لشبونة العربيّة: علامات راسخة
تستهوي«لشبـــونة العـربية» الباحثين حيث لم يُكشف بعد عن جميع خصوصيات هذا الحضور من عمارة وتخطيط عمراني وعن تفاصيل الحياة الاجتماعية ومواصفاتها وتأثيراتها في النسيج الاجتماعي لسكان ما يُعرف بغرب الأندلس.
في الطريق إلى إحدى مدن هذا الغرب في أقاصي القارة الأوروبية، حيث ألتقي الأستاذ الكبير Claudio Torres المؤرخ المختص في الحقبة الإسلامية في الجزيرة الإيبرية والمُشرف على مركز البحوث والحفريات والترميم بالمدينة-المتحف مرتُلا Mertola وكذلك الباحثة المتربصة التونسية آمنة بوحوال، كان لابدّ من المرور بالعاصمة البرتغالية لشبونة وملامسة ما تزخر به من مخزون أثريّ إس لاميّ وعمارة ما تزال مهيبة صامدة شامخة.
وكأنّها على خُطى الكاتب والشاعر البرتغالي الكبير فرنندو بسوَّا Fernando Pessoa، تأخذني دليلتي في هذه الرحلة أستاذة الحضارة الأندلسية نتاليا نونش إلى البدايات والمنطلق حيث ما تزال أطلال الرباط لحماية أهالي لشبونة من المسلمين شاهدة، على مساحة خمسة عشر هكتارا، على حقبة مهمة من تاريخ المدينة والدولة. تحتفظ المدينة بهذه الأطلال داخل «بيت» استثنائيّ الهندسة Casa dos bicos اتخذتها مؤسسة José Saramago البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للآداب مقرّا لنشاطها. تُجاور بعض أساسات هذا السور بقايا آثار رومانية أثبتت الحفريات أن العرب عززوا صمودها ودعاماتها. وقد صمدت فعلا أمام حملات التحطيم أيام الملك ALFONSO HENRIQUES وأمام الزلزال العظيم الذّي كاد يقضي سنة 1755 على كامل لشبونة لهوله حتّى أنّ بطل كتاب الفيلسوف فولتير CANDIDE عرّج عليه في رحلة التفاؤل الشهيرة.
أمّا ثاني مفاجآت الآثار الإسلامية في لشبونة «فالجامع الكبير» حيث تتجاور مُجددا أطلال العمارة الإسلامية بالعمارة الرومانية في الباحة الخلفية لأكبر كاتدرائية في العاصمة البرتغالية. وكأنّ الزمن ينساب بين الردهات العميقة لهذه العلامات الصامدة فلا تكاد تميز بينها في هذا الجوار الاستثنائي.
يأخذنا تتبع العلامات بين أزقّة ثقافة أليفة تذكّرك بمدننا العتيقة حيث تحتمي البيوت بأسوارها من لفح الشمس وينكشف فيها الغرباء إزاء متاهاتها، حيث يتقلص الفضاء العامّ أمام حميمية الفضاء الخاصّ. إن ما تنفرد به هذه الأحياء العتيقة الضيقة ارتفاعها وكثرة سلالمها الحجرية ثمّ انفتاحها من أعلى أحد التلال السبعة للشبونة على نهر التاج المنساب في جلال نحو الأطلسي.
أبواب المدينة الستة ما تزال تحمل ذاكرة ساكنيها على مدى السنوات الممتدة بين 714 م و1147م حيث باب البحر، وباب الحامّة على مسمى حيّ Alfama، باب المضيق، وباب الغرب أو باب الحديد وباب المقبرة وباب الشمس. نتاليا التي تقابل أسماء الأبواب في لغتها العربية اللغة الرسمية في أوج الحضور الإسلامي بأسمائها الحالية لا تنسى ما منحته هذه الحضارة من رقيّ تؤرخ له كتب الرحالة والجغرافيين والأدباء وهو ما يحتاج في نظرنا إلى مزيد تعميق الدراسة والترجمة والنشر. ثم تُفسّرُ ولع الوافدين بالماء والياسمين والرياحين والخزف والزليج والموسيقى، مُعرّجة على زرياب وما أدخله إلى هذه الأرض من مواضعات اجتماعية جديدة وتجديد في الموسيقى قد يكـــون ترك، حسب البعــــــض، في الموسيقى البرتغالية «فادو» Fado وشائج رغم ترجيح الأغلبية بأن تكون جذور الكلمة لاتينية وتعني القدر، قدر الفراق والنأي والحنين، وتتأصل جذور هذا اللون من الموسيقى في بُكاء من ركبوا البحر عبر نهر التاج إلى مغامرات قد تنتهي في بحر الظلمات!
نتاليا تُذكّر بأنّ قدر المدينة أن تفيض عن أسوارها وأن تكون لها هوامشها وحيّ Mouraria من صنع هذا الإقصاء. وحده القصر الرابض على أعلى التلة والمحتلّ لأبرز المواقع الاستراتيجية للمدينة حيث اتخذه العرب رباطا وحصنا عن الطامعين المهاجمين والمتصارعين الطوائف مايزال يُهيمنُ على المكان منذ القرن الحادي عشر ويُقيم الدليل على أنّه كغيره من العلامات في ضواحي لشبونة ولاسيما منها سينتر Sintra وبقية المدن البرتغالية خاصة باتجاه جنوب نهر التاج عنوان ثراء حضارة وفخر شعب.
هاجر بركات
- اكتب تعليق
- تعليق