خديجة توفيق معلَّى - تونس: إلتفتوا وراءكم، فهناك عِبرةٌ وبوصلةٌ... وثراء!
بالعودة للجدل حول مَدَنية الدولة أو دِينيتُها من خلال ما أثاره الكلام عن إمكانية حذف الفصل الأول من الدستور من ردود فعل مازالت محصورة لحد الآن في النخب السياسية، بين مؤيد ومعارض، جدل بدأت بالحديث عنه في مقالي ليوم الأحد الماضي 12 جوان بجريدة الصباح، تحت عنوان: "تَأخر الحسم كثيرا، ولا يجب أن يتأخر أكثر: الدولة التونسية دولة مدنية أو لا تكون!" وبناء على اقتراحات بعض المُفكرين، إرتأيت إضافة إقتراح يمكن أن يكون مقبولا من طرف المؤيدين والمعارضين، وهو ما خلصته في المعنى العميق الذي ضمَّنتُه لعنوان مقالي هذا.
وبقدر ما لمع في ذهني الحل، مَخرجا من هذا الجدل الثري الذي يُهدد بأن يُصبح عقيما وخطيرا في نفس الوقت إن طال وتجدد بالشاكلة التي كان عليها في السنوات الماضية، فقد عزمت أن أعرضه، بإيجازٍ وتركيزٍ كافيين لشرحه على قرائي بالتساوي مع أعضاء اللجنة الإستشارية المعنية بالحوار الجاري لبناء دستور جديد لجمهورية جديدة! وكل أملي ومبعث اقتراحي هذا هو أن يكون هذا الدستور الجديد جامعا لإيجابيات كل من دستور 1959 ودستور 2014، ومُسقطا لما تضمناه من سلبيات، أصلية أو مُدخلة، مع تضمينه ما يمكن إستشرافه من التطور الحاصل في العالم حاضرا ومستقبلا على جميع الأصعدة، حتى يكون مرجعا أساسيا في حكم الدولة لعقود عديدة ويبوء تونس مكانة تستحقها عن جدارة بين الدول المتقدمة في العالم.
سأحصر هذا المقال فيما يمكن أن يكون عليه مضمون التوطئة التي ستُكتب للدستور الجديد الجاري النقاش بشأنه. وبمراجعة توطئة دستور 2014، وجدتها ثرية ومعبرة عن توجهات وأهداف وركائز ذلك الدستور. وعندما أقول إنها تعبر عن توجهاته وأهدافه وركائزه، فإنني أجمع بين العناصر الإيجابية فيه والعناصر السلبية. ومن عناصره السلبية، ذِكرُ الشيء ونقيضه. تماما مثل التناقضات الموجودة بين الفصل الأول والثاني والسادس. وهذه التناقضات كانت مرآة للصراع الذي حصل في المجلس التأسيسي وقتها والذي تركز واحتدّ على نقطة جوهرية هي مستقبل الدولة التونسية، أيكون لائكيا أرضيا، قوامه القانون، أم دينيا سماويا، ومرجعه الشريعة. وحسم الصراع حول ماهية الدولة، أتكون دينية أم مدنية من جهة أخرى... فكان الوفاق على إبقاء الفصل الأول من دستور 1959، الذي ينص على عروبتها وإسلامها والجمهورية نظامها. وربطه بفصل ثان وراءه ينص على مدنية الدولة. كما عُدِّلت فصول أخرى بالتنصيص على حرية المعتقد والضمير، وأيضا المساواة بين المواطنين والمواطنات.
فبدأ بعد ذلك وإثر المصادقة على الدستور في 27 جانفي من العام 2014، ومنذ انتخابات 2014، مسار جديد ضمن ما أُطلق عليه "الإنتقال الديمقراطي". ظاهره توافقٌ من أجل "المصلحة الوطