الدكتور الكواري وثورة الإعلام في عالم مُتغيّر
الدكتور حمـــــد الكواري في كتابه الجديد (الثالث) «على قدر أهـــل العزم» الصادر مؤخرا عن دار بلومزبري بالدوحة، منهجا مُغايرا للمنظرين الغربيين الذين ذهبوا مذاهب شتى في قراءة ثورة الإعلام الجديد. وهو يبتعد عن النظريات المُعقدة التي تــدور حـــول مصطلح «الميديولوجيا» Médiologie أي علم الميديا أو علم الإعلام، الذي صاغه الباحث الفرنسي ريجيس دوبري في كتابه «محاضرات في الميديولوجيا العامة» الصادر سنة 1991، قبل أن ينتشر المفهوم بشكل واسع في مطلع الألفية الثالثة. على العكس من ذاك المنهج الأكاديمي، يعتمد صاحب «على قدر أهل العزم» على خبرته الطويلة في حقلين مُتجاورين الثقافة والإعلام، بوصفه شغل الوزارتين في أوقات مختلفة ومارس الاعلام ميدانيا، ليُلقي الضوء على ثورة الإعلام الجديد التي اجتاحت العالم العربي، وخاصة تأثيراتها الاجتماعية والثقافية في فئة الشباب. ويُعتبر كتابُه الجديد مُتابعة وتطويرا لكتابه السابق «المعرفة الناقصة: العرب والغرب في عالم مُتغير») دار رياض نجيب الريس بيروت .(2005
الشباب الخليجي والأنترنت
يُنبئُنا المؤلف أنّ عدد مستخدمي الأنترنت في دول الخليج بلغ 22 مليون مستخدم من مجموع 51 مليون ساكن في 2014 ،وأنّ نصف مستخدمي الفيسبوك تتراوح أعمارهم تقريبا بين 19 و29 سنة. كما رصد أيضا التطور الذهني لدى مستخدمي الميديا الجديدة من الشباب، والتحولات الاجتماعية التي ترتبت على ذلك الانعطاف، مُستخلصا أننا بإزاء قطيعة مع الإعلام التقليدي، وهي قطيعة لا يعكسها تراجع مكانة الصحافة الورقية فحسب، وإنما نهاية العلاقة العمودية بين الباث والمتلقي، إذ بات الجمهور، وغالبيته من الشباب، كما يُذكرنا المؤلف، هو الذي «يُنتج المحتوى بفضل الميديا الجديدة، ولا سيما وسائل التواصل الإجتماعي التي أثبتت جدواها خلال ثورات الربيع العربي، وكانت وسيلة التعبير والحشد والتنظيم والتواصل عموما بين أعداد كبيرة من المستخدمين». بهذا المعنى كسرت الميديا الجديدة ثنائية النخبة التي تصنع الأفكار وتنتج الخطاب، والجمهور الذي يكتفي بالتلقي، وهذا ما حمل الدكتور الكواري على التساؤل: «هل نشهد اليوم أفول نجم المثقف والسلطة؟».
مع ذلك لم يفُتهُ أن يُلاحظ أنّ كبار المثقفين والأدباء، وحتى النجوم من رجال الإعلام، صنعوا لأنفسهم مُدوَّنات، وهم يُقدمون آراءهم مثل سائر «الصحفيين المواطنين»، فقد فهموا أنّ سلطتهم انحسرت بانحسار سلطة الصحافة المكتوبة بالخصوص، وأدركوا أنّ الصيغ الجديدة كالتدوين والتغريد، أشد وقعا لدى المواطنين من الإعلام التقليدي. من هنا بات الذي يمتلك السبق الصحفي ليس المُصور الصحافي أو المحرِّر المُحترف، وإنّما «المواطن المسلح بهاتف جوال ذكي»، إذ أن الصورة «أصدقُ إنباءً من نشرات الأخبارِ».
غواية محمودة
تُفضي مُواكبة هذه الثورة المعلوماتية ومُراقبةُ تحولاتها واستشراف تداعياتها إلى نوع من الاستسلام لغواية التنظير، تلك الغواية الحميدة في المرحلة الراهنة، فنحن في أمس الحاجة اليوم لتلمُّس مفاعيل الثورة الإعلامية في مجتمعاتنا، إذ أنّ غالبية الاجتهادات النظرية التي قدمت لتفسير الحالة الإعلامية الجديدة وفهم تداعياتها أتت من مفكرين غير عرب، ما جعل الإسهام العربي في حقل التنظير محدودا في مجال الإعلام بشكل عام، وفي مجالات الإعلام الحديثة على وجه الخصوص. كما أنّ الأطروحات النظرية التي قدمت لفهم طبيعة الإعلام الجديد لم يكن مصدرها أساتذة الإعلام والاتصال بالأساس، بقدر ما صدرت عن خبراء وأساتذة ومهتمين بالشق التكنولوجي، المتعلق بتقنية المعلومات وهندسة الشبكات وتطويرها. ولعل من المهم أن نشير في هذا المضمار إلى أنّ «تويتر» على سبيل المثال انطلقت في تقديم خدمتها في 2006 ،لكنها لم تدعم اللغة العربية إلا في عام .2012
يمضي الدكتور الكواري في هذه المراوحة بين الجهد التنظيري واستذكار أحداث ولقاءات وتجارب مهمة في مسيرته، من بينها لقاؤه في 2015 بالكاتب الفرنسي نيكولا بورداس أحد مُنظري الميديا الجديدة ومؤلف كتاب «الفكرة القاتلة» الذي تُرجم إلى الانكليزية تحت عنوان The killer Idea«». ويرى بورداس أنّ الحضارة، كما الثقافة، لا يمكن أن تكون إلا بفضل التواصل المجتمعي، الذي يُنشىءُ ما يُطلق عليه تسمية «مجتمعات تواصلية» لازمت الحياة المدنية منذ القديم. وهو يعتقد أنّ «الأغورا» اليونانية، التي ظهرت ومورست قبل الميلاد بأربعة قرون، لم تكن سوى شاهد من شواهد التاريخ على ذاك «المجتمع التواصلي». إلا أنّ الطابع الكوني للحداثة جعلها تمحو الفواصل والحدود بين المواطنين وغير المواطنين، والأصيلين والغرباء، فنحن نشهد عصرا يصفُهُ بورداس بـ«ما بعد المجتمع»، إذ نحن نعيش اليوم في أكثر من عالم وأكثر من مجتمع في الآن نفسه.
هُويات مُتغيرة
وتأسيسا على ذلك ينتقل المؤلفُ في الفصل السادس من الكتاب إلى قراءة التغييرات الداخلية التي تشهدها الهويات الثقافية في عالمنا اليوم بتأثيرات خارجية، ومنها ما يتعلق بمكانة المرأة ودورها في المجتمع، مُلاحظا أنّ «جميع الثقافات أصبحت تشهد تبدُلا في منظومة القيم المُتصلة بالنوع الاجتماعي»، من ذلك أنّ المساواة بين الرجال والنساء باتت «أفقا ثقافيا كونيا مشتركا توضع له السياسات والبرامج باسم التمكين للمرأة في مختلف مجالات الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية». وهو يُحذر هنا من أنّ الانكفاء على الذات والانغلاق على الهويات، بسبب تسلط العولمة، ليسا سوى تعبير فج عن ثقافة الخوف، وهما دليل على أنّ جميع الثقافات اليوم في لحظة تحول وتبدل، إذ أنّها أصبحت ثقافات مُهجنة بالضرورة، سواء أكانت واعية بذلك أم غير واعية، وهي حالة من التعقد المعرفي والتهجين الثقافي غير مسبوقة في تاريخ البشرية. وتتبوأ المدرسة مكانا محوريا في هذه التحولات الثقافية والاجتماعية، بوصفها تشكل قوة تغيير هائلة، ومُختبرا لصناعة المستقبل في رأي الدكتور الكواري.
آخر وزير إعلام
رُبما كان أطرفُ ما في هذا الكتاب روايةُ المؤلف لحادثة غير معروفة وغير مألوفة في عالمنا العربي، جدّت قبل ثورات الربيع الديموقراطي، وهي إلغاء وزارة الإعلام في قطر، إذ يستذكرُ الكاتبُ والوزيرُ حمد الكواري مُلابسات ذاك القرار، كاشفا أنّه هو الذي ألمح في جلسة مع رئيس الدولة إلى أنّ «البلدان المُتحضرة ليست فيها وزاراتٌ للإعلام»، مؤكدا أنّ أي وزارة إعلام هي قيدٌ على حرية التعبير والتفكير، فما كان من رئيس الدولة إلا أن طلب منه إعداد دراسة دقيقة عن المسألة مُدعّمة بالحُجج. ولما تلقاها بعد أسابيع قرر إلغاء الوزارة، فكان الكواري بذلك أول وزير يُلغي وظيفته باقتراح منه، وآخر وزير إعلام في قطر.
بعد إلغاء وزارة الإعلام تفرغ الدكتور الكواري للثقافة والفنون والتراث، وهو الاسم الذي أطلق على الوزارة التي شغلها منذ 2008 إلى مطلع العام الجاري، فمضى على الخط نفسه الذي شرح مرتكزاته في هذا الكتاب، مُحاولا إبراز الترابط بين الثقافات، انطلاقا من كوننا نشهد اليوم مخاضا لميلاد إنسان جديد، يتمتع بصفتي المواطن المُنغرس في ثقافته، والمواطن الكوني المُتفاعل ثقافيا. وهو يُشدد في هذا السياق على أنّ العناية بالثقافة في المنظومة الخليجية هي صيغة مثلى للإستثمار في الانسان الخليجي، بما يُخرجه من الصورة النمطية المُضللة عن «الإنسان النفطي».
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق