"الكرسي بطل الرواية"
جمعتني الصدفة في بداية سنة 1988بالمرحوم الشاذلي زوكار وكان حينها سفيرا باليمن... حضر مراحل الصراعات والمفاوضات التي توجت بالوحدة اليمنية وحضر كذلك رفع أول برميل نفط يمني. كان دائم الابتسامة، محبا للحياة... نشأت بيننا صداقة مفعمة بالود وحضرنا معا العديد من التظاهرات الثقافية ومن بينها أمسيات شعرية، حيث كان مولعا بالشعر.واستمرت صداقتنا رغم بعدنا عن بعض بسبب عملي في عدد من البعثات بالخارج، إلى حين وفاته المفاجئة في شهر ديسمبر من سنة 2008. وأتذكر أننا كنا نقول عند لقاءاتنا الصيفية «إن الجغرافيا هي التي فرقت بيننا، لا التاريخ...».
السفـيـر الشـاذلي زوكـار ديبلوماسي وأديب وشاعــر وقصّــاص مـــن مؤسسي اتحاد الكتاب التونسيين،كما كان عضوا فخريا في رابطة الأدب العربي بالقاهرة.أهداني عــددا من مقالاته،استحضرت منذ زمن وجيز إحداها التي كتبها سنة 1982وعنوانها «الكرسي بطل الرواية»، بسبب ما تعيشه الساحة السياسية في تونـس وخــاصة هرولة كـل السيـاسيين تقريبـا وراء الكــرسي، لا وراء مصلحــة الوطن ومن أجلهـا.
يستهل المرحوم مقاله كما يلي «كثيرا ما يكون «لكرسي» بطل الرواية وكثيرا ما يرافق «الكرسي» الرواية أو فصلا منها. ولقد احتل الكرسي مقاما كبيرا في حياة الناس بمختلف مستوياتهم، ومع رحلة أيامهم... ولعلنا نذكر رواية فقيد المسرح العربي يوسف وهبي «كرسي الاعتراف» والصدى الذي لاقاه بطل الرواية الذي هو ليس يوسف وهبي بل «الكرسي» نفسه الذي كان يرمز إلى أعمق المعاني... «ولــو أردت أن أستعـــرض الروايــــات والمسرحيـــات والقصــص التي خلقت من «الكرسي» بطلا عملاقا له دوره في حياة الناس لملأت عديدا من الصفحات...إننا كثيرا ما نقرأ عناوين في حياتنا السياسية يرتكز تحليلها على الكرسي وذلك كأن تقرأ عناوين مثل «حرب الكراسي بين فلان وفلان» و«الصراع من أجل الوصول إلى الكرسي»...
«ويجعل الناس «الكرسي» رمز السلطة والجاه بل التسلط والكبرياء أحيانا، فيقولون «إن فلانا يجري وراء الكرسي» أي السلطة أو إن «فلانا يتمسك بالكرسي حتى الموت»...
وصاحبنا الذي أثار في نفسي كل هذه الخواطر عن سيدنا الكرسي له قصة في منتهى الطرافة، دخل ذات صباح كعادته إلى مكتبه وهمّ بالجلوس على كرسيه الدوار، وإذا به يكاد يسقط على الأرض لولا تماسكه بدرج المكتب...
اتضح له أن الكرسي الذي جلس عليه ليس كرسيه المعهود، وأنه مكسور...هناك يد خفية دست هذا الكرسي المكسور واستولت على الكرسي المريح...فكّر صاحبنا مليّا ثم قرر أن يضع الكرسي المكسور في مكتب زميله خلسة ليأخذ كرسيه المريح...وبالفعل نفذ قراره. وفي يوم الغد دخل زميله مكتبه متظاهرا بالتحية بينما عيناه تتفحصان الكرسي بأسلوب محتشم، يبحث بصمت وحذر... يبحث عن بعض العلامات التي تميز كريسه...وعندما سأله زميله عن سر نظراته الغريبة التي لم يتعودها، أجابه بشيء من الارتباك هناك يد غيرت كرسي مكتبي المريح بكرسي آخر مكسور... فأجابه صاحبنا: «بسيطة، مثلما غيروا وبدلوا كرسيك افعل مثلهم وضع الكرسي المكسور في مكتب آخر، وخذ الكرسي المريح لتستريح...
وفعلا نفذ الزميل النصيحة واستبدل كرسيه بكرسي جـاره، ونفــس العمليــة تمت في اليوم الموالي مع الجار الآخر... واستمر الكرسي المكسور يتجول من مكتب إلى آخر حتى كاد أن يصل مكتب «الرئيس»...لا لشيء إلا لأنه مكسور فهو مرفوض، ولأنه مرفوض لابد أن يحتل صدارة الغش والخداع والتزوير...
هذا الكــرســي المنبــوذ، هذا الذي حيّــر العقــول وجلب المتـاعب، إلى أين وصل في جولته الشاقة الآن...؟!
لقد تمتع أناس كثيرون بالجلوس عليه عندما كان وثيرا، مريحا ومتماسكا...أما وقد تداعت أركانه وأصبح يهدد كل من يجلس عليه بالسقوط، فإنه سيخفي حقيقته لأنه لا يكتشف إلا بتجربة الجلوس...إنه مازال يتجول من مكتب إلى مكتب ويلعب دورا خطيرا في حياة الناس الذين يعيشون حوله...إذن فالأحسن لك أن تظل واقفــا من أن تجلــس على كــرسي متداعي الأركان أو أن تفعل مثل صاحبي لتستبدل كرسيك المكسور بكرسي جارك المتماسك الدعائم... إنه «الكرسي» بطل الرواية ... والرواية قد تكون ذات فصل أو عدة فصول... لكن لابد لها من نهاية... ولا بد للستار أن يسدل عليها في آخر المطاف... مهما طالت فصولها...؟ !
لم يسدل الستار في تونس وفي العديد من البلدان الأخرى، وربما لن يسدل إلى يوم الدين... بقينا نعيش يوميا وفي كل لحظة صنعها الله على وقع الصراع على الكراسي...
ننتظر بألم قاتل وقد بلغ الوهن النفوس وسدت أمامنا كل الآفاق بسبب المتصارعين الذين دمّروا فينا أحلام الانعتـاق من جشعهم ومن أنانيتهم...عزف الناس عن العمل وأدمن الكثير منهم على المهدئات والمسكنات والمنومات ...
هذا يجري وراء المؤبد في الكرسي... وذاك يجري وراء توريث الكرسي... هذا هو الطغيان والاستبداد بلعبة الكرسي... زرعوا فينا الفرقة ونبذوا الوحدة...نكلوا بالشعب المستبله المستضعف...كرّسوا منطق الصنف والمذهب...
أصبح همنا الوحيد أن تنتهي المسرحية الرديئة وأن يتقاسموا كراسيهم، على أن نستريح ونمرّ لما فيه خير للوطن...
مسكينة هي شعوبنا التي عانت الويلات ولا تزال، والتي أعدم حبها للحياة وأملها في الخروج من معركة الكراسي الأبدية...
(تكريما لروح المرحوم السفير الأديب الشاذلي زوكار).
توفيق جابر
- اكتب تعليق
- تعليق