بصمة خميس الخياطي لن يطالها الموت
بقلم مختار اللواتي - لا جدال أن الموت هو مَلك الصمت الأبدي. فقد مضى زمن طويل مذ أصبحت عندي هذه القناعة من المسلمات لدي ! فكلما أباغَت بنبإ قنص ذلك المارد روح أحد الأصدقاء، أجدني ألفّ داخل ذاتي وحولها دون أن أدري أو أعي ما الحقيقي في الخبر وما الإفتراضي فيه.. وإذا ما طلب مني البعض نعي الفقيد، أسارع بالإعتذار بكلمة واحدة توجز حالي "لاأقدر". فلا اللغة تحضرني ولا الفؤاد يهدأ ويرحمني ولا الذاكرة تنقذني. وعلى قدر ما فقدت من أقارب وأصدقاء، على مدى سنوات طويلة مضت، كنت أظن أنهم خالدون ولن يرحلوا أبدا، على قدر ما أصبحت مسلِّما بجبروت الموت وبطشه، وبالذات حين ينقضّ بغتة على فريسته في غفلة منه ومن أهله وأحبابه. فأعرف أن ساعة الخرس قد دقت مرة وحيدة لا أكثر لتصم أذني وتذكرني بأن لاجدوى من المقاومة أو حتى المحاولة.
كل ذلك حدث لي ومعي اليوم من جديد حين قرأت أولا على جدار الروائي الصديق شكري المبخوت أولاـ ثم على جدار الإعلامي والروائي الصديق ماهر عبد الرحمان في سطر موجز من النوع الذي لا يستدعي جهدا للتأويل أو الشك، مامعناه "وداعا خموس" أو "وداعا الناقد السينمائي خميس الخياطي"... وكمن يخرج من سريره وهو نائم كررت ذات المعنى على جداري وبقيت أحملق فيه بلا زيادة أو نقصان...
كان أول لقاء لي مع الهرم خميس الخياطي في إحدى دورات أيام قرطاج السينمائية في ثمانينات القرن الماضي قدمني إليه صديقي منصف ذويب، فأجريت معه حديثا ممتعا لإذاعة صفاقس. ومن وقتها أصبحنا صديقين بلقاءات متباعدة في الزمن ومتقاربة في الرؤى تؤثثها حوارات ثرية بعمقها وصراحتها في مَناحٍ مختلفة من هموم الحياة والوطن في قلبها. وبما إني مغرمُ سينما من شبابي الأول دون أن أتخصص فيه كنت أعتبر خميس مرجعا موثوقا في كل ما يتعلق بالفن السابع، العربي بالذات، وأهله. فالرجل جعل من السينما خبزه اليومي من وقت اشتغاله بمجلة اليوم السابع من باريس وإذاعة فرنسا الثقافية وتنقله الدائم إلى القاهرة لمتابعة وملاحقة كل صغيرة وكبيرة في الحياة السينمائية هناك ومحاورته لكبار المخرجين وكتاب السيناريو ونجمات الصف الأول. بل وقد أفرد تقريبا لكل واحد وواحدة منهم ومنهن كتابا محلى بسيرة الشخص المعني وصور له. كما كان لحضوره مهرجان كان السينمائي في مختلف دوراته واشتراكه في إحدى لجان المهرجان كخبير يَعتد بآرائه كبارُ النقاد الفرنسيين والعرب.
لم تكن السينما بالنسبة للدكتور خميس الخياطي هوايةً لأوقات الفراغ. بل كان اختيارا استراتيجيا مدروسا كمدخل لفهم حركية المجتمع العربي عموما. فالرجل تقدمي الفكر والمشرب. فدرس علم الاجتماع في الجامعة بباريس وحصل على شهادة الدكتوراه فيه. جاعلا محورها مسيرة صديقه المخرج السينمائي الكبير، صلاح أبو سيف المُعَدّْ رائد السينما الاجتماعية الواقعية الحديثة في مصر والبلاد العربية. وهكذا أصبح مسار حياة خميس الخياطي يقوم على عمودين رئيسيين، الشأن الاجتماعي والفن السينمائي.
في سنة 2007 اشتركنا معاً في الهيئة المؤسسة للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين بديلا لجمعية الصحفيين التونسيين التي كانت تقوم بدور الجمعية والنقابة معا. وحين حددنا موعد المؤتمر التأسيسي للنقابة الوطنية الوليدة، إتفقنا، خميس وأنا برفقة الزميل زياد الهاني أن تتقدم للترشح للهيئة المسيرة أو المكتب التنفيذي للنقابة. وفي الساعات الأخيرة قبل انطلاق المؤتمر ناديته على جنب، وقلت له علينا أن نسحب ترشحاتنا . وحين رأيت علامات الإندهاش على محياه، أجبته مسرعا بأن الشباب أولى منا بها ويكفينا أن أوصلنا لهم الأمانة ليصونوها وليروا فينا السند لا المنافسين لهم. فحدق فيّ بتلكما العينين المتكلمتين بأبلغ المعاني من دون كلام. ثم نادى على زياد وأعلمناه بالأمر فتم بيننا الاتفاق سريعا وبغاية السرور كذلك. وسحبنا ترشحنا...
حكاية أخرى جمعتني بالعزيز خميس هي إصداره كتابه النقدي الطريف باللغة الفرنسية De Mon Pays في شهر أفريل من عام 2008. إقتنيت الكتاب كما سبق لي أن فعلت مع كل كتاب جديد يصدره. كنت وقتها في العاصمة لشأن خاص نسيته الآن. وحين مررت بمقر النقابة الوطنية قبل العودة إلى صفاقس التقيته في المقهى المجاور وأريته الكتاب ممازحا. "أرأيت لايخفى عليّ ما تأتيه في السر. الكتاب كان في غاية السلاسة والطلاقة والبلاغة في النقد الاجتماعي. فأخذت حاسوبي بمجرد انتهائي من التهامه وكتبت ورقة عنه أرسلتها إلى خميس في ذات الوقت. فعاد إلي لاهجا بالشكر والفرح لشدة ما أعجبه ما كتبت. وبعد عبارات التحية والتقدير استأذنني في نشره. وفعلا صدر في جريدة الطريق الجديد إن لم تخنِّ الذاكرة.
مااشتهر به خموس كما يناديه أصحابه الأقربون، خفةُ ظله وبداهتُه السريعة في إلقاء النوادر والمزح والضحك من كل شيء حتى ينقل لجلاسه العدوى فتأخذهم نوبة ضحك طويلة تقطع الأنفاس...
هل قلتم إن الدكتور التونسي في علم الاجتماع، خميس الخياطي، الناقد السينمائي الأبرز منذ منتصف القرن العشرين وإلى اليوم على الصعيدين التونسي خاصة والعربي عامة وذا الإشعاع الأوربي قد رحل اليوم بلا عودة إلى عالم أرحب؟ لا أصدق !
مختار اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق