أيمن البوغانمي: للانقلاب دائماً ما بعده, تركيا مثالا
يكمن كنه الديمقراطية في كونها تحوِّل المنافسة السياسية من منطق حربي إلى منطق سلمي. إذ أنها تخفّف من ثمن السعي إلى السلطة تخفيفها من تبعات تركها. ففي غير النظام الديمقراطي، يفترض السعي إلى السلطة خيانة الحاكم باعتبار أن نجاح هذا السعي يهدد الحاكم في وجوده لأن الحاكم الجديد لن يقبل بمنافس جدّي قد يعتمد شرعيته القديمة للثأر. ممّا يفرض منطقيا عنفا شديدا في التعاطي مع أيّ تهديد لصاحب السلطة على اعتبار أنه تهديد لذاته. فالحاكم في علاقته بمنافسيه كالعدو بأعدائه، إمّا قاتل وإمّا مقتول.
وتبعات ذلك كثيرة من أبرزها شرعنة استخدام كلّ الوسائل المتاحة من دون ضوابط أخلاقية. فحجم الرهان يبرر ذلك للجميع. بل يفتح التردد في قمع الخصوم باب الأخطار على مصراعيه بحكم تخفيف حجم المقامرة الّتي يعنيها السعي للسلطة، أي أنّ القمع يشكل وسيلة جوهرية للحفاظ على استقرار السلطة وتجنب مخاطر انحلالها.
وتمكّن الديمقراطية من تجاوز هذه المعادلة الصفرية بفتح المجال أمام المنافسة السياسية مع تقييد وسائلـــها من جهة، وتوفير ضمانات السلامة للخاسرين فيها سواء أكانوا في الحكـم أو خارجـــه من جهة أخرى. أي أن الدمقرطة تستوجب التدرج من الصراع السياسي بمنطق حربي قائم على ثنائية الحياة والموت إلى منطق تنافسي قائم على التداول.
وتكمن خطورة الانقلابات العسكرية في كونها تعكس وجهة المسار. فهي تعيد المنطق الحربي للصراع باعتبارها تفتح المجال أمام شرعنة استخدام القوة الخشنة عوضا عن الإجراءات القانونية كسبيل للوصول إلى السلطة أو لخسارتها. ويعني ذلك أن أي محاولة انقلابية في إطار ديمقراطي لا يمكن أن تكون إلَّا كارثة، وذلك بغض النظر عن نجاحها من عدمه. وهو ما يطرح تساؤلات جدّية حول طبيعة الدوافع التي تفسر استبشار بعض السياسيين الذين يعرفون أنفسهم بأنهم ديمقراطيون بتدخل العسكر في السياسة في تركــيا على سبيل الذكر لا الحصر. فإذا كان دافعهم إيديولوجيا، كما يبدو فإنهم يكونون قد فقدوا أي ضوابط عقلية لتقييم الموقف السياسي. ولا يقوم هذا الحكم عليهم على أسس معيارية، بل على مقاييس تجريبية. أذ أن اعتبار إزاحة الإسلاميين مثلا من السلطة غاية كافية لتبرير دعم الانقلاب العسكري يهدد هؤلاء السياسيين في سلامتهم الشخصية باعتبار أن القوة الخشنة إن أرادت التدخل قد تستخدم نفس الحجة لقمعهم، حتى وإن انعدمت علاقتهم بالتيار الإسلامي. ذلك أن الابتعاد عن السلمية في المنافسة والاقتراب من الحربية في الصراع يعطل الإجراءات القانونية ويضعف دور الحجة العقلية في تحديد المفاهيم وفي تنزيلها على نطاقاتها المختلفة.
ويذكّر المثال المصري بأن السماح للقوة الخشنة بوضع قواعد اللعبة السياسية يفسح المجال أمام كلّ الانحرافات باعتبار أن قوى المجتمع المدني لا تملك قدرة ردع حقيقية في مواجهة ديناصور متوحش كالجيش حين يفقد رشده. وفقدان رشده اقتحامه معترك السياسة. وعلى هذا الأساس، تكون تركيا تجنبت الأسوأ حين فشلت محاولة انقلاب 15 جويلية. إذ لا يمكن إنشاء نظام ديمقراطي أو الحفاظ عليه حين تتصدر القوة العسكرية المشهد السياسي، وذلك بغض النظر عن طبيعة الحجج الأخلاقية والمعيارية المقترحة لتبرير الانقلاب.
إن هذا الإنجاز التركي لا يعني بأي حال من الأحوال أنّ محاولة 15 جويلية لن تكون لها تبعات خطيرة على مستقبل الديمقراطية التركية. والجميع يرى اليوم بعض بوادرها خاصة بعد إعلان حالة الطوارئ من قبل الحكومة. أي أنّ الذين خططوا لهذه العملية قد أدخلوا البلد في متاهة ذات مسلكين أحلاهما مرّ. ففشل المحاولة لا يعني أنّ حجم ما حدث ووزنه لا يكفيان لأرجحة ميزان اللعبة السياسية من السلمية المنظمة إلى الحربية المفتوحة. وردة فعل الحكومة بعد هذه المحاولة دليل واضح على ديناميكية البارانويا التي أطلقتها.
وتكمن الصعوبة في أنّ عنف ردّة الفعل منسجمة جوهريا مع طبيعة السياق. ولذا فإنّ استنكار البعض لحملة الاعتقالات والإقالات التي طالت عشرات الآلاف لن تغيّر من حقيقة الأمر شيئا. أي أنّ أردوغان وحكومته غير قادرين فعليا على ضبط النفس لأنّ ضبط النفس يكاد يكون مستحيلا. فالنجاة من أيّ عملية انقلابية عادة ما يدفع صاحب السلطة إلى مزيد من السلطوية. وهو الخطر الذي تواجهه الديمقراطية التركية اليوم. ويبقى الأمل في صلابة مؤسسات الدولة وتجذّر قدراتها الإجرائية بحيث تمنع السلطة الحاكمة من أن تفرض نفسها طرفا وحكما في ذات الوقت.
ويبقى من الضروري الإشارة إلى أنّ خطورة الموقف لا تنفي وجود دواع موضوعية للأمل. ذلك أن مساهمة الشعب الفاعلة في إفشال الانقلاب قد تخفف من البارانويا التي تتلو مثل هذه الأحداث. وفي ذلك دعم لثقة السلطة بنفسها وبمحيطها، ممّا من شأنه أن يحميها من النزعات التدميرية المرتبطة عادة باجتماع القوة مع الخوف. كما أنّ رفض المعارضة العلمانية في تركيا منح غطاء سياسي للانقلاب، حتى قبل إعلان فشله، يدعم هذا التوجه بما أنه يؤكد نهاية مقبولية الانقلابات العسكرية. ثمّ إن في التركيز على النظام الموازي، أي جماعة فتح الله غولن، وتحميله المسؤولية المطلقة في المحاولة الانقلابية، فيه ما فيه من الإيجابيات، إذ أنه يحفظ قدر مؤسسة الجيش ويخفّف من وطأة الإهانة التي لحقت بقياداته، علما أنّ هذه اﻹيجابيات لا تنفي خطر الانزلاق نحو سلبياته الكبرى باعتباره يفتح الباب أمام منطق محاكم التفتيش داخل مؤسسات الدولة. و بالتالي نخلص إلى القول بأن تجاوز اﻷزمة في تركيا مرتهن بمبدإ التوازن بين الفعل و ردة الفعل.
إن للانقلاب دائما ما بعده. ولن تكون تركيا استثناء. وما بعده لا يكون إلا سلبيا على الديمقراطية. ولن تكون الديمقراطية التركية استثناء. ولكن يبقى السؤال: هل وصلت التجربة التركية من النضـــــج ما يمكنها من حصر السلبيات في مستوى المدى القصير؟ وهل بالإمكان استغلال العوامل الإيجابية التي ذكرنا لتكريس الديمقراطية على المدى المتوسط؟ إنّ من الصعوبة بمكان الإجابة عن هذا السؤال. ولكن كما يعكس اعتماد القوة الخشنة مسار الديمقراطية يمكن للإجماع على الضوابط الديمقراطية أن يقضي على شبح الانقلابات العسكرية. ولذا، فالتجربة التركية على المحك: إمّا أن تهيئ لانقلاب جديد، وإمّا أن تعلن نهاية عصر الانقلابات.
أيمن البوغانمي
- اكتب تعليق
- تعليق