إنصافا لمحمّد عطيّة...
كان على عائلة محمّد عطيّة وتلاميذه ومريديه، إضافة إلى الذين عرفوه، مربّيا ومديرا لأعرق مؤسّسة تربويّة عصريّة في البلاد، أن ينتظروا قرابة نصف قرن لتسلّط الأضواء على مسيرته الرائدة وليردّ إليه الاعتبار بعد أن أجمع الكثيرون على أنّه تعرّض لمظلمة، قلّما تعرّض لها علم من أعلام تونس، ممّن تركوا بصمات جليّة في مجالات عملهم وكان لهم دور بارز في بناء مستقبل البلاد ونهضتها.
جاءت المبادرة من مؤسّسة التميمي للبحث والمعلومات التي خصّصت لمدير المعهد الصادقي من سنة (1944 إلى سنة 1955) «سيمنار» ضُمّنت وقائعه في كتاب صدر عنها مؤخّرا،وذلك تجسيما لما تبديه من حرص على شحذ الذاكرة الوطنيّة ونفض الغبار عن عديد القضايا والملفّات التي ظلّت لفترات طويلة مسكوتا عنها حتّى كاد أن يلفّها النسيان. وقد تضمّن برنامج اللقاء مداخلات وشهادات قدّمها بالخصوص السيد فؤاد المبزّع، رئيس الجمهورية الأسبق ورئيس جمعيّة قدماء المعهد الصادقي وعدد من الباحثين، ومن قدماء تلاميذ هذه المؤسّسة، إلى جانب نجلة محمّد عطيّة.
أوّل تونسي ومغاربي يحصل على التبريز في اللغة والآداب العربيّة
يقول الدكتور عبد الجليل التميمي في تقديم الشخصيّة، موضوع «السيمنار»:
«ولد المربّي محمّد عطيّة في 3 نوفمبر 1903 بسوسة، والتحق بالمدرسة الابتدائيّة الفرنكو-عربيّة بباب القبلي، ثمّ التحق بالمدرسة الصادقيّة عن طريق مناظرة. وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا بجزأيها، قرّر الالتحاق بباريس حيث أقام فيها بين 1921 و1931. وتمتّع بمنحة دراسيّة من جمعيّة كان يطلق عليها اسم حبس «القلّة». وقد أنهى تعليمه هناك بالحصول على شهادة التبريز في اللغة والآداب العربيّة، وكان بذلك أوّل تونسي ومغاربي يحصل على هذه الشهادة من الصربون بباريس. عاد بعدها إلى تونس في أكتوبر 1931 واقترحت عليه إدارة التعليم العمومي تعيينه في الليسي كارنو، ونظرا لروحه الوطنيّة فقد رفض التدريس في الليسي كارنو وتمسّك بالتدريس بالمعهد الصادقي لعديد الروابط الثقافيّة والروحيّة التي كان يتفاعل معها إيجابيّا.وفي أكتوبر 1934 تمّ تعيينه نائبا للمدير بالمعهد الصادقي، قبل أن تؤول إليه المسؤوليّة الأولى بالمعهد في 1944. وإثر رجوع الرئيس بورقيبة إلى أرض الوطن في غرّة جوان 1955 سمح محمّد عطيّة للأساتذة والطلبة بالتغيّب لاستقبال الرئيس بورقيبة في حلق الوادي، إلّا أنّ مدير التعليم الفرنسي لوسيان باي أمره بعدم إرجاع الطلبة الذين تغيّبوا عن المدرسة الصادقيّة إلّا مصحوبين بأوليائهم. ورغم هذا القرار المجحف ضدّه، قام محمّد عطيّة بإرجاعهم إلى صفوف المدرسة، وقد وجّه له إثر ذلك توبيخ بهذا الخصوص!». وبشأن إقالة محمّد عطيّة من إدارة المعهد الصادقي، اعتبر الدكتور عبد الجليل التميمي أنّ هذا القرار كان «بسعي من الحزب الدستوري الجديد. ثمّ وقعت محاكمته من قبل محكمة القضاء العليا من 11 إلى 18 أوت 1958 لتصدر في شأنه حكما بخمس سنوات سجنا ومصادرة كلّ أملاكه وتجريده من الصبغة القوميّة (أي الجنسيّة) لمدّة 10 سنوات، قبل أن يصدر العفو التشريعي العام، وقرار ثان باسترجاع أملاكه وهذا ما تمّ فعلا في ما بعد».
دوره في تطوير التعليم الصادقي
تبيّن عديد الوثائق أنّ تعيين محمّد عطيّة مديرا للصادقيّة أثار حفيظة غلاة المستعمرين وردود فعل غاضبة لدى المسؤولين السامين في الإدارة الفونسيّة في تونس، الّذين كانوا يخشون تأثيرات هذا التعيين السلبيّة في مسار سياسة الحماية، غير أنّ السلطات الفرنسيّة آنذاك أبدت مرونة غير معهودة من خلال تمكين بعض الأكفاء من التونسيّين من مناصب قياديّة. وما إن تولّى محمّد عطيّة إدارة المعهد حتّى سعى جاهدا إلى القيام بإصلاحات في الجوانب التنظيميّة والماليّة والبيداغوجيّة، ساهمت في تطوير مناهج المعهد التعليميّة وزادت في إشعاعه وطنيّا. تنظيميّا وماليّا، وقد قام ببناء المركّب المدرسي بخزندار، بأرض على ملك المدرسة الصادقيّة، بمنطقة باردو، قصد إيواء المقيمين من تلاميذ المدرسة إذ أصبح مقرّها بالقصبة لا يفي بالحاجة، لقلّة قاعات التدريس، رغم أشغال التوسعة على حساب بستان المدرسة، من جهته الشماليّة، حيث ركّزت الوحدات العلميّة لمخابر الفيزياء والعلوم الطبيعيّة، ممّا وفّر إضافة ذات أهميّة في تقديم تعليم عصري تتطلّبه المناهج الحديثة والتكوين المركّز المتين.كما عمل على تنمية الموارد الماليّة للمؤسّسة من خلال إعادة تنظيم استغلال ممتلكاتها الفلاحيّة وعقّاراتها المبنيّة، بغية تطوير المدرسة والاستجابة لمصاريفها الجديدة الناجمة عن ارتفاع عدد التلاميذ الممنوحين من صندوق المدرسة، سواء منهم من أصبحوا طلبة بالجامعات الأجنبيّة أو ممّن يواصلون تعليمهم الثانوي.1
أمّا بيداغوجيّا، فقد حرص في البداية على إقرار نظام اختيار الأساتذة حسب المناظرة، لكنّه اصطدم برفض نظام الحماية التي كانت تخشى ردود فعل شيوخ الزيتونة بعد ما حدث من القلاقل في جامع الزيتونة نفسه. وبعودة بعض تلاميذ الصادقيّة القدامى من فرنسا من حاملي شهادة الإجازة أو التبريز،استطاع تجديد الإطار التربوي في عدد من المواد، وأصبح تعليم شيوخ الزيتونة مقتصرا على المواد الفقهيّة.
وعلاوة على إدراج مادّة التفكير الإسلامي في البرنامج، أدخل محمّد عطيّة تعليم اللاتينيّة واليونانيّة ودعّم تعليم الإنقليزيّة ووجّه عنايته أيضا إلى الشّعب العلميّة. وهكذا سارت المدرسة الصادقيّة بصفة تديجيّة في نهج سليم لتصبح معهدا ثانويّا كامل المراحل إلى الأقسام النهائيّة بمختلف شعبها (فلسفة ورياضيات وعلوم تجريبيّة)، ممّا فتح أمام التلاميذ أبواب التعليم العالي في شتّى الاختصاصات.2
لماذا حوكم محمّد عطيّة غداة الاستقلال؟
أفادت نجلته آمنة في شهادتها بما يلي: «أقيل محمّد عطيّة من وظيفته في جوان 1955 كمدير للمؤسّستين التربويّتين الصادقيّة وخزندار، على أساس تهمة كاذبة مفادها التواطؤ مع سلطة الاحتلال، واختلاس الأموال، ممّا أثار استنكار ابنائه الروحيين من قدامى تلامذته...وفي 11 أوت 1958 انطلقت المحاكمة الجائرة لذلك «الطفل المثابر» الذي أمسى الأب الروحي للنخب التونسيّة. إنّ المحكمة التي ستقرّر، في أقلّ من أسبوع مصير محمّد عطيّة، هي محكمة ذات طابع خاصّ، تنتظم لغرض واحد، مقاضاته كعميل لسلطة الاحتلال، وهو الذي خضّد شوكة هذه السلطة على امتداد ثلاثين سنة، بما قام به من مقاومة، في كلّ حين، فجعل الصراع في ميدان اللغة وبتكوين إطارات تونس المستقلّة، في اللغتين العربيّة والفرنسيّة.
ومع ذلك، فقد حوكم مع فئة اللصوص والخونة.وقام بالدفاع بمفرده، عن نفسه، إلى جانب ثلاثة من أساطين المحامين، ولكن دون جدوى، إذ تقف وراء القضيّة السلطة السياسيّة الجديدة التي رزحت بكامل ثقلها مختلقة تهما واهية، دون أيّة مرجعيّة . وواصلت السلطة ملاحقته من خلال أفراد أسرته الذين دعوا قسرا إلى دفع كراء للدولة مقابل سكنى البيت الذي كان على ملكهم!». وردّا على من شكّك في وطنيّة محمّد عطيّة، قال السيد فؤاد المبزّع في شهادته: «..أضعف الإيمان أن يقوم الانسان بردّ الجميل للصادقيّة، وردّ الجميل للصادقيّة هو أوّلا وبالذات لمحمّد عطيّة»...لم نشعر أبدا ولو للحظة أنّ هناك في الصادقيّة ابتعادا عن الوطنيّة أو عن السياسة أو غيرها.فكيف يمكن أن يكون ذلك والصادقيّة احتضنت علي بلهوان ومحمود المسعدي وجلّولي فارس؟ ...»
