلَيْن محمّد الخضر حسين وحسن حسني عبد الوهّاب دور بارز وريادي ومساهمة فعّاله في تأسيس مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة وفي إرساءهياكله وتمتينها بغية ضمان النّجاح المأمول في أعماله ومشاريعه، كما أشرنا إلى كلّ ذلك في مقال سابق ولو بإيجاز على صفحات هذه المجلّة.
بعد محمّد الخضر حسين وحسن حسين عبد الوهاب يأتي دور جيل ثان من علماء تونس ومثقّفيها الّذين هبّت عليهم أنفاس القرن العشرين في تعليمهم وتربيتهم وتثقيفهم.
هؤلاء هم الّذين سيتبوّأون في تونس الحديثة منزلة رفيعة في الثّقافة والفكر والسّياسة والحياة الدّينية. وهم الشّاذلي القليبي ومحمّد الفاضل ابن عاشور ومحمد الحبيب ابن الخوجة.
سيكون ثلاثتهم في مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة، ليخلفوا جيل المؤسّسين الرّواد، وليسهموا في أعمال المجمع وأشغال لجانه ومداولات مؤتمراته وقراراتها. والمجمع في يومنا هذا يحفظ مداخلاتهم ومقترحاتهم الّتي تعكس شخصياتهم العلميّة، وما أضافوه إلى زاد اللّغة العربيّة وما قدّموه من مساهمات في معالجة إشكالياتها وواقعها...
الشّاذلي القليبـي: بحـوث لافتـة في اللّغــة
لقد انتخب الشّاذلي القليبي سنة 1971 عضوا في مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة خلفا لحسن حسنـي عبد الوهّاب الّذي توفّاه اللّه سنة 1968. وقد ولد الشّاذلي القليبي سنة 1925، وزاول التّعليم الصّادقي. ثمّ تكوّن باللّغتين العربيّة والفرنسيّة وتضلّع من هما. له تكوين أدبي عربي مهمّ جدًّا وتبرّز واختصاص. كما له تكوين فلسفيّ متمكّن إذ درس الفلسفة الحديثة على فلاسفة أعلام في جامعة الصُّربون. ومثل هذا التّكوين المزدوج الّذي جمع بين الأدب والفلسفة كان نادرا بين شبّان جيله. فكانوا يميلون إمّا للأدب وإمّا للفلسفة. لكن الشّاذلي القليبي يمارس منذ الخمسينات القول الأنيق الجميل والفكرة الفلسفية العميقة. مثلا كان في دروسه الّتي ألقاها في معهد الدّراسات العليا يشرح لنا فيها قصائد غررًا من الأدب العربي القديم شرحا فلسفيا سواء كان إغريقيا عريقًا أو حاليا راهنًا مليئا بإشكاليات عصرنا. وهذا هو النقد الفكريّ. فكان فتحًا مبينًا في الفكر النّقدي التّونسي والعربي لا يمكن أن أقارنه إلاّ بالنّقد الفكري الّذي وطّنه جان سْتُروبَنْسْكي في فرنسا حين تصدّى لنصوص جان جاك روسّو، وفي الأثناء جاء بَاشْلآر...
هذه لمحة شديدة الإيجاز عن شخصيّة الشّاذلي القليبي وثرائها بالإضافة إلى تولّيه مناصب سامية في الدّولة التّونسية الحديثة. من ذلك تولّيه وزارة الثّقافة الّتي هيكلها، وأجرى فيها التّفعيل الثّقافي والفنّي ممّا أدخل على البلاد حيويّة فكرية وطنيّة غير مسبوقة وذلك بتشجيع المبدعين والمثقّفين وبإحاطتهم به. ورغم مسؤولياته الرّسمية الثّقيلة الّتي دفعته فيما بعد إلى أن يكون ضمير الأمّة العربيّة (أمينا عاما لجامعة الدول العربية) لم ينقطع عن التّفكير في اللّغة العربيّة وعن بذل جهود مبتكرة في سبيل نصاعتها وإشعاعها ورواجها وعلوّ منزلتها بين لغات عالمية أخرى.
وقد شارك في بعض مؤتمرات المجمع وقدّم بحوثا لافتة لعناية نظرائه في المجمع وخارجه، مثلا بحثه حول «اللّغات العالميّة واللّسان المدوّن».
وقد احتفل المجمع بانتسابه إليه بعد انتخابه وحضوره في جلسة افتتاحية، وألقى العلاّمة المغربي عبد الله ﭭـَنُّون (ويكتب المغاربة: كنون) كلمة ترحيب في يوم استقبال الشّاذلي القليبي، نستشفّ منها أنّ المحتفى به إنّما هو مكسب تونسي وعربي ثمين للّغة العربيّة وبالتّالي لمجمع القاهرة. قال عبد الله ﭭـَنّون: «يعتبر زميلنا الجديد رائدًا للثّقافة التّونسية الحديثة فهو أوّل من خطّط لها وأوضح معالمها (...) وإليه يرجع الفضل في إحياء التّراث الفكري والفنّي والتّاريخي بتونس»
الشّيــــــخ محمّد الفاضل ابــــن عاشــــور: حضــــور ممــــيــــّز
اختير الشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور عضوا بمجمع اللّغة العربية بالقاهرة سنة 1961، ضمن الأحد عشر عضوا الّذين صدر قرار جمهوري مصري بتعيينهم من البلاد العربيّة. وهو من مواليد سنة 1909.ووالده شيخ الشّيوخ محمد الطّاهر ابن عاشور مفسّر القرآن الكريم ومؤلّف عدد لا يستهان به من الكتب العلمية والدّينية والأدبية. وهو من رجال الإصلاح المعدودين. لذا درس محمّد الفاضل ابن عاشور علوم الدّين واللّغة العربيّة في بيته ثمّ تعلّم اللّغة الفرنسيّة لغة المستعمِر الفرنسي. وهو زيتوني تعليما ودراسة وكان مدرّسا أستاذا بالقسم العالي من جامع الزّيتونة وأستاذًا بمعهد الحقوق. وتولّى الإفتاء.
والحقّ أنّ كتابة سيرته أمر صعب. ومهما بذل كاتبها في سبيل الإلمام بحياته الفكرية والعلمية فإنّ عمله يظلّ أبتر لغزارة فكره وأعماله طوال حياته. ولنا أن نتساءل: متى يجد الشّيخ الوقت الكافي لممارسة السّياسة؟ وتكوين النّقابة؟ وإلقاء المحاضرات؟ وهو مؤرّخ وأديب كاتب ولغوي باحث ورحّالة إلى المشرق والمغرب وأوروبا وعضو أو رئيس لجان وهيئات ومجالس وطنيّة وعربيّة، ومشارك بالفصول والمقالات والدّراسات في تحرير مجلاّت أدبية وعلمية شتّى.
توفّى الله محمّد الفاضل ابن عاشور سنة .1970لم يكتب في حقّه كتابٌ ليشمل أغلبَ ما قال وما فعل، ما عاش وما ناضل وما ارتأى. ويبدو أنّ محاولات بحثيّة ودراسيّة عن سيرته قد صدرت خلال السّنوات القليلة الماضية لكنّها والحقّ يقال كانت قاصرة عن الإلمام بكلّ سيرة الشّيخ وبصفة كاملة مانعة. ونهيب بأسرته الكريمة أن ترفع الغطاء عن مخطوطات الفقيد بل عن أرشيفه كلّه: المخطوط والمطبوع، الرّسائل والمؤلّفات، المحاضرات والتّقييدات، المسودّات والمبيّضات، الفصول والمقالات. فله حقّ على تونس وتونس لها حقّ عليه لاسيّما في هذه الفترة العصيبة من تاريخنا حيث كثر اللّغط من غير طائل...
أمّا نشاطه في مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة وحضوره فيه فقد كانا كبيرين. من ذلك بحوثه وكلماته على سبيل المثال لا الحصر:
- السّند التّونسي في علم متن اللّغة
- تحرير أفعل التّفضيل من ربقة قياس نحوي فاسد
- كتاب «أفعل» لأبي علي القالي
- المصطلح الفقهي في المذهب المالكي
- كلمة في حفل تأبين المرحوم حسن حسني عبد الوهاب
- كلمة في افتتاح مؤتمر الدّورة الثّلاثين للمجمع
- كلمة في افتتاح الدّورة السّادسة والثّلاثين للمجمع
- الآثار الحفصيّة في المرسى
وقد ألقى الدّكتور ابراهيم بيومي مدكور كلمة مؤثّرة يوم تأبين الفقيد المرحوم محمد الفاضل ابن عاشور، قال فيها :«نودّع اليوم عالما كبيرًا وإمامًا من أئمّة الأدب واللّغة والفقه والتّشريع، ورائدًا من روّاد الإصلاح والتّجديد (...) كان حجّة في تراثنا الإسلامي في جميعه، وبخاصّة ما خفي منه من أخبار المغرب وبلاد الأندلس، ومحيطًا بثمار الثّقافة الغربيّة وما انتهت إليه من علم وفلسفة (...) حريصًا على أن يربط الحاضر بالماضي، وأن يلائم بين الجديد والقديم... هذا هو الفاضل بن عاشور(...) فقدناه، فقدنا طرازًا من دعاة النّهوض والتّجديد الّذين ليس من اليسير أن نجد من يخلفهم أو يحلّ محلّهم».
الدكتـــور محــــمد الحبيب ابن الخوجة: نشــــاط غـــزيــــر
خلف الشّيخ محمّد الحبيب ابن الخوجة أستاذه ومعلّمه ومربّيه فكريًّا الشّيخ محمّد الفاضل ابن عاشور في مكانه بمجمع اللّغة العربية بالقاهرة سنة1971. وقد ولد الشّيخ سنة 1920 وزاول تعليمه بالمعهد الصّادقي ثمّ التحق بالزّيتونة. وبعد ذلك سافر إلى جامعة باريس وحصل منها على شهادة الدّكتوراه بتحقيقه العلمي لكتاب «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» لحازم القرطاجنّي، هذا الكتاب الّذي يعدّ استثناء في الدّراسات البلاغية العربيّة القديمة، المطعّم بالفلسفة الإغريقية العريقة. وبالإضافة إلى ذلك حقّق الشّيخ ديوان حازم القرطاجنّي. كما واصل تحقيقاته العلمية فحقّق «رحلة بن رُشَيْد» و»السّنن الأبين» و»إفادة النّصيح». وقد قام قبل ذلك كلّه بدراسات أدبية ولغويّة وتاريخية حول شخصيّات مرموقة من الكُتَّاب والشّعراء القدامى والمحدثين كالشّاب الظّريف وصفيّ الدّين الحلي وأحمد شوقي وأحمد أمين والجارم. ودرس مختلف عصور الأدب التّونسي من الفتح الإسلامي إلى العصر التركي. وله دراسات أيضا حول النّحو والبلاغة منذ النّشأة إلى العهود العبّاسية.
أمّا نشاطه المجمعي فهو غزير نذكر منه:
- كلمته في حفل استقباله بالمجمع
- العـــربيّة في تونــس بين الفصـحى والعاميّة
- الحياة الثّقافية بإفريقيّة صدر الدّولة الحفصيّة
- البيئات العلميّة والفكرية بالبلاد العربيّة من رحلة ابن رُشَيْد
- تأبينه لأستاذه الشّيخ محمد الفاضل ابن عاشور
وفي حفل استقبال الشّيخ الدّكتور تصدّى الدكتور ابراهيم مدكور بالنّقد التّعريفي لتحقيق «منهاج البلغاء وسراج الأدباء» لأنّه يعرف حازم القرطاجنّي أيضا وقد حقّق «مقصورة حازم» قبل تحقيق «المنهاج» من قبل الشيخ بنصف قرن. وذكر أنّ ما يجمعه بالشّيخ الدكتور إنّما حبّهُ لحازم القرطاجنّي. ومعلوم أنّ تكوين المجمعي إبراهيم مذكور هو فلسفي بالأساس، وتشهد به مؤلّفاته حول الفلسفة الأرسطية، ومن تزوّد بها من الفلسفة العرب.
وقد توفّي الشّيخ الدّكتور محمد الحبيب ابن الخوجه سنة 2012، رحمه الله.
عز الدّين المدني
- اكتب تعليق
- تعليق