أخبار - 2023.03.10

السفير السابق محمد إبراهيم الحصايري: نظرة على توجّهات سياسة الصين العربية مُقَارَنَةً بِمَثِيلَتِهَا الأمريكية

السفير السابق محمد إبراهيم الحصايري: نظرة على توجّهات سياسة الصين العربية مُقَارَنَةً بِمَثِيلَتِهَا الأمريكية السفير السابق محمد إبراهيم الحصايري

"حضرات السيدات والسادة

مساء الخير وبعد

لا شك أنكم لاحظتم كما لاحظت أن دول الخليج العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقفت من الحرب في أوكرانيا موقفا أقل ما يقال عنه إنّه كان مختلفا أو غير متّسق مع الموقف الأمريكي الغربي، سواء في جانبه المبدئي أو في جانبه العملي.
تجلى ذلك في ثلاثة مظاهر أساسية هي:

أولا: التزام دول الخليج عامة الصّمت أو امتناعها عن إدانة ما تسميه الولايات المتحدة والغرب "الغزو الروسي لأوكرانيا" وما تسميه روسيا "عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا". وقد وصف الغرب موقف الإمارات العربية المتحدة التي امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن لفائدة أول مشروع غربي لإدانة "الغزو الروسي لأوكرانيا" بأنه كان صادما.

رفض المملكة العربية السعودية، أكبرُ مصدر للنفط في العالم عدة مرات (مع دول خليجية أخرى)، الاستجابة لدعوات الولايات المتحدة الأمريكية الزيادة في الإنتاج لتعويض الفاقد في الإمدادات الروسية. وقد أدى الرفض السعودي المتكرر، بالرغم من التحالف التقليدي القوي بين الجانبين، إلى توتر في العلاقات بينهما أساسا وبين الجانبين الأمريكي والخليجي عموما. وقد زاد الطين بلة قرار مجموعة "أوبك +" خفض إنتاج النفط مع بداية شهر نوفمبر 2022.

الاستقبال المتحفظ الذي خص به الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال زيارته المثيرة للجدل إلى الرياض في جويلية 2022.

في هذه المداخلة سأحاول أن أحلل أسباب وأبعاد "القمة العربية الصينية بالرياض" بالانطلاق من قراءة في خطابين:

الخطاب الأول هو كلمة الرئيس جو بايدن في "قمة الأمن والتنمية" التي انعقدت بجدة في 16 جويلية 2022 بمشاركة دول الخليج ومصر والأردن والعراق.

الخطاب الثاني هو الكلمة الرئيسية التي ألقاها الرئيس الصيني شي جين بينغ في القمة الصينية العربية التي انعقدت بالرياض في 9 ديسمبر 2022 بمشاركة الدول العربية.

1/ الملاحظة الأولى: اختار الرئيس جو بايدن أن يبدأ كلمته بشخصنة حديثه حيث ذكّر منذ الوهلة الأولى بآخر زيارة قام بها إلى المملكة العربية السعودية عندما كان نائبا للرئيس باراك أوباما،  بينما اختار الرئيس شي جين بينغ أن يفتتح خطابه بالحديث عن  "التواصل الودي بين الصين والدول العربية" قديما وحديثا، حيث أكد أن هذا التواصل "ضارب بجذوره في أعماق التاريخ، لأن الصين والدول العربية تلاقت وتعرفت على بعضها البعض عبر طريق الحرير القديم، كما إنها "تقاسمت السراء والضراء في النضال من أجل التحرير الوطني، وحققت التعاون والكسب المشترك في تيار العولمة الاقتصادية...

2/ الملاحظة الثانية: انطلق الرئيس جو بايدن في قراءته للوضع في العالم بالتهجم على ثلاث دول يعتبر أنها تتسبب في تقويض القانون الدولي وهي الصين (بزيادة تحركاتها في منطقة المحيط الهادئ)، وروسيا (بحربها غير المبرّرة على أوكرانيا)، وإيران (بنشاطاتها المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط)، أما الرئيس الصيني فقد أكد من جانبه أن العالم دخل في الوقت الراهن، مرحلة جديدة من الاضطراب والتحول، وأن منطقة الشرق الأوسط تشهد تغيرات جديدة وعميقة، وأن رغبة الشعوب العربية في السلام والتنمية باتت أكثر إلحاحا، وأن نداءاتها الداعية إلى الإنصاف والعدالة اشتدت، ولذلك على الجانبين الصيني والعربي، باعتبارهما شريكين استراتيجيين، تعزيز التضامن والتعاون، وبناء مجتمع مستقبل مشترك أوثق بين الصين والدول العربية، بما يعود بمزيد من الفوائد على شعوب الجانبين ويساهم في قضية التقدم للبشرية.

3/ الملاحظة الثالثة: تحدّث الرئيس جو بايدن بعد ذلك عن "التزام" الولايات المتحدة وتشجيعها وتثمينها لآلاف الأمريكيين الذين ضحّوا في العراق وأفغانستان وبقاع أخرى في المنطقة خلال العقدين الماضيين، مع التذكير بأن ابنه الذي عمل في العراق كان من بينهم، أما الرئيس الصيني فتحدث عن التعاون الصيني العربي القائم على المنفعة المتبادلة والكسب المشترك والذي يعد نموذجا يُحتذى به للتعاون جنوب/جنوب، حيث تم إنشاء 17 آلية تعاون بين الجانبين في إطار منتدى التعاون الصيني العربي. وخلال السنوات الـعشر الماضية، ازداد حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية بـ100 مليار دولار أمريكي، وتجاوز إجماليه 300 مليار دولار أمريكي، وبلغ رصيد الاستثمار المباشر الصيني في الدول العربية 23 مليار دولار أمريكي بزيادة 2.6 ضعفا، وتم تنفيذ أكثر من 200 مشروع في إطار التعاون في بناء "الحزام والطريق".

4/ الملاحظة الرابعة: قال الرئيس الأمريكي إن عهد الحروب في المنطقة باستعمال القوات الأمريكية الكبيرة قد انتهى، لكنه شدّد على أن ذلك سيتم مع الإبقاء على القدرة والتصميم على قمع التهديدات الإرهابية أينما كانت، ومواصلة مكافحة الإرهاب بالعمل مع الشركاء في المنطقة، وبتقديم الموارد لتعزيز التحالفات وبناء تحالفات أخرى لحل المشكلات التي تواجه هذه المنطقة من العالم، وفي المقابل أكد الرئيس الصيني على تعزيز التبادل الحضاري وزيادة التفاهم والثقة المتبادلة بين الصين والدول العربية، وذلك من خلال توسيع نطاق تبادل الأفراد وتعميق التعاون الإنساني والثقافي وتبادل الخبرات في الحكم والإدارة. كما شدد على ضرورة رفض "الإسلاموفوبيا" بشكل مشترك والتعاون في نزع التطرف، ورفض ربط الإرهاب بعرق أو دين بعينه. وأضاف أنه من الضروري تكريس قيم البشرية المشتركة المتمثلة في السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية...

5/ الملاحظة الخامسة: في خصوص التحديات في الشرق الأوسط أكد الرئيس الأمريكي أن الولايات المتحدة ستبقى دائما ناشطة في المنطقة وشريكة لها حيث يتضح مع اشتداد التنافس في العالم، أن مصالحنا مشتركة وأن نجاحنا مرتبط تمامًا معًا، وشدّد، مرة أخرى، على أنها لن تتخلى وتبتعد لترك فراغ يمكن أن تملأه إيران وروسيا والصين، أما الرئيس الصيني فقد دعا إلى التركيز على التنمية الاقتصادية وتعزيز التعاون القائم على الكسب المشترك. وقد أكد في هذا السياق على أنه من الضروري تعزيز المواءمة بين الاستراتيجيات التنموية وبناء "الحزام والطريق" بجودة عالية. كما إنه من الضروري توطيد التعاون التقليدي في مجالات الاقتصاد والتجارة والطاقة والبنية التحتية وغيرها، وتقوية أقطاب النمو الصاعدة مثل التنمية الخضراء ومنخفضة الكربون والصحة والاستثمار والمالية، وفتح آفاق جديدة في مجالات الطيران والفضاء والاقتصاد الرقمي والاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والتعامل الفعال مع التحديات الكبرى القائمة مثل أمن الغذاء والطاقة.

6/ الملاحظة السادسة: رغم أن الرئيس الأمريكي قَدِم إلى السعودية مباشرة من إسرائيل في أول رحلة من نوعها بين تل أبيب والرياض، فإنه لم يتطرق مطلقا في كلمته إلى القضية الفلسطينية، أما الرئيس الصيني فقد خصص لهذه القضية فقرة مطولة مؤكدا على أنها تهم السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، ومشددا على أنه لا يمكن أن يستمر الظلم التاريخي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني إلى أجل غير مسمى، ولا تجوز المساومة على الحقوق الوطنية المشروعة، كما أن التطلعات إلى إقامة دولة مستقلة لا تقبل رفضا. وأضاف أنه "يجب على المجتمع الدولي أن يرسخ الإيمان بـ"حل الدولتين" والتمسك بمبدأ "الأرض مقابل السلام" بحزم وأن يعمل بكل ثبات على بذل جهود حميدة لدفع مفاوضات السلام، ويزيد من المساعدات الإنسانية والإنمائية لفلسطين، ويدفع الحل العادل والعاجل للقضية الفلسطينية. وقال إن الجانب الصيني يرحب بالتقدم المهم الأخير الذي حققته الجهود العربية لدفع المصالحة الداخلية الفلسطينية (في إشارة إلى ما وقع خلال القمة العربية بالجزائر)، ويؤكد مجددا أنه يدعم بكل ثبات إقامة دولة فلسطين المستقلة ذات السيادة الكاملة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ويدعم نيل فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، وسيواصل تقديم المساعدات الإنسانية إلى الجانب الفلسطيني لدعمه لتنفيذ المشاريع المعيشية، كما سيزيد من التبرعات إلى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى.

7/ الملاحظة السابعة: في حين جدد الرئيس الأمريكي التأكيد على أن بلاده تسعى الآن إلى بناء الزعامة والريادة الأمريكية وفقا لخمسة مبادئ رئيسية، سنتطرق إليها لاحقا، ذكّر الرئيس الصيني بأن  الحزب الشيوعي الصيني عقد في أكتوبر 2022 مؤتمره الوطني العشرين بنجاح، وقد حدد المهام والطرق للدفع بالنهضة العظيمة للأمة الصينية على نحو شامل، كما رسم الخطوط العريضة الطموحة للتنمية الصينية في المستقبل، وأكد أن الجانب الصيني سيلتزم بالحفاظ على السلام في العالم وتعزيز التنمية المشتركة والدفع ببناء مجتمع المستقبل المشترك للبشرية. ويلتزم الجانب الصيني بكل ثبات بالسياسة الخارجية السلمية المستقلة والدفاع عن العدالة والإنصاف الدوليين، ويلتزم بتطوير الصداقة والتعاون مع كافة الدول على أساس المبادئ الخمسة للتعايش السلمي (الاحترام المتبادل للسيادة وسلامة الأراضي، وعدم الاعتداء المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخر، والمساواة والمنفعة المتبادلة، والتعايش السلمي) وتعميق وتوسيع الشراكات العالمية. ويتمسك بثبات باستراتيجية الانفتاح القائمة على المنفعة المتبادلة والكسب المشترك، ويدفع بالانفتاح عالي المستوى والتشارك في بناء "الحزام والطريق" بجودة عالية، بما يوفر فرصا جديدة لكافة الدول بما فيها الدول العربية من خلال التنمية الجديدة في الصين.

8/ الملاحظة الثامنة: يؤكد الرئيس جو بايدن الذي قال قبل زيارته للرياض إن "أمن إسرائيل القوميّ سبب رئيسي" لذهابه إلى المملكة العربية السعودية أن أولوية الولايات المتحدة الأولى من بين الأولويات الخمس التي تحدث عنها هي أن تدعم وتعزز التحالفات مع الدول التي تحترم القانون الدولي، وأن تضمن لتلك الدول أن تدافع عن نفسها ضد التهديدات الأجنبية، غير أنه أوضح أن دعم القانون الدولي لا يعني أننا ينبغي أن نتفق على كل القضايا، وانما يعني أننا نتفق على المبادئ الجوهرية التي تسمح لنا بالعمل معا ولمواجهة التحديات الدولية، (وهنا تنبغي الإشارة إلى أن التحالفات التي يتحدث عنها هي بالأساس الحلف الذي يجمع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية التي أبرمت معها اتفاقيات سلام، أو طبّعت علاقاتها معها، يكون شبيها بحلف شمال الأطلسي ويحمل اسم "الناتو الشرق أوسطي"، وقد شرع في التمهيد لقيامه بانعقاد ما سمّي بـ"قمة النقب" يومي 27 و28 مارس 2022 بمشاركة وزراء خارجية إسرائيل والولايات المتحدة وكل من الإمارات العربية المتحدة، والبحرين والمغرب ومصر، وهي أيضا مجموعة أخرى تتألّف من الولايات المتحدة وإسرائيل والهند والإمارات العربية المتحدة تحمل اسم مجموعة "آي 2 يو 2" (I2U2) أو مجموعة "كواد 2" (QUAD 2) التي تعمل الولايات المتحدة على إنشائها في المنطقة في إطار عملها المتواصل على خلق تحالفات سياسية واقتصادية وعسكرية تمكّنها من الحدّ من توسّع الصين، ومن مواجهة الصعود الروسي، واحتواء إيران). وفي مقابل كل ذلك يؤكد الرئيس الصيني أن الصين والدول العربية ستعمل سويا على نشر المغزى الحقيقي للحضارة ألا وهو "الاهتمام بالسلام والدعوة إلى الانسجام والالتزام بالتعهدات والسعي وراء الحق"، وستدافع عن الأصالة بكل ثبات في وجه التحريض على صراع الحضارات، وتدعو سويا إلى الحوار بين الحضارات وتناهض التمييز الحضاري وتحافظ على التنوع الحضاري في العالم.

9/ الملاحظة التاسعة: تتمثل أولوية الولايات المتحدة الثانية في أنها لن تسمح للقوى الأجنبية بأن تهدد الملاحة الدولية في مياه المنطقة وخاصة في مضيق هرمز وباب المندب، وأكد الرئيس جو بايدن أن بلاده ستحافظ على أمن تلك الممرات المائية المهمة جدًا وقد برر ذلك بأن تدفق الموارد الاقتصادية في الشرق الأوسط هو شريان حياة للاقتصاد العالمي، أما الرئيس شي جين بينغ فقد أكد على أن التضامن والتآزر يعتبران ميزة بارزة للصداقة الصينية العربية. فالصين والدول العربية تثقان ببعضهما بالبعض، وتتبادلان الدعم الثابت في القضايا المتعلقة بالمصالح الجوهرية لكل منهما، وهما تتحدان وتتقدمان معا في قضية تحقيق أحلام نهضة الأمة، ويضيف الرئيس الصيني أن علاقات الشراكة الاستراتيجية الصينية العربية القائمة على التعاون الشامل والتنمية المشتركة ولمستقبل أفضل أصبحت قوية ولا تنقطع.

10/ الملاحظة العاشرة: أولوية الولايات المتحدة الثالثة هي أنها لن تقف مكتوفة الأيدي ولكنها ستعمل أيضًا على تخفيف التوترات في المنطقة، (الهدنة في اليمن، الترحيب  بمحادثات بغداد، إنهاء مهمة حفظ السلام في جزيرتي تيران وصنافير في البحر الأحمر/ علما بأن قوات حفظ السلام الأمريكية تتمركز في الجزيرتين منذ أكثر من 40 سنة بحسب اتفاقية كامب ديفيد، وقد جاء هذا الإعلان عقب تصريح إسرائيلي بأن تل أبيب لا تمانع في تسليم الجزيرتين من مصر إلى السعودية بعد اتفاق 2016، وبعد قرار السعودية فتح أجوائها للطيران المدني، بما فيه الإسرائيلي)، ومرة أخرى أكد أن بلاده تعمل مع الدول العربية المشاركة في الاجتماع لمواجهة التهديدات الإيرانية وفي نفس الوقت تبحث عن حل دبلوماسي لمواجهة البرنامج النووي الإيراني، لكنها مع كل ذلك ستضمن أن إيران لن تحصل على سلاح نووي بكل تأكيد، وفي المقابل أكد الرئيس الصيني أنه علينا الحفاظ على سلام المنطقة وتحقيق الأمن المشترك. وقال إن الجانب الصيني يدعم الجانب العربي في إيجاد حلول سياسية للقضايا الساخنة والشائكة بالحكمة العربية، وبناء منظومة أمنية مشتركة وشاملة وتعاونية ومستدامة في الشرق الأوسط. كما يحث المجتمع الدولي على احترام شعوب الشرق الأوسط باعتبارها أسياد المنطقة، وإضفاء طاقة إيجابية تخدم الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط.

11/ الملاحظة الحادية عشر: أولوية الولايات المتحدة الرابعة هي بناء تواصلات دبلوماسية واقتصادية مع شركائها، مع احترام سيادة كل الدول واختياراتها، والمقصود بالتواصلات هنا كما يقول الرئيس الأمريكي هو المشاريع التي تربط بين الدول والتجارة والاتفاقيات التجارية بين الجيران، وهذا هو الجزء الاقتصادي المكمّل للتحالفات التي يجري العمل على بنائها لا فقط من أجل دمج إسرائيل في المنطقة، وإنما من أجل مزيد الهيمنة عليها، في المقابل اعرب الرئيس الصيني عن ترحيبه بمشاركة الجانب العربي في مبادرة الأمن العالمي التي كان أطلقها يوم 21 أفريل 2022 في الجلسة الافتتاحية للاجتماع السنوي لمنتدى بوآو الآسيوي Boao Forum For Asia، كما قال إنّه على استعداد لمواصلة المساهمة بالحكمة الصينية في تعزيز السلام والأمان للشرق الأوسط (مبادرة الأمن العالمي طرحها الرئيس شي جين بينغ يوم 21 أفريل 2022 في الجلسة الافتتاحية للاجتماع السنوي لمنتدى بوآو الآسيوي Boao Forum For Asia  لسنة 2022 من أجل تعزيز الأمن المشترك في العالم، وهي تقوم على التمسك بمفهوم الأمن المشترك والشامل والتعاوني والمستدام، والعمل سويا على صيانة السلام والأمن في العالم، التمسك باحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى واحترام الطرق التنموية والنظم الاجتماعية التي اختارتها شعوب العالم بإرادتها المستقلة، التمسك بالالتزام بمقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة ونبذ عقلية الحرب الباردة ومعارضة أي نزعة أحادية الجانب، وعدم ممارسة سياسة التكتلات أو المواجهة بين المعسكرات، التمسك بالاهتمام بالهموم الأمنية المشروعة لكافة الدول وإقامة إطار أمني متوازن وفعال ومستدام على أساس مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة ومعارضة السعي الى الأمن القومي على حساب الأمن القومي للغير، التمسك بإيجاد حلول سلمية للخلافات والنزاعات بين الدول من خلال الحوار والتشاور، ودعم كافة الجهود التي تسهم في إيجاد حلول سلمية للأزمات، وعدم جواز المعايير المزدوجة ومعارضة فرض عقوبات أحادية الجانب بشكل عشوائي أو ممارسة "اختصاص طويل الذراع"، التمسك بحماية الأمن في المجالات التقليدية وغير التقليدية، والعمل سويا على مواجهة النزاعات الإقليمية والقضايا الكونية مثل الإرهاب وتغير المناخ والأمن السيبراني والأمن البيولوجي/ بوآو Bo'ao هي بلدة في مدينة تشيونغهاي Qionghai، مقاطعة وجزيرة هاينان Hainan، في الصين).

12/ الملاحظة الثانية عشر: أولوية الولايات المتحدة الخامسة هي الدعوة دائمًا إلى احترام حقوق الإنسان، فالحريات كما يقول الرئيس الأمريكي مهمة جدًّا وضرورية لنا كأمريكيين. إنها في جيناتنا. أما الرئيس الصيني فقد دعا في المقابل إلى التمسك بالاستقلالية وصيانة المصالح المشتركة، وأكد أن الجانب الصيني يدعم جهود الدول العربية لاستكشاف الطرق التنموية التي تتماشى مع ظروفها الوطنية والتحكم في مستقبلها ومصيرها في أيديها. ويحرص الجانب الصيني على تعميق الثقة الاستراتيجية المتبادلة مع الجانب العربي، وتبادل الدعم الثابت في مساعي الجانب الآخر إلى الحفاظ على سيادة البلاد وسلامة الأراضي والكرامة الوطنية. وعلى الجانبين التمسك سويا بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية وتطبيق تعددية الأطراف الحقيقية والدفاع عن الحقوق والمصالح المشروعة للدول النامية.

13/ الملاحظة الثالثة عشر: اختتم الرئيس الأمريكي كلمته التي خلت تقريبا من الحديث عن التنمية بالتأكيد على أن الولايات المتحدة تستثمر في بناء مستقبل إيجابي في المنطقة، وأنها ستعمل مع الدول المشاركة في قمة "جدة للتنمية والأمن" ولن تذهب إلى أي مكان، أما الرئيس الصيني فقد اختتم كلمته بالإعراب عن ارتياحه لاتفاق الدول المشاركة في "القمة الصينية العربية" على العمل بكل الجهود على بناء المجتمع الصيني العربي للمستقبل المشترك نحو العصر الجديد، مع وضع "الخطوط العريضة لخطة التعاون الشامل بين الصين والدول العربية"، بغية تخطيط آفاق تطور العلاقات الصينية العربية بشكل مشترك. وفي هذا السياق أكد أن الجانب الصيني يحرص على العمل مع الجانب العربي على تنفيذ "الأعمال الثمانية المشتركة" خلال السنوات الثلاث إلى الخمس القادمة، التي تغطي المجالات الثمانية التالية: تدعيم التنمية، الأمن الغذائي، الصحة، التنمية الخضراء والابتكار، أمن الطاقة، الحوار بين الحضارات، تأهيل الشباب، الأمن والاستقرار. وقال إن الجانب الصيني أفاد الجانب العربي بالمحتويات المفصلة لـ"الأعمال الثمانية المشتركة"، وسيعمل مع الجانب العربي على تنفيذها في أسرع وقت ممكن وتحقيق حصاد مبكر.

حضرات السيدات والسادة

من خلال هذه الإطلالة على هاتين الكلمتين، أعتقد أنه من الممكن أن نستشف بعضا من أسباب الانعطافة في السياسات الخارجية السعودية والخليجية، وهي الانعطافة التي جاءت بالقمة الصينية العربية من ناحية، والتي جاءت القمة الصينية العربية لإبرازها من ناحية أخرى.

وفي رأيي فإن أهم دلالات هذه القمة تتمثل في أن هناك نوعا من التباعد المتزايد بين المملكة العربية السعودية ودول الخليج وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وأن هناك في المقابل نوعا من التقارب المتزايد بين المملكة العربية السعودية ودول الخليج وبين الصين وروسيا أيضا...

أما عن أهم أسباب التباعد بين المملكة العربية السعودية وبين الولايات المتحدة فهي تتمثل فيما يلي:

رغبة المملكة العربية السعودية وولي عهدها الأمير محمد بن سلمان صاحب "رؤية السعودية 2030" التي يحتاج تحقيقها إلى استثمارات هائلة في الاستفادة من الوضع الدولي الراهن واتجاه العالم نحو التعددية القطبية إلى التحرر من إكراهات التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الذي امتد لما يناهز الثمانين سنة.

أن دول الخليج عامة باتت حريصة على تحقيق مصالحها الوطنية، لا سيما وأنها أدركت أن علاقاتها مع واشنطن ليست سوى "شراكة"، ولا ترقى إلى مستوى "التحالف الرسمي بموجب معاهدة تفرض على أطرافها واجبات محددة".

مما ساعد على ذلك أن الرئيس جو بايدن رفض التعامل مباشرة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بسبب مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في اسطنبول سنة 2018. ومعلوم أنه كان تعهد، خلال حملته للانتخابات الرئاسية، بتحويل المملكة العربية السعودية إلى دولة "منبوذة".

أن واشنطن تراجعت، منذ تولي الرئيس جو بايدن السلطة، عن دعم الرياض وأبو ظبي عسكريا في حربهما على اليمن، وعلقت بعض مبيعات أسلحتها لهما أو ربطتها بشروط يعتبرها الجانب الخليجي مجحفة، هذا إضافة إلى أنها لم تستجب لطلب الإمارات بخصوص إعادة تصنيف جماعة الحوثي كتنظيم إرهابي بعد أن قتلت هجمات صاروخية للحوثيين ثلاثة مدنيين في أبو ظبي في جانفي 2022.

أن مخاوف السعودية ودول الخليج مما تعتبره تراجعا في التزام واشنطن بأمن شركائها في المنطقة، تزايدت خاصة بعد انسحاب القوات الامريكية من أفغانستان، وتركيزها المتزايد على مواجهة الصين.

أن الولايات المتحدة التي أبعدت في عهد الرئيس باراك أوباما دول الخليج عن المفاوضات التي أفضت إلى الاتفاق حول الملف النووي الإيراني سنة 2015، واصلت في نفس النهج، في عهد الرئيس جو بايدن، عندما تم استئناف المفاوضات لإحياء الاتفاق، وقد غذى ذلك مخاوف حلفائها الخليجيين من أن يسفر توقيع الاتفاق الجديد عن رفع العقوبات عن طهران وإعطاء اقتصادها دفعة تساعدها على ترسيخ تموقعها الإقليمي، خاصة وأنها علاوة على صلتها بالحوثيين، زادت من الجماعات المسلحة التي تدعمها في دول مثل العراق ولبنان.

هذا عن مخاوف المملكة العربية السعودية ودول الخليج أما الولايات المتحدة فإنها لا تخفي قلقها من اتجاه دول الخليج نحو توثيق التعاون العسكري مع كل من الصين وروسيا في إطار محاولتها تنويع مصادر تسلحها. وهو ما اضطرها إلى مراجعة موقفها تلافيا للمخاطرة بإفساح المجال أمام الصين وروسيا للحلول محلها.

القلق الأمريكي يمتد أيضا إلى استخدام تكنولوجيا الجيل الخامس التي تنتجها شركة هواوي الصينية في عدد من الدول الخليجية، حيث تخشى واشنطن أن تستخدم الصين هذه التكنولوجيا في التجسس على الأسلحة التي تزود بها دول الخليج ومنها خاصة الطائرات الأمريكية إف-35.

بالنظر إلى العلاقة الاستراتيجية التي تربط الصين وروسيا بإيران فإن بيكين وموسكو يمكن أن تحثّا طهران على التخفيف من حدة التوتر القائم بينها وبين أبو ظبي ودول الخليج، وهو ما لا يخدم استراتيجية الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة.

على العموم، وعلى صعيد عالمي، يبدو أن الولايات المتحدة خاصة والغرب عامة يتخوفان من أن التوجهات الخليجية الجديدة قد تساهم في بلورة كوكبة جيو-سياسية مضادة للغرب مما سيؤدي إلى انقسام العالم مرة أخرى إلى معسكرين: معسكر الدول الديمقراطية في مواجهة معسكر الدول غير الديمقراطية.

إدراك الولايات المتحدة أنّ إحجام الدول الخليجية عن إدانة روسيا وتأييد الموقف الغربي من الحرب في أوكرانيا، يكتسي أبعادا تتعلق بالطاقة والاقتصاد والأمن، وهو ما يجعلها قابلة للاستدامة والتطور مستقبلا (الشراكة في تكتل منتجي النفط "أوبك +"، الاستثمارات المتبادلة، المصالح الجيو-سياسية المشتركة للإمارات وروسيا خاصة في سوريا وليبيا، حيث تتكامل سياستا البلدين المعاديتان للثورات والحريصتان، إيديولوجيا، على احتواء الإسلام السياسي).

حضرات السيدات والسادة

أما فيما يتعلق بأهم أسباب التقارب بين المملكة العربية السعودية وبين الصين، فإنها تتمثل فيما يلي:
التوتر الذي بدأ يعتري العلاقات السعودية الأمريكية، منذ مقدم الرئيس جو بايدن إلى الحكم سنة 2020.

رغبة المملكة العربية السعودية ودول الخليج في تطوير علاقاتها الدولية بما يحقق مصالحها الوطنية، وهو ما يدل عليه موقفها الرافض لمطالب واشنطن الرفع في انتاج النفط.

تنبغي الملاحظة أن العلاقات السعودية الصينية شهدت حركية كبيرة خلال السنوات الأخيرة (زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرياض سنة 2016/ زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى الصين سنة 2017، وقد شهدت هذه الزيارة توقيع عدد من الاتفاقيات بقيمة 65 مليار دولار/ زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى بيكين سنة 2019، وقد شهدت بدورها توقيع 35 اتفاقية)، وقد تُوِّجَت القمة السعودية الصينية المنعقدة يوم 7 ديسمبر 2022 بالتوقيع على "اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة"، وعلى 46 اتفاقية ومذكرة تفاهم تشمل مختلف المجالات (استطاعت المملكة العربية السعودية "من خلال القمة بناء شراكات صينية كبيرة مقابل تمرير اتفاقية التعاون ضمن مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث تم التوقيع على اتفاقيات وعقود شراكة تجارية عديدة، تهدف إلى توطين الكثير من الصناعات، والوكالات الصينية الإقليمية (الشرق أوسطية) في المملكة كقاعدة تنطلق منها إلى بلدان المنطقة).

تسعى المملكة العربية السعودية ودول الخليج التي تعلم أن العالم يتجه نحو استخدام الطاقات المتجددة، إلى تطوير العلاقات مع الصين لأنها تريد تنويع اقتصاداتها بعيداً عن النفط الذي يؤمّن حاليا معظم دخلها الوطني، ولذلك فإنها تنفق مبالغ ضخمة استعداداً لهذا الاستحقاق، بينما تريد الصين أن تستفيد من هذه الفرصة اقتصاديا وسياسيا بتعزيز علاقاتها مع الجانب الخليجي.

من بين أنواع التعاون المتزايد والأكثر إثارة للجدل التعاون العسكري وبالذات التعاون الذي يهم الإنتاج المحلي للمعدات العسكرية، حيث يطور السعوديون صواريخهم وطائراتهم دون طيّار بمساعدة صينية، بينما اشترت الإمارات طائرات مقاتلة صينية. وفي هذا الصدد يقول أحد الخبراء إن "أي شيء لن يبيعه الأمريكيون، سيحاول السعوديون الوصول إليه في مكان آخر".

كذلك، من بين أهم دوافع تعزيز التعاون بين المملكة العربية السعودية ودول الخليج والصين ودول أخرى كالهند واليابان وكوريا الجنوبية، استعداد هذه الدول، على عكس الولايات المتحدة والدول الغربية، لنقل التكنولوجيا والمعارف إلى الجانب الخليجي.

أما من جانب الصين فإنها ترى في بلدان الخليج دولا غنية وتوفر بيئة سياسية مستقرة تساعد على القيام بأعمال تجارية واقتصادية مثمرة، ومن ذلك مثلا أنه من المنتظر أن تتيح خطط المملكة لتطوير بنيتها التحتية، بما في ذلك إنجاز مشروع مدينة "نيوم" الضخم الذي تصل قيمة مخصصاته إلى 500 مليار دولار، فرصا جديدة لشركات البناء الصينية التي تنمو بشكل متزايد في الخليج، وقد تم بالفعل الاتفاق بين الجانبين الصيني والسعودي خلال القمة على إدماج هذا المشروع في مبادرة الحزام والطريق الصينية.

إلى ذلك تتبنى الصين خطابا واعدا لا متوعدا كخطاب الولايات المتحدة والغرب وحلف شمال الأطلسي فهي كما جاء في التقرير الذي أصدرته وزارة الشؤون الخارجية في مطلع شهر ديسمبر 2022، تحت عنوان "التعاون الصيني العربي في عصر جديد" تؤكد أن بيكين "شريك استراتيجي وصديق مخلص" للعرب سيلعب دوراً بنّاءً في الشرق الأوسط، ويتجنب القيام بأي شيء يمس "مصلحته الجيو-سياسية"، وهو ما يتضمن انتقادا مبطّنا وغير مباشر لسلوك الولايات المتحدة في المنطقة.

على العموم يمكن القول إن زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية تزامنت مع سعي الرياض إلى توسيع تحالفاتها الدولية بما يتجاوز شراكتها القائمة منذ فترة طويلة مع الولايات المتحدة وأوروبا. وفي هذا الصدد تقول شبكة "سي إن إن" الأمريكية إنَّ "رحلة شي جين بينغ إلى السعودية تحمل رسالة ضمنية إلى الولايات المتحدة"، مفادها أن علاقات المنطقة مع بيكين مستمرة في التطور، ليس فقط في التجارة، ولكن أيضا في الأمن، وذلك بالرغم من مناشدات واشنطن المتكررة لحلفائها العرب في الخليج رفض "الجزرة التجارية" الصينية.

وإجمالا، ولأن العالم يتغير والقوة أصبحت أكثر توزيعاً وانتشاراً فيه... فإن دول الخليج تسعى إلى تحقيق مصالحها الوطنية، وهي إلى جانب دول أخرى من الجنوب أصبحت أكثر ثقة، وأقدر على السعي نحو متابعة تحقيق هذه المصالح.

حضرات السيدات والسادة

ختاما أعتقد أن القمة العربية الصينية جاءت في مرحلة تأكدت فيها الحاجة إلى قيام عالم جديد يخرج من براثن القطبية الأمريكية الأحادية إلى التعددية القطبية مع كل ما يعنيه ذلك من تغيرات وتحولات جيو-سياسية وجيو-استرتيجية وجيو-اقتصادية.

ولا شك أن الولايات المتحدة تحاول وستحاول باستمرار عرقلة ميلاد هذا العالم، كما إنها تعمل على تحويل مبادرة طريق الحرير الصينية إلى طريق شوك، لكن ذلك لن يحول، في نهاية المطاف، ولو بعد لأي من الزمن، دون تحقق هذا الاستحقاق الحتمي الذي تفرضه الاختلالات المجحفة التي باتت تعصف بالكرة الأرضية... على كافة المستويات.

شكرا على حسن الإصغاء".

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.