أخبار -
2016.07.23
رشيد خشانة: عمليّة تنويريّة لإنقاذ شبابنا من براثن التّطرّف
«إن أول ما يجب أن يُبدأ به : التربية والتعليم لتكوين رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية، على بصيرة مؤيدة بالعزيمة، وحمل الحكومة على العدل والإصلاح، ومنه تعويدها الأهالي على البحث في المصالح العامة واستشارتها إياهم في الأمر بمجالس خاصة تُنشأ في المديريات (المعتمديات) والمحافظات (الولايات)».
الشاب أنــور بيوض يستعيدُ عقله الذي صودر منه، فيفرَ من سراديب «تنظيم الدولة»... السلطات الدينية تستعيد مسجد «الأمة» من المدعو الخطيب الادريسي الذي استخدمه على مدى سنوات للتحريض على «الجهاد»... 635 إرهابيا تونسيا عادوا إلى البلاد في الفترة الأخيرة، لكن الأرجح أن عددهم أكبر من ذلك...
ثلاثة مشاهد تبدو منفصلة، لكنها مترابطة الحلقات، ومحورُها هو الحرب الإعلامية والسيكولوجية الدائرة على كسب عقول شبابنا. ولأن «تنظيم الدولة» ومن قبله «القاعدة» اكتشفا قدرة وسائل الإعلام من جهة ومنابر المساجد من جهة ثانية، على استقطاب الشباب بُغية تجميد عقولهم وتحويلهم إلى «روبوات» تُنفذّ ما يُطلب منها، فقد استثمر التنظيم كثيرا في هاتين الوسيلتين، ودرَّ الاستثمار حصادا وفيرا (انظر مقال جيل الإرهاب؟ ليدرز العربية العدد الثاني). لذا لا يجب أن نستغرب عندما تُخبرُنا والدة أنور بيوض أن نجلها خضع لـ«عملية غسل دماغ في جامع بحي النصر»، قبل أن يُقرر السفر إلى سوريا للالتحاق بالتنظيم الارهابي. وهذه الحقيقة تُعيد إلى الأذهان السؤال المتجدد عن المساجد الخارجة عن القانون، التي قالت الحكومات المتعاقبة منذ عهد «الترويكا»، إنها استكملت سيطرتها عليها، ثم اتضح أن ذلك ضربٌ من التضليل.
ويُعتبر تخريب العقول هذا مُقدمة ضرورية لإعداد الضحايا الذين يُساقون إلى حتفهم بعنوان «العمليات الانغماسية» في سوريا والعراق وطبعا في تونس أيضا. ويقوم بعض تلك المساجد، التي مازال المتطرفون والمارقون يتحكمون فيها، بـ«إنضاج الثمار» قبل أن تقطفها الشبكات الإرهابية في الداخل والخارج بتجنيد أولئك المُغرر بهم في عملياتها. وشاهدنا في تقارير تليفزيونية عربية وأجنبية عدة أهمية الدور الذي لعبته مســـاجد مُعينـة في ضواحي العاصمة وخارجها، في استــــــدراج المُلتحقين بالتنظيمات الإرهابية. ولعل وضع «مسجد الأمة» الذي ظل المدعو الخطيب الادريسي يؤمُ المُصلين فيـه على مدى سنوات، خير مثال عن التقاعُس المشهود للحكومات المتعاقبة عن حماية عقول أبنائنا من دسِ السُمِ في الدَسم. سمعنا بهذا «الداعية» العائد من الخليج، للمرة الأولى، لدى اكتشاف «مجموعة سليمان» في 2006، إذ اعتُقل ثم أفرج عنه رغم أنه المُرشدُ الروحي للجماعة. وها نحن نكتشفُ اليوم بعد عشر سنوات أنه ظل إلى بضعة أيام خلت يبثُ السموم، مُحرِّضا على «الجهاد»، ويعقد «اجتماعات مشبوهة مع عناصر متطرفة» (بحسب ما ورد في الخبر) ، قبل أن تستعيد السلطات الدينية السيطرة على المسجد (إلى أن يأتي ما ينفي ذلك).
تتكامل هذه الحفريات في عقول الشباب مع تفريغ الأدمغة formatage وإعادة شحنها برسائل العنف ومفردات القتل والذبح، وهــــو ما تشتغل عليه بنجاح منقطع النظير الآلة الإعلامية لـ«تنظيم الدولة». فبالإضــــــــافة لوسائل الإعلام التقليدية التي وظّف التنظيم لتسييرها إطارات شابة ومتمرسة، مثل وكالة الأنباء «أعماق» ومجلة «دابق» وإذاعة «البيان»، قام باجتياح الفضاء الافتراضي مُستدرجا الشباب بشتى الوسائل إلى مقولاته المُتشددة. ويقول الخبير الفرنسي في شؤون «داعش» فرنسوا برنار هيغ François-Bernard Huyghe في هذا الصدد «إن إعلام التنظيم متطور جدا، إذ يعتمد على التقنيات السينمائية والإخراج الجميل والألوان الزاهية التي تُستخدم عادة في المحطات التليفزيونية الغربية، بما فيها المسلسلات والمُنوعات».
وطبقا لنتائج دراسة أعدَها مركز «كويليام» البريطاني أنتجت الطواقم الإعلامية التابعة للتنظيم في شهر واحد 900 مادة إعلامية بين مرئية ومسموعة ومكتوبة، وهو رقم لا تحققُهُ عادة سوى الشبكات والمجموعات الإعلامية الكبرى، بالإضافة لعشرات المواقع والوسائط الإعلامية المختلفة التي لاتنطق رسميا باسم التنظيم. وعلى سبيل المثال تُظهرُ إحدى اللقطات شابا يُوجه رسالة قبل إقدامه على تنفيذ عملية انتحارية هذا نصُها «باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعدُ، رسالتي إلى إخوتي في دولة الخلافة: أوصيكم بتقوى الله وحدثوا أنفسكم بالعمليات الاستشهادية، فهي أقرب طريق إلى الجنة».
من هنا فإن هذه الأدوات الإعلامية المختلفة تُسخّر جميعا لبث فكر يرمي للتشكيك في كل ما هو سائد ثقافة ودينا ونظاما اجتماعيا، بل وتقويضه من أجل تحويل الجمهور المستهدف، وخاصة الشباب، إلى فكر التعصب والمُغالبة والعنف. وفي الوقت نفسه تزعم أن التنظيم أكثر إسلاما وأصولية من أية جهة أخرى وأكثر نقاء وحزْما، وبذلك تصبح ممارســة العنــــف أمرا يدعو إلى الإعجاب عوض أن يكون مدعاة للنفور، خاصة عندما يتم تبريره بأنه للدفاع عن الإسلام، في إطار السّعي لبناء دولة خلافة تقيم مجتمعا إسلاميا مثاليا، يُتيح لهؤلاء الشباب تحقيق حُلمهم في العيش كمسلمين حقيقيين.
كيف يمكن مقاومة هذا الغول الإعلامي ذي الأصابع المُتعددة، من أجل حماية الأجيال الشابة من نزقه؟ إذا ما صحَ أن 635 من الشبان التونسيين الذين التحقوا بـ«تنظيم الدولة» عادوا إلى بلدهم (بحسب وزارة الداخلية ويمكن أن يكون عددهم في الواقع أكثر من ذلك)، فهذا برهانٌ على أن العلاج ممكن، وأن فرص تطويق تلك الدعاية وكشف ضلالها المُبين ليست بالقليلة. ويحتاجُ ذلك إلى خطة متكاملة تبدأ من المدرسة باعتبار الدور المحوري للمؤسسة التربوية في تلقيح الناشئة ضد سرطان الإرهاب، وتمتدُ إلى وسائل الإعلام التي ينبغي أن تحترس من ترديد أباطيل التنظيمات الإرهابية، وتعمل في الوقت نفسه على تعريتها بأسلوب مهني. والأخطر من ذلك هو ملاحقة الفكر الإرهابي على شبكات التواصل الاجتماعي، التي باتت «تُربي» الشباب أكثر مما تُربيه الأسرة والمدرسة.
لكن لن يُكتب النجاحُ لهذه الحملات المضادة ما لم نكسب المعارك على منصات التواصل الاجتماعي أسوة بـ«فيس بوك» و«تويتر» و«إنستغرام»، لإماطة اللثام عن الأساليب التضليلية التي يعتمدها التنظيم الإرهابي للتغرير بالشباب وتجنيدهم في صفوفه. وهذا يقتضي أن تتهيَأ النخبة لهذه المعركة لا أن تغرق في اللعبة السياسوية والصراعات السخيفة على المواقع والكراسي. إن النخبة التونسية مُطالبة بالمساهمة في الجهد الدولي لتجفيف المنابع الفكرية للإرهاب، وفضح أساليبه الدعائية المُخاتلة، وأيضا في إبراز الطابع الإنساني لديننا الإسلامي، بما هو رسالة تسامح وحوار وسلام للإنسانية قاطبة. ولن يتأتى ذلك الاسهامُ إلا بإطلاق عملية تنويرية وتثقيفية واسعة لمُجتمعنا، وبالأخص لشبابنا، لتوعيته بخطورة الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية ومسايرة فكرها ومقولاتها الزائفة.
غير أن سياسيينا مشغولون بما هو أهم: بتقاسُم جلد الحكومة. وصدق الزعيم الفرنسي الراحل ميشال روكار حين قال عن سياسيِي بلاده إنهم «فئة من الناس يُلاحقها ضغط الوقت، فلا تستمتعُ بنهاية أسبوع ولا بسهرة هادئة، ولا تملك وقتا للقراءة مع أن القراءة مفتاحُ التفكير، ولذلك فهم لم يعودوا يُبدعون شيئا. إنهم ينتظرون حلول المواعيد الانتخابية بلا مشروع مجتمعي لدى هذا الفريق ولا لدى الفريق الآخر».
رشيد خشانة
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
- اكتب تعليق
- تعليق
أصداء المؤسسات