وأضاف أنّ محمّد عطيّة كان يحفّز تلاميذه لأخذ نصيبهم من العلم قبل الانطلاق في الحياة، دون أن يقول لهم لا تتحدّثوا في السياسة، بل كان يقرّ بحقّهم في التحدّث في السياسة دون المجازفة بأنفسهم، لكي لا يحرموا من نيل شهائد تمكّنهم من أن يكونوا إطارات عليا في البلاد. ومن المعلومات الطريفة المتّصلة بقضيّة محمّد عطيّة ما ذكره السيد عبدالعزيز قاسم، المدير العام الأسبق للإذاعة والتلفزة، إذ قال: «ذات مساء من صائفة 1982 كانت «التوجيهات»3 مأخوذة من المحاضرة التي ألقاها الرئيس [الحبيب بورقيبة] بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار بتاريخ 9 نوفمبر 1973 ويتحدّث المقطع عن برد باريس القارص الذي منعه من النوم في غرفته بأعلى سطح العمارة حيث لا يصل التسخين، فاضطرّ إلى الخروج لاجئا إلى غرفة زميله في الدراسة محمّد عطيّة بفندق يقع بشارع مونج، فقضى ليلة دافئة. وما إن انتهى البرنامج حتّى رنّ جرس الهاتف المباشر وكثيرا ما كان يرنّ أثناء وبعد شريط الأنباء بما لا يسرّ وتلقّيت مكالمة حانقة من شخصيّة نافذة في القصر: كيف وقع اختيار هذا المقطع ومن اختاره؟ ماذا يقول عنّا الناس: هو استضاف الرئيس في غرفته ونحن نريد إخراجه من بيته لإيواء شخصيّة فلسطينيّة.
قلت لا علم لي بذلك والمسؤول عن البرنامج يحظى بكلّ ثقتي...
ثمّ وعدت بإجـــراء تحقيـــق. كنــت أعلـــم أنّ المـــؤسّسة مليئـــة بالوشـــاة... وبتّ ليلتـــي أفكــّر في المصائر والمقادير.وباستطاعتي التأكيد بأنّ الرئيس الحبيب بورقيبة لم يكن وراء هذه الزوبعة، فقد كان يكلّمني مباشرة بما يعنّ له من ملاحظـــات كبيرها وصغيـــرها والوسيــــط الوحيد هو مدير المـــراسم الذي يقوم باستدعائي إلى القصـــر لمقابلة الرئيس، إلّا أنّ فاعلي الخير في البطانة كثر يتلهفــون إلى جمـــع الأخبـــار الســـامّــة ولي مـــن هــذه النوادر ما يملأ مجلّدا من الحجـــم المتوسّط...»
إن ّما قُـــدّم من شهــــادات يؤكّـــد مــــن دون شــكّ نزاهـــة محمّـــد عطيّة ووطنيّتــه ويبرز تفــــانيــــه في خــدمة القطاع التربوي، مثلما يثبت أنّ مظلمة صارخة لحقت بالرجـــل وبعائلته، غير أنّ أسئلــــة محــــيّرة تظلّ عالقة : ما الذي دفــع ببـــورقيبة، غـــداة مسكه بمقاليد السلطة ــ إلى محاكمة زميــل له آواه ذات ليلة من ليالي شتــاء باريس القــارص وهــو طـــالب؟ هل كـــان قرارا شخصيّا ام كــان نتيجة تحريض من بعض الأطراف الحاقدة ؟ وما هي الأسباب الخفيّة الكامنة وراء ذلك؟ تلك حقيقة يجدر البحث عنها.
أليست كلّ حقيقة نسيانا لحقيقة أخرى؟
1 ـ من مداخلة الأستاذ علي حمريت
2 ـ المصدر السابق
3 ـ «توجيهات الرئيس» مقتطفات من خطب وكلمات الرئيس بورقيبة كانت تبثّ قبل شريط الأنباء في التلفزة التونسيّة. وكان بورقيبة يرتاح لسماعها لأنّها تعطيه انطباعا بأنّه ما زال على اتصاله المباشر بالشعب وعادة ما تكون هذه المقتطفات متماشية مع الوقائع والأحداث الجارية وقد لا ترتبط بأيّ منها.
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق