أخبار - 2023.03.08

حديث الليلة الرابعة والثلاثون، أو ميثاق حق المواطن في نقد السلطة؟

حديث الليلة الرابعة والثلاثون، أو ميثاق حق المواطن في نقد السلطة؟

بقلم المهدي الجندوبي - منذ ألف سنة تقريبا جلس الوزير، يفضفض همومه كالعادة، بعد أن ينتهي من الشغل ليجلس الى الأديب والعالم أبو حيان التوحيدي، ويستنير بنصائحه فيطرح عليه كل مرة، سؤالا في الفقه او اللغة او التاريخ وفي اللهو والطرب، ويستمع الى اجابته ونصائحه.
في الليلة الرابعة والثلاثين، جاء الوزير مهموما غاضبا لما يبلغه "عن العامة من خوضها في حديثنا، وذكرها أمورنا، وتتبعها لأسرارنا وتنقيرها عن مكنون أحوالنا، ومكتوم شاننا". بلغة عصرنا يمكن أن نقول لماذا ينتقد المواطن صاحب السلطة؟

ويواصل الوزير محتارا: "ما لهم لا يقبلون على شؤونهم المهمة، ومعايشهم النافعة، وفرائضهم الواجبة؟ ولما ينقبون عما ليس لهم؟" ويتعجّب الوزير من جماعة تحترف الاهتمام بالحكم الى درجة "الشغف": "وإني لأعجب من لهجهم وشغفهم بهذا الخلق حتى كأنه من الفرائض المحتومة، والوظائف الملزومة".

ويسال الوزير جليسه العالم حول ما يمكن أن يفعله مع هؤلاء: "وإني لأهم في الوقت بعد الوقت بقطع ألسنة وأيد وأرجل وتنكيل شديد، لعل ذلك يحرّك، الهيبة و يحسم المادة، و يقطع هذه العادة...". وتزداد حيرة وزيرنا لأنه سبق أن جرّب مقاومتهم من غير جدوى: "وقد تكرّر من الزجر، وشاع الوعيد،... ولقد تعايى علي هذا الأمر و أغلق دوني بابه، و تكاثف علي حجابه...".

بعد سماعه للسؤال الذي حيّر الوزير، يرد العالم الحكيم أبو حيان التوحيدي، أن له جوابان فيهما فائدة عظيمة، واحد سمعه من أبي سليمان وهو ركن من اركان الدولة، جمع بين "الحكمة والتجربة ومحبة الدولة والشفقة عليها من كل هبّة ودبّة"، و آخر سمعه من الشيخ الصوفي أبو الحسن العامري، لكن الكلام في هذا الموضوع بحضرة الوزير، محرج و يحتاج الى حذر لأن "الجملة خشناء و فيها بعض الغلظة". فسارع الوزير بطمأنة جليسه، قائلا له: "اذكر الجوابين و إن كانا غليظين، فليس ينتفع بالدواء إلاّ بالصبر على بشاعته". https://www.babnet.net/festivaldetail-224631.asp

خلاصة موقف أبو سليمان نصير الدولة

"سائس الناس" بكل أصنافهم "عامتهم وخاصتهم، وعالمهم و جاهلهم، وضعيفهم و قويهم"، لا يجب أن "يضجر مما يبلغه عنهم"، لهذه الأسباب:

"عقله فوق عقولهم، وحلمه أفضل من حلومهم، وصبره أتم من صبرهم".
فهم "جعلوا تحت قدرته و نيطوا بتدبيره... ليقوم بحق الله فيهم... و يصبر على جهل جاهلهم، و يكون عماد حاله معهم الرفق بهم، و القيام بمصالحهم".
"العلاقة بين السلطان... والرعية... أوشج من الرحم التي تكون بين الوالد و الولد، و الملك والد كبير... و ما يجب على الوالد في سياسة ولده، من الرفق به، و الحنو عليه و الرقة له، و اجتلاب المنفعة اليه، أكثر مما يجب على الولد من طاعة ولده".
"الملك لا يكون ملكا إلا بالرعية، كما أن الرعية لا تكون رعية إلا بالملك".
"بسبب هذه العلاقة المحكمة والوصلة الوشيجة، ما لهجت العامة بتعرّف حال سائسها... حتى تكون على بيان من رفاهة عيشها، وطيب حياتها... بالأمن الفاشي بينها، والعدل الفائض عليها، والخير المجلوب اليها".
لسان حال الرعية يقول متوجّها الى السلطان: "لما لا نخوض في حديثك، ولا نبحث عن غيب أمرك... ولا نقف على حقيقة حالك في ليلك ونهارك، ومصالحنا متعلّقة بك، و خيراتنا متوقّعة من جهتك... و مساءتنا مصروفة باهتمامك، و تظلّمنا مرفوع بعزّك"...
"ولما لا تسمع كل غث وسمين منا، و قد ملكت نواصينا و سكنت ديارنا، و صادرتنا على أموالنا وقاسمتنا مواريثنا..."

جواب الزاهد المتصوّف أبو الحسن العامري

"أما العامة فإنها تلهج بحديث كبرائها وساستها لما يرجون من رخاء العيش وطيب الحياة وسعة المال... وتضاعف الربح...".
والولع "بحديث الأمراء، والجبابرة العظماء "منتشر عند الزهاد والمتصوفة أيضا رغم انقطاعهم على الناس وابتعادهم عن الشأن السياسي، لأن تقلبات الحكم والحكام درس مفتوح من دروس الحياة، فهم يقفون عبر قصص الحكام "على تصاريف قدرة الله فيهم، و جريان أحكامه عليهم... في حال النعمة عليهم، و الانتقام منهم...". https://www.babnet.net/festivaldetail-238795.asp

هجرت أخبار الساعة وما تحمله عن أبواب السجن المفتوحة على مصراعيها، لكل من احتسى قهوة مع سفير، أو اجتمع ليلا مع ندمائه يصب جام غضبه على الحاكم و يخطط في أحلامه لإزالة زيد و تعيين عمرو، و هي رياضة قمنا بها كلنا منذ عشرات السنين في جلسات كانت الفضاء السري الوحيد، لممارسة مواطنة معطّلة و منقوصة، رغم فضائل الدولة التي سبق أن عددتها مرارا.

ومن مفارقة التاريخ المعاصر في تونس أن الحاكم الذي يعاقبك بالسجن في قضايا سياسية اليوم، فهو يقدّم لك هدية يجهل ثمنها لأن السجن "بوابة السلطة والجاه السياسي" في تونس و هو قوام الشرعية التاريخية للزعيم بورقيبة، و هو كذلك من أوصل النهضة الى المجلس التأسيسي في أول انتخابات بعد الثورة سنة 2011 و هو أيضا ما برر الكثير من المناصب الأقل ظهورا، لكوكبة من المناضلين من كل الاتجاهات، على امتداد أكثر من نصف قرن في تونس.

وجاءت الثورة وحررت الألسن، لكنها لم تحرر عقول الحكام من الخوف، فتركوا شغلهم في تأمين نظافة الطريق العام واحترام الضوء الأحمر في تسيير حركة الطريق ونشر المكتبات في الأحياء الشعبية ومقاومة ادمان المخدرات في أوساط اليافعين و تشغيل العاطلين و ارجاع الأمل في قلوب اليائسين، و اختلقوا قضايا هي من صلب العجز الجماعي الذي نعيشه في تونس منذ فترة لم تعد بالقصيرة، فبرعنا في خلق ألف مشكلة وهمية، نخوض فيها بكل جدية و حماسة و كأنها قضايا الدهر، و نعجز أمام مشاكلنا اليومية في أبسط مظاهرها.https://www.babnet.net/festivaldetail-221134.asp

ليت كل وزير ووالي ومعتمد، يفتح الليلة كتاب الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، ويتصفح ما جاء في هذه الليلة الرابعة والثلاثين، فهي ميثاق كتب منذ ألف سنة في حق المواطن في نقد السلطة وواجب السلطة في الاصغاء اليه و خدمته.

المهدي الجندوبي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.