أخبار -
2016.11.06
تحوّلات الثّورة عبر مرايا شعاراتها
الشعب يُريد إسقاط النظام، الدولة العميقة، بن علي هرب، العفو العام ... هذه كلّها عبارات وشعارات هزّت شوارع تونس على مدى أربعة أسابيع استغرقتها «ثورة الكرامة». وانتشر كـــــثـير من تلــك الشعــــارات في بلدان العالم، حتى أبصـرنا شبـــابا متـــمرّدا في الصين يهــــتف بالعربية «الشعب يـــــريد!» في قلب ساحة «تيان آن مان». جرت العــادة أن يُطلق الإعلام شعارا أو عبارة سرعان ما تنتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم، غير أن تلك العبارات التي هي من صُنع تونسي اتّخذت الاتجاه العكسي، فانطلقت من الشارع لتغزو الإعلام، وبخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، ويتبنّاها قادة الأحزاب تقرّبا من الشارع. وحملت تلك الشعارات معاني ودلالات مختلفة باختلاف المرحلة التاريخــــية. لـــكن على امتداد أيام الثورة وبعدها ظلت الكلمة هي وسيلة التخاطب والصراع، لا بل شكّلت الأداة الرئيسية لتغيير الموازين، على عكس بلدان أخرى كانت الكلمة الأخيرة فيها للرصاص. ومن أجل إدراك سر المفعول التعبوي لتلك الكلمات المُلهبة للجماهير، أبحرت الباحثتان والصحافيتان ألفة بلحسين وهادية بركات في أصول الكلمات مُستعينتين بأكثر من خمسين خبيرا في علم الاجتماع واللسانيات وتاريخ الأفكار واللغة والعلوم السياسية وعلم النفس والقانون... حتى العبارات التي كان الناس يتفــادون ذكــرها في ظل الحكم الاستبدادي، مــثل الاسلام السياسي والعلمانية والاعتصام والعدالة الانتقالية والجهاد... تمّ تفكيكها لمحاولة فهــم مدلولاتـها المُتـغيّــرة من حقبة إلى أخرى. وتقول المؤلّفتـــان في مقّـــدمة كتابهما «الكلمات الجـديدة التـي صنعـت تـونس» Ces nouveaux mots qui font la Tunisie.e
368 صفحة، دار النشر سيراس، إن بحثهما عن أصول الكلمات تمّ من موقع الصحفي، إذ رصدتا أوّل ظهور للكلمة ثم تابعتا تطورّها والمعاني الظاهرة والمُستترة التي تحملها، والسياق الـــذي اكتنـــف بـــــروزها على السطح، والحروب الصغيـرة التي أثارتهــا... فمع الثورة دخلــت الكلمـات في ما يُشبه السباق من أجل فرض نفسها واجتياح الشارع، كي تفتح أفقا جديدا يطــــوي صفحة الخــــنوع ويُشــــير إلى دروب الحرية. اللغة غدت إذا هي الفعــــل والحـــــراك الاجتماعي والسيــــــاسي. ومن خلال الشعارات التي تردّدت في الشوارع والساحات عبر جهات البلاد المختلفة، يرصد الكــــــتاب تحــــوّل المطالب من «شغـــــــل، حرية، كــــــرامة وطنية» إلى «الشعب يـــــريد إسقــــاط النظام» اعتبارا من 10 جانفي 2011، أي قبل أربعة أيام من رحيل بن علي، مما جعل مطالب «انتفاضة الكرامة» تكتسي طابعا اجتماعيا بالدرجة الأولى، على الأقل خلال المرحلة الأولى.
في المقابل رصد الكتاب تحوّل خطاب بن علي المُحرج والمُحاصر، فهو الذي اعتاد على مخاطبة الشعب بلغة جافة وعبارات مُحنّطة على مدى ثلاثة وعشرين عاما، انتقل إلى التّحدّث باللسان المحلي مُردّدا عبارته الشهيرة «أنا فهمتكم» ومُقلدا عبارة أشهر للرئيس الفرنسي شارل ديغول لدى اندلاع الانتفاضة الطلابية في ربيع 1968. لكن لم تُجد جميع هذه الحيل نفعا إذ تعالت الأصوات في اليوم التالي على امتداد شارع بورقيبة لتُطالبه بالرحيل، فاستجاب مُكرها وأقلع في عصر اليوم نفسه نحو المنفى الاختياري. من هنا ركّزت المؤلفتان على عبارة «ارحل!» التي ردّدها المتظاهرون أحيانا بالفرنسية !Dégageأمام عدسات الصحافة الدولية، بوصفها تختزل جميع العبارات والشعارات التي سبقتها.
مع ذلك عادت جموع المتظاهرين، الذين قُدّرت أعدادهم بمائة ألف، إلى ساحة القصبة (مقر الحكومة) للمطالبة برحيل محمد الغنوشي رئيس وزراء بن علي، الذي كان قد أمضــى 12 عاما في ذلك المنــصب، فأذعن بــدوره وعـاد إلى بيته. ربما من هذه الزاوية ينبغي النظر أيضا إلى مصطلح آخر راج بعد الثورة هو «الدولة العميقة». وتُبيّن ألفة بلحسين وهادية بركات في الفصل المخصص لتتبع نشوء وتطوّر هذا الشعار أنه مأخوذ من قاموس البيروقراطية العثمانية منذ أيام الخلافة، واستمر في عهد الجمهورية مع مصطفى كمال، وهو يعني التنظيم السري أو الطائفة المُلتصقـة بأجهـزة الادارة، والتي تعمـل بجميع الوسـائل من أجل هدف واحد يتمثل في حماية مصالح النظام القائم، ولذلك سُمــي بـ«الدولة العمـيقة». وظهـر هذا التعــبير في وسائل الإعلام والخطاب السياسي مع حكومة «الترويكا» (2012 - 2014) وكان يُقصــــد به كيـــــان غامض داخل الدولة موال للرئيس المخلوع ومُضادّ للثورة. وعلى هذا الأساس اندلعت منــــافسة بين رمــــوز تلك «الدولة العميقة» وعناصر حركة «النهضة» التي كانت تقود «الترويكا»، والتــــي عيّنـــــت آلافا من أنصارها في مواقع إدارية، وبخاصة المستـــفيدين من قرار العفو العام الصادر بعد الثورة، سعيا لتغيير الموازين داخل مؤسسات الدولة والإدارة بما فيها الأجهزة الأمنية. واستدلّت المؤلِّفتان بما كتبه عزيز كريشان مستشار الرئيــــس السابق منصف المــــرزوقي الذي أكّد أن مــــــوظفين ســامين مُـقــــرّبين من النظام الســـــابق عطّلوا تنفيذ قرارات وزراء «الترويكا»، فيما عزا القـــاضي المستقل أحمد صواب كثرة استخدام الصحافة المقربة لحزب «النهضة» لعبارة الدولة العميقــة إلى أن قسما من الموظفين رفضــــوا أسلمة الإدارة وأن جهـــــاز الدولة قاوم عملية الاحتواء.
غير أن مناخ المناكفات والحروب الإعلامية تغيّر مع إبعاد «الترويكا» عن الحكم لتغزو وسائل الإعلام عبارة «الحوار الوطني» التي طغت على ما سواها وباتت مفتاحا سحريا لاستكمال مراحل الانتقال الديمقراطي. وأتت النجاحات السياسية التي أفرزها منهج «التوافقات»، وخاصة المصادقة على الدستور الجديد بعد ثلاث سنوات من الصراعات والمماحكات تحت قبة المجلس التأسيسي، لتُؤهل الأطراف الراعية للحوار الوطني لإحراز جائزة نوبل للسلام. ولم تنس المؤلفتان زلّة اللسان التي جعلت رئيس الرابطة التونسية لحقوق الانسان الأستاذ عبد الستار بن موسى يلفظ كلمة «الحـمار الوطني» بدل «الحـوار الوطني»، في جلسة حضرها كبار المســؤولين إلى جـــانب وفود 21 حــــزبا سياسيا للتـوقيـع على خـــارطـة طــريق الحوار. انفــجر الجميع ضحكا بعدما كانت الأعصاب مشدودة، «بفعل التجـاذبــات ومنـاورات الكواليس»، كما تُسجل المؤلفتان، فأتت زلة اللسان غير المقصــــودة لتُلطّف الأجواء وتُضـفي منـاخا من المرح على جلسة عبوس. وذهبت الكاتبتــان مـدى أبعـد في تحليل الزلة تحليلا فرويديا مُسائلتين بن موسى بعد عدة أشهر عن مشاعره في تلك اللحظة، فاعترف لهما بأنه كان متردّدا بين التوقيع على خارطة الطريق أو الامتناع عن ذلك «بسبب الخشية من استثمار الحوار الوطني لغايات حزبية وإفراغ خارطة الطريق من مضمونها».
هكذا يتجاوز الكتاب رصد تطوّر الكلمات وتحوُل دلالاتها إلى استنطاق المؤثرين في المشهد العمومي وإلقاء الضـوء على المسكوت عنه، مُـقدّما بذلك لوحـات ومشـاهد حيّـة إلى جانب المادة الوثائقية الغزيرة التي يُوفّرها للقارئ المهتم بمسارات الثورة التونسية.
رشيد خشانة
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
- اكتب تعليق
- تعليق
أصداء المؤسسات