رمزية النار في فيلم أشكال للمخرج التونسي يوسف الشابي
بقلم كاهنة عباس - هو أول فيلم سينمائي طويل للمخرج يوسف الشابي، عرض في قاعات السينما بتونس خلال شهر فيفري 2023 الفارط، تميز بتعددية الرموز والإيحاءات المتعلقة بعلاقة النار بالإنسان وبالمكان و بتجاوز ظاهر الصور والأحداث لكشف باطنها، كما يوحي بذلك عنوانه: أشكال.
القصة بسيطة كما هو الشأن غالبا في القصص البوليسية، انتحار حارس حظيرة تقع بحدائق قرطاج بواسطة النار، أي بإشعال النار في جسده دون سبب بيّن و تكرار نفس الواقعة باحتراق شخصيات أخرى، في نفس المكان وأثناء فترات زمنية متقاربة وغياب تام للدوافع والأسباب ثم سعي الشخصيتين الأساسيتين في الفيلم، هما بطل وفاطمة الضابطان بالشرطة، لمعرفة الحقيقة: أي إذا كانت أسباب الوفاة تعود إلى انتحار أم إلى جريمة قتل؟
لذلك ستدور جل الأحداث بتلك حظيرة، أي بمكان مطل على تونس العاصمة، يبدو كأنه مهجور يوحي بالخراب، تحيط به الأعشاب الطفيلية من كل جهة وجانب.
من الناحية الفنية، يتميز الفيلم بحضور مكثف للصور، صورة العمارة التي لم تكتمل، صورة العاصمة المطلة بأضوائها ليلا، صورة البطلين اللذان ما انفكا يبحثان عن القاتل المفترض، صورة النيران المشتعلة مع اختزال شديد ومقصود من طرف المخرج في خصوص الحوار المتبادل بين الشخصيات قصد تحقيق غاية معينة: ألا وهي أن تتخذ الصورة الحيز الأكبر، باعتبارها هي الناقلة والمتحدثة لما يدور من أحداث.
لذلك تبدو لنا العمارة عنصرا حيا وفاعلا لا مجرد إطار مكاني، لما تحتويه من أسرار وخفايا وتاريخ، فهي التي ما انفكت تتيح ظهور أو اختفاء بعض الشخصيات ووقوع بعض الأحداث.
وبانتقال النار وسريانها من شخص إلى شخص ستكتسب تدريجيا قوة خارقة للعادة ومفعولا سحريا ،لقدرتها على إشعال الأجساد والأمكنة فتلتهم ما يحيط بها، سيقع التركيز على الحركة المتتالية والسريعة للشخصيات والأحداث وتشابكها وتقاطعها ، لتنتقل بنا عدسة الكاميرا من إطار إلى إطار، ومن سجل إلى آخر، من العمارة التي لم تكتمل، إلى منصة هيئة الحقيقة والكرامة أثناء محاكماتها لمسؤولي النظام القديم في نطاق مسار العدالة الانتقالية الذي عرفته البلاد إثر الثورة، إلى التحقيق الذي يجريه البطلان، إلى الضحايا الذين التهمتهم النار.
نحن إذا ، إزاء مكان مدنس بما يحمله من أثار فساد وطغيان لم يكتمل بناؤه، كان لا بد للنار أن تلتهم بعض أركانه وبعض الشخصيات التي تحوم حوله حتى يتطهر من تاريخه المظلم.
ومن ثمة ستحملنا أحداث الفيلم من مستوى إلى مستوى، بإبراز رمزية النار المتعددة، فهي قاتلة وهي أداة عصيان وهي أداة تطهير وتغيير، بأن رافقت صورها في كل مشهد معاني متعددة ومتجددة، فكانت في كل مرحلة تبعث في المتفرج إحساسا مغايرا مثل الخوف والتوجس والانتظار و القلق والتساؤل قصد الارتقاء به إلى مستوى أعمق، يجعله يبحث عن مكانة النار في ذاكرته ومخيلته.
كذلك، تدرجت بنا الأحداث من المستوى الواقعي الوثائقي التاريخي إلى المستوى الرمزي الجمالي الخيالي الروحاني ،من الموت المحدق بالمكان إلى إمكانية انبعاثه من جديد وتطهيره من الفساد, إلى أن تحولت القصة البوليسية التي ابتدعها المخرج في بداية الفيلم ،إلى قصة أخرى مغايرة تروي علاقة المكان بالنار وتفاعلهما، لتثير لدى المتفرج الأسئلة التالية: هل ستخمد النار، هل ستتوقف عن بث الموت والخوف ، هل ستدمر المكان نهائيا، هل تخفي وراءها فاعلا ما انفك يضرمها، بظهور شخصية مقنعة تبرز ثم تختفي وتحمل آثار الحروق؟
ينتهي الفيلم بهيمنة النار الهيمنة المطلقة على المكان وعلى جل الشخصيات بأن باتت تستقطبهم جميعا بفعل طاقتها المطهرة والمضيئة والقادرة على تغيير الواقع، مما جعلهم يتقدمون نحوها دون إرادتهم، عراة من كل غطاء أو قناع للانصهار فيها، فأضحت أداة مطهرة مضيئة جذابة مقدسة، بعد أن كانت مدمرة وقاتلة ، إذ تجاوزت رمزيتها موضوع الثورة بأبعادها السياسية والتاريخية ، لتدرك بعدا إنسانيا أعم وأشمل تناولته الأديان والفلسفات والفنون على اختلافها: ألا هي جمعها لصفتين متناقضتين هما الدمار والانبعاث، البعدان اللذان يمكن اعتمادهما لإعادة تأويل الفعل الانتحاري لمحمد البوعزيزي، من أنه موت بهدف الانبعاث والتطهر مما لحق البلاد من ظلم وطغيان.
أما في ما يخص التمثيل ،فقد تميز الفيلم بالدور البطولي المسند للمرأة، من خلال شخصية فاطمة الضابطة في الشرطة، وجعلها قادرة على مواجهة جميع المخاطر والتحديات دون تردد ولا خوف، الذي أفلحت الممثلة فاطمة وصايفي في أدائه بإتقان، بأن أبرزت جرأة الشخصية وشجاعتها وإقدامها على تجاوز العقبات دون أن يمنعها ذلك من التعبير عن مشاعرها وأحاسيسها، بذلك يكون الفيلم قد قطع مع الأدوار النمطية للمرأة خاصة في الأفلام العربية، كما أبدع الممثل محمد حسين قريع في أداء دور "بطل" ظابط الشرطة المكلف بالبحث في الأحداث.
لقد أحرز الفيلم على إعجاب النقاد عند عرضه العالمي الأول ضمن قسم نصف شهر المخرجين خلال الدورة الخامسة والسبعين لمهرجان كان السينمائي في شهر ماي 2022.
وفاز بثلاث جوائز وهي: الجائزة الكبرى وجائزة النقاد وجائزة أفضل موسيقى، خلال أكتوبر 2022 في حفل اختتام مهرجان مونبلييه للسينما المتوسطية في دورته الرابعة والأربعين، ثم حصل على جائزة حصان ينينغا الذهبي في الدورة الثامنة والعشرين من مهرجان عموم إفريقيا للسينما والتلفزيون (فيسباكو) في واغادوغو في شهر مارس 2023، علاوة على حصوله على جائزة النقاد في مهرجان نوشاتال في سويسرا وجائزة أفضل فيلم في مهرجان السينما بالبوسفور في تركيا.
هل ينبئ الفيلم بنشأة موجة جديدة تعيد النظر في الرمزية كما تناولتها السينما التونسية عبر تاريخها لتتعامل مع الواقع من زوايا مختلفة، بإدماج جوانب أخرى عجائبية، روحانية؟
تتطلب الإجابة عن هذا السؤال متابعة دقيقة ودراسة فنية معمقة لما أنجزه جيل المخرجين الشبان من أفلام إثر الثورة.
كاهنة عباس
- اكتب تعليق
- تعليق