السفير خالد الزيتوني في قراءة لكتاب "واجب الذاكرة"، لعبد المجيد الشعار: الوصل بين الضفاف

قرأت بكثير من الانتباه والاهتمام كتاب الصديق العزيز، سي عبد المجيد الشعار. الذي أدرجه أستاذ أجيال، سي حمادي بن جاب الله، في تقديمه له، وهو محق في ذلك، في إطار مدرسة الجمهورية وما أنجبته، هذه المدرسة، من كفاءات في مختلف الميادين والاختصاصات رفعت راية البلاد عاليا في المحافل الاقليمية والدولية..
وبدا لي أنه يمكن إدراج هذا المؤلف الهام في إطار" الوصل بين الضفاف"...
وصورة الامر:
1- أن المؤلف قد انتقل من الضفة الجنوبية من المتوسط (تونس)، الي الضفة الشمالية(روما) ناقلا خبرة سنوات في ميدان الاعلام الوطني ومتمثلا لنمط جديد من المهارات والافكار والرؤى خلال عمله في هذه المنظمة الاممية العتيدة... ومستأنسا بما بين الضفتين من وشائج وعلاقات تاريخية وثقافية وحضارية وثيقة ومتنوعة....
2- ومن مؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية الي منظمة الاغذية والزراعة.. من مؤسسة اعلامية عمومية تونسية الي منظمة إقليمية متخصصة تعالج القضايا متعددة الاطراف... اي من الاعلام الوطني الي ضرب مخصوص من الدبلوماسية... الدبلوماسية الغذائية التي تهتم، فيما تهتم به، بقضايا الغذاء والنهوض بالزراعة في العالم وتيسير اوضاع الجوعى والفقراء والمحرومين...
3- ورغم أن الاعلام حقل معرفي مخصوص والدبلوماسية كذلك، فإن بينهما صلة من نسب هي في صميم العمل الاعلامي والمهنة الدبلوماسية أعني الخبر والمعلومة...
وفي حين تعمل الدبلوماسية على أن تُسِرّ وتكتم، نظرا إلى جمهورها المخصوص من الرسميين، فإن الاعلام يعمل على إفشاء الخبر وإشاعته بين الناس...
وقد استطاع سي عبد المجيد وزملاؤه في منظمة الفاو FAO التقريب بين الحقلين من خلال ابتكار أشكال جديدة من الاعلام... منها الاعلام التضامني وTélé food.. وفتح المنظمة على جمهور اوسع وفضاء من الانصار والمتبرعين أرحب بما عزز قدرتها المالية وساعد في خدمة قضايا التضامن الانساني في ارقي معانيه...
في كتاب "واجب الذاكرة", أفكار وأنظار في الاعلام الوطني زمن الرئيس بورقيبة اي زمن الحزب والدولة في تونس وما أورثه ذلك التداخل من تضييقات على الاعلام والاعلاميين رغم محاولة عدد من الشباب الخروج بهذا الميدان الي دوائر أرحب من الحرية... ومثال ذلك برنامج "نحن والعالم" لعبد المجيد الشعار، الذي جمع فيه بين قضايا الاعلام والدبلوماسية من خلال ضيوف مرموقين من الحقلين الدبلوماسي والاعلامي خاصة بما أتاح هامشا من الحرية غير قليل...
وفي هذا النص الجميل انظار في الدبلوماسية ايضا:
- الدبلوماسية باعتباها بلاغة اعتذار... وقد خص الكاتب بالتحليل الدقيق لطيف اعتذار الراحل الكبير الشاذلي القليبي، طيب اللّٰه ثراه، لصديقه البشير يبن يحمد، رحمه اللّٰه، عندما توجه، هذا الاخير، باللائمة على المحيطين بالزعيم بورقيبة وقد تقدم به العمر، ولم يتجرأوا على تنبيهه الي مهاوي الرئاسة مدى الحياة وما يورثه ذلك من تآكل للسلطة وتكالب على الخلافة واساء لصورة الزعيم ولوضع البلاد ...
- الدبلوماسية باعتبارها استدراكا انيقا و لبقا في مواقف دقيقة كالذي حصل في مقابلة السيد ادوارد صوما, المدير العام لمنظمة الزراعة والتغذية، أثناء تقليده الرئيس بورقيبة درع المنظمة، سنة 1986، ... فخاطبه الرئيس بورقيبة، وقد داهمه العمر وتهافتت الذاكرة، على انه المدير العام لمنظمة الصحة العالمية.... يقول المؤلف: "كان الموقف حرجا... الى ان تدخل المسؤول الاممي ليذكر بأن الأباء المؤسسين للفاو FA0 قد ضمنوا دستور المنظمة مبدأ هاما، وهو الربط بين الصحة و الغذاء و ضرورة تحقيق التكامل بين مختلف المجالات من أجل محاربة الجوع و سوء التغذية" و يضيف ....."كان ذلك التدخل الرشيق كافيا ليعيد للرئيس بورقيبة القدرة الكاملة ليمسك مجددا بمفردات الخطاب بعنفوان و توهج.."
- والدبلوماسية باعتبارها قدرة على الانصات والتمثل والابلاغ وقد تجسم ذلك في نص في الكتابة الدبلوماسية بديع، تعلق بالمقابلة التي خص بها الرئيس اللبناني الاسبق الياس الهراوي، رحمه اللّه، المؤلف.. وهي مقابلة صاغها الكاتب بمهارة كبيرة… حيث يرتقي هذا النص في حركة دقيقة... من فندق الي قصر (قصر بعبدا)، ومن قصر الي قلب... من خارج الي داخل... ومن داخل الي أعماق النفس في تقص للملامح و الارتسامات و الافكار… نص في غاية الدقة و الجمال…
وفي كتاب "واجب الذاكرة" نقد صريح لواقع التعاون الدولي متعدد الاطراف ومؤسساته بسبب تضارب المصالح واللوبيات واختلاف المقاربات بين دول الجنوب ودول الشمال ونتيجة آليات عمل الامم المتحدة المنقسمة والمتشظية والتي فقدت الكثير من أسباب وجودها التي بعثت من اجلها خدمة للسلم والأمن والاستقرار والتنمية في العالم...
ومن معاني الوصل بين الضفاف في "واجب الذاكرة", الوفاء للموطن... للمحضن الاول ولمدرسة الجمهورية ومعلميها وخاصة السيد " كانديلا"، هذا المعلم الفرنسي الذي استنجب المؤلف، وهو طفل في الصفوف الاولى من الدراسة الابتدائية.. ورأى فيه «وعدا بإمكان"... وكان كذلك... ثم التقاه في روما بعد ما يزيد عن خمسين سنة في مشهد مؤثر للغاية...
في كتاب «واجب الذاكرة" ثلاثة نصوص تتجاور وتتحاور، همسا وعلانية... التقديم... والمتن... والخاتمة...، وبينها تبدو مدينة قليبيا ضفة ثالثة... بجمالها وجلالها... بسحرها... وسرها... وبحرها... وعيونها العسلية.... عروسا في كامل بهائها و بهجتها...
شكرا سي مجيد..
السفير خالد الزيتوني
- اكتب تعليق
- تعليق