أخبار - 2016.07.24

عز الدّين المدني : روائح المدينة

روائح المدينة

أيقظني أبي قبل صلاة الصّبح بقليل وهو يقول لي: قمْ، انهض، هذا اليوم يوم عطلة مدرسيّة... هيّا قمْ! سوف نعترض فصل الرّبيع هذا النّهار، في مُرْنَاڤ!... هيّا أسرع. صلّينا صلاة الصّبح، وقرأنا السّور القصار حتّى لا تطول ركعاتنا وسجداتنا ثمّ سلّمنا، وأخيرًا دعا هو الله تعالى أن يرزقه ذريّة صالحة... بعد هنيهات، خرجنا.                 

ما إن وصلنا إلى شارع الباب الجديد، ونحن في دريبة ابن عيّاد، حتّى شممنا رائحة الفطائر كأنّها قادمة رأسًا إلينا من دكّان عم دِحْمان الغُمراسني، وهي رائحة تذكي فينا الشّهيّة لتناول فطور الصّباح. فخطونا بعض الخطوات في اتّجاه باب المنارة ثمّ سرنا نحو الجهة المقابلة للباب الأثري الكبير العالي، وكأنّه باب قِشْلَة القصبة. إنّه الباب الجديد، هكذا سمّاه الأجداد منذ عهد عُوج بن يُعنق. فرأينا الفطائري العجوز قاعدًا متربّعًا في مكانه العالي المعتاد، الّذي يشرف منه على كلّ شيء في دكّانه وعلى كلّ زبائنه المتقاطرين من هنا وهناك، وهو يدير بأصابع يديه قطعة من العجين النّيء حتّى تستدير كاستدارة عجلة الدّرّاجة، ثمّ يرميها ربّما بحذر، وعلى كلّ بحذق، ليقليها في زيت الزّيتون الحامي الّذي امتلأ به الطّاجين الكبير.

قال له أبي: صباح الخير، فطيرة ناضجة كالعادة، ومعها «بنتها»...
 
والحقّ أنّه نادرًا ما يأكل الفطائر، وغالبا ما يفضّل كأسًا من الحليب وقهوة عربيّة في فنجانه المخصوص. لكنّي أنا كنت أحبّ الفطائر، وألحّ على أبي أن يتحفني بها كلّ صباح !!!
أجاب عم دحمان: صباح الخير يا سي حسين... ربّي يصون... وبنتها ما تصلح إلاّ لهاك  العازب! «إكمّل عليك يا سي حسين»... «غُدْوه يولّي راجل وياكل فطيره ناضجة».
وما انفكّ الشّاب الّذي يأتمر بأوامر عم دِحمان يشحن التّنّور برزمات من الكاغذ وبالنّشارة، فيحمش النّار والجمر، وهو موقد دائم الاشتعال، يقع تحت الطّاجين الكبير الّذي يقلي فيه الفطائري طلبات الآكلين. 
 
ضرب بالسّافود الفطيرة الّتي بقيت في الطّاجين الحامي، فعالجها مرارًا على وجهيها، وهي تتضوّع الرّوائح اللّذيذة. ثمّ بالسّافود رفع الفطيرة، فصارت ذهبيّة اللّون، داكنة في جوانبها، رفعها إلى فوق فظهرت كالشّمس النّاضجة من تحت غيوم الفجر، فتقاطرت زيوتها، ثمّ أتبعها «ببنتها الصّغيرة»... وروائحها الممتعة قد سافرت إلى شوارع الحي كأنّها تدعو الآكلين بعد أن تبشّرهم بالصّباح.
 بعد الأكل، ركبنا «كَالِيصًا» كان على ملك أحد أصدقاء أبي. و«الكَالِيصُ» في تعريف التّونسيين القدامى هو مركبة خفيفة سريعة لكنّها فاخرة، يجرّها حصان سريع الخَبَبِ قويّ، ولكنّه فاخر أيضًا. لا يمكن أن يتّسع لأكثر من راكبين اثنين، السّائق وضيفه أبي. فجلست بينهما، فقادنا «الكَالِيص» بعد الرّكض زهاء ساعتين إلى سانيّة صديق أبي...
لقد كان الرّبيع منفجرًا بالرّوائح الطّبيعيّة العطرة في ثنايا السَّانِيَة، ومسالكها وأشجارها ونباتاتها وأزهارها، ومكلّلاً بالأنوار السّاطعة، وقد سكرت الحشرات الطّائرة من الفراشات والنّحل والزّنابير بالرّوائح الشّائقة كأنّها رحيق هذا البستان المترامي الأطراف...
 
وعند العشيّة عدنا إلى المنزل بالعطرشيّة، والتّافغة، والزَّنْزَفُورة، وورْد أريانة الشّذي، الّذي ينعش الرّوح، ونحن نجرّها وراءنا، وننشر في الشّوارع الرّوائح الرّبيعيّة الّتي تنعش الحي بأكمله.
  كثيرة هي البيوت في حيّنا وفي غير حيّنا، الّتي تعبق بروائح الرّبيع، بل بروائح مختلفة على مدى فصول العام ما عدا فصل الشّتاء طبعًا. وحتّى فصل الشّتاء فلقد استطاع جدّي _رحمه الله_ أن يقطف في أثنائه قرنفلات ذكيّة الرّائحة، مزروعة في حوض كبير يقع بين الماجل والبئر في صحن بيتنا القديم، إلى جانب محبس الحَبَق، والمحبس الكبير الّذي خصّصه للورد العربي الفوّاح. 
ككلّ التونسيين القدامى من مدينة تونس ومن مدن أخرى كالقيروان وصفاقس ونابل وسوسة والحمّامات وزغوان، كان جدّي مولعًا بالأزهار ذات الرّوائح الزّكية. أتذكّر أن كانت له في صحن دارنا ياسمينة أيّام صباي، فهلكت في أثناء الحرب العالمية الثّانية حسب قول أبي، لأنّها عطشت فلم تجد من يسقيها، إذ أنّ أفراد أسرتنا قد فرّوا إلى ضاحية حمّام الأنف بأرواحهم، وهي مقرّ إقامة محمّد المنصف باشا باي ملك البلاد بوصفها خارجة عن الحرب. وبعد الحرب، تعوّد جدّي بأن يقتني في كلّ عشيّة خَجْلَة ياسمين يتنوّر بها طوال المساء، ثمّ يضعها إلى جانب وسادته في اللّيل ليشتمّ رائحتها اللّطيفة الأنيقة الهادئة. وكلّما شمّها أو بالأحرى استنشقها بملء رئتيه نطق من سويداء قلبه: «اللَّهمْ صَلِّ عَ النْبِي»! 
 
والظّهور بمشموم الياسمين أو الفُلّ إنّما سمة من سِمَات الأناقة الرّجولية التّونسيّة في القديم، وعلامة من علامات التّمدّن والحضارة عبر الأجيال والعهود. زد على ذلك كلّه أنّ الشّاب المتزوّج الجديد كان يهدي إلى زوجته الجديدة مشمومًا من الياسمين سبعة أيّام في سبعة أيّام أخرى، ولربّما يَهِبُها قلائدَ من الفُلّ يضعها حول جيدها. والحقّ أنّ هذا من تدبير العاشقين إذ لِخَجْلَة الياسمين المهداة اعتبارٌ وقيمةٌ. وكلمة خَجْلة في تعريف التّونسيين هي عبارة عن ورقة من شجرة التّين، داخلها نديّ، مبلّلٌ بشيء قليل جدًّا من الماء، تُطوى على مشموم الياسمين، والياسمين مازال برعمًا بلونه الأبيض الممزوج باللّون الورديّ، كما تُطوى حافظة نقود، أو يُطوى ظرف بريديّ فيه أخبار وأسرار، ويظلّ البرعم برعمًا إلى حينٍ... وإذا ما وصلت الخَجْلة إلى المعشوق، وفتح ورقة التّين تفتّحت البراعم، وصارت أزهارًا بيضاء يانعة، وسلّمت رائحتها العطرة كرسالة العشق المعطّرة من العاشق... اللّهمْ صَلِّ عَ النْبِي.
 
نحن الصّغار- إخوتي وأنا- كنّا مكلّفين دائمًا أبدًا بقضاء الحاجات المنزليّة فنحن نعرف الخبّاز، وبائع التّوابل فنسمّيه «زَرَارْعِي» الّذي يعرض على النّاس الكمّون والرَّند، والكرويّة، وفلفل الزِّينَة، وشُوش الورد، والنّعناع ، وبائع السّمك المجفّف كالوَزَف، والسَّبارس، والرِّنْـڤَة، والطّواحني الّذي يقلي حبوب الحمص والحِلْباء والدّرع والقهوة ثمّ يرحيها بطاحونته الكهربائية الخُرْدة. وإذا ما تكاسلت فوقفت كالحمار الحرون، فإنّ الطّواحني يخاصمها ويغضب، ولا فائدة من وراء معالجته لخيوطها الكهربائيّة المهترئة أو محرّكها العجوز، لأنّها بلغت أرذل العمر! فيسلّم المعلّم بشير الطّواحني عندئذ أمره إلى الله تعالى.
 
وإذا صادف أن استأنفت نشاطها حسب مزاجها المتعكّر فإنّ صاحبها يُغنّي لها أغنيته المفضّلة «النّيل !نجاشي» لمحمّد عبد الوهّاب، بعد أن يعدّل شاشيتهُ الإسْطَنْبولية القديمة على رأسه ويبدأ أغنيته من نهايتها: «هِيلاَ هُبِّي هِيلاَ» يترنّم بها على إيقاع طاحونته الرّتيب الّذي يطربه ولا يطرب جمهور زبائنه، فتزيد الطّاحونة الهرمة جهدًا على جهد، فترحي حبوب القهوة المقلية بُنًّا رقيقًا في رقّة الحرير، وهكذا تتنفّس رائحة البُنّ، وتنتشر بقوّتها الآسرة، وتطغى على أرجاء سوق البلاط بل على سماء حيّ تربة الباي بكامله! وقد بالغ شيوخ مقهى «إسماعين العِفْريت» في حيّ الصّبّاغين، فادّعوا- والعهدة عليهم - أنّ رائحة البنّ هذه الّتي لا تعادلها رائحة أخرى قد وصلت سُحُبها إلى حيّ الحلفاوين، وقد شمّها ناس في حيّ الجَيَّارة وسيدي منصور أيضا. ومن يدري؟ لعلّها بلغت أيضًا شوارع باب قرطاجنّة وباب البحر! العلم عند الله! وسوف تلقى هذه الطّاحونة الأثريّة عشيرة عُمُرِ الطّواحني مكانها في دار العجايب بباردو طال الزّمان أو قصر لما قدّمته من الأيادي البيضاء لروّاد المقهى، وهم الشّيوخ المحالون على المعاش منذ زمان، بوصفهم «عَرَصَات» مقهى«إسماعين العفريت»...حسب تعبيرهم طبعًا. اللَّهم صَلِّ عَ النْبِي .
 
سوق العطّارين يقع على بضع خطوات من سوق البلاط، وهو بجوار جامع الزّيتونة المعمور، القلب النّابض لمدينة تونس منذ العصور الّتي تغرق في العصور. لذلك ازدحم سوق العطّارين بمحلاّت صانعي العطورات وبائعيها، وهي مصطفّة على الجانبين من أوّل السّوق إلى آخره، من بينها دكاكين باعة الطَّفل، والسُّواك، والحنّاء، والشَّبّ، واللُّبان العُماني من أجود نوع، والكُحل ولوازمه، والحَرقُوص ولوازمه أيضًا، والعَفْص، وماء العطرشيّة، وماء الزّهر، وماء النّسرين، وماء الورد. وجميع هذه المياه تباع بالفَاشِكات. وهي الزّجاجات المجوّفة كالمرأة الحبلى، وكذلك حوانيت باعة مختلف أنواع البخور المستوردة من الهند، والسّند، وزِنْجِبَار، وأندونيسيا وحتّى من جزيرة العرب ومن تجّار مدينة جدّة كالدّاد والجاوي والنَّد والصّندل والمِسك والعنبر والقماري. 
من كان يتجوّل في سوق العطّارين، ويتنفّس روائح هذه المنتوجات النّفيسة يحسّ بانتعاش روحيّ بليغ. لكن اليوم، مَنْ مازال يصنع العطورات، ويستعمل القَطّار الّذي سمّاه العرب القدامى الألَمْبيق؟ أين روح الورد؟ وروح الياسمين؟ وعطر المسك؟ وعطر العنبر؟ أين؟
 
 كنتُ في عنفوان شبابي كلّما تجاوزت عتبة دكّان الحاج عبد الحميد المرساوي العطّار، صانع العطر، مبتكر العطر، فنّان العطر! كان -رحمه الله- يعرف مزج عطر بعطر، معرفة الجهابذة المختصّين العارفين، قد تعلّم هذه الصّناعة الرّاقية عن أبيه وجدّه، كأن تقول: كابرًا عن كابر إذ هو من البُيوتات العريقة في مدينة تونس، قد ورث الأخلاق الحميدة العالية واللطف في معاملة الغير مع الاحترام والتبجيل. وكلّما دخلت عليه نفحني بقطرة من إبداعه العطري العجيب. وتبقى القطرة على جسمي أسابيع، وتشيع رائحتها الزّكية في يديّ وثيابي وأنفاسي، فأقول وأردّد: اللّهمْ صَلِّ ع النْبي!...
 ثمّ أتى على العطورات التّونسية- لا سيّما المصنوعة في تونس- «ذو أتى» كما كان يعبّر العرب القدامى بهذا الإيجاز الجميل. فلقد اكتسحت مدينةَ تونس العطوراتُ الّتي حملها الاستعمار معه. وهي إجمالاً الكولونيا، وتخصيصًا العطورات الباريسيّة الّتي راجت في أقطار المغرب الكبير ولا سيّما في تونس إثر الحرب العالمية الأولى، واشتهرت خلال العشرينيات، والثّلاثينيات، والأربعينيات، وبقيت إلى مشارف الخمسينيات من القرن العشرين، وتركّزت لدى الأسر التّونسيّة المترفّهة وتخاطفتها العائلات المعوزة وقليلا ما حصّلت عليها. فتقلّصت صناعة العطورات التّونسيّة وتجارتها وتسويقها شيئًا فشيئًا، ببطء شديد لا يشعر به المرء بتاتا. وقد لعب الإغراء الأوروبي بفضل الإشهار الكبير الدّائم في كلّ يوم للأشياء الجديدة المبتكرة،  وللموضات الطّريفة دورًا قويًّا في انتشار عـــــــــطورات « سْوَارْ دِي يـارِي» و»رَاف دُورْ « و» كْوِيرْ دي رُؤسّي « مثلاً حتّى في الأوساط شبه المتواضعة. ودخلت في عادات حفلات الخطوبة والزّواج، وصارت جزءًا لا يتجزّأ منها. وتبعت هذه العطورات الباريسية المغرية أنواع الصّابون المُمَسَّك...
 
وعندما بلغت العطورات التّونسيّة السّتّينيات والسّبعينيات من القرن العشرين صارت في وضع صناعيّ وتجاريّ لا يُحْسَد عليه من جهة ومن جهة أخرى فقد بدأ يرحل أفراد جيل الصناعيين التونسيين الأفذاذ، وتوفّي كبيرهم عبد الحميد المرساوي في داره بجبل المنار، فبكاه« سوق العطّارين» بأكمله...رحم الله الجميع. ولئن كانت بعض الأسر الّتي تتحلى بالثّقافة العربيّة الإسلامية العريقة والمحافظة مازالت زمنئذ تقتني عطورات تونس في مناسبات معروفة، فإنّ الغشّ بدأ يظهر وينتشر: غشّ العطورات التّونسية، وغشّ العطورات المستوردة من الخارج! فحطّم ذلك العطورات الأصْلِيَّة، إلى جانب تسويق الكولونيا الرّخيصة المُفَبْركة بالعقاقير الكيمياوية... بالإضافة إلى ما جدّ في السّنوات الأخيرة الماضية: انتشار الرّوائح الخبيثة الّتي تعصر القلب، وهي متراكمة في شوارع المدينة، وأنهجها، وبطاحها. فيتأفّف منها المواطن، وتأخذه الحسرة على مدينته الّتي كانت بالأمس القريب زينة المدن وأمّ البلدان وعروس المغرب كما كان يقال.وتونس إنّما كانت نموذجًا للنّظافة والنّقاوة والحسن، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم! 
 
فمن الطّبيعي أن يهرب المواطن بجلده وبأنفاسه إلى روائح الرّقيّ والتّمدّن والحضارة، فيستنشقها ملء رئتيه، وهو يقول: اللَّهمْ صَلِّ عَ النْبِي لا إلى الروائح النّتنة العفنة الكريهة، روائح التّأخر والانحطاط والعنف! ذلك أنّ الرّوائح الطيّبة المعتبرة إنّما هي من روح الطّباع التّونسيّة الصّميمة والعادات المأثورة المتّبعة الّتي عاشتها حضارتنا منذ ما يزيد عن ألف وخمسمائة سنة...
عز الدّين المدني 
هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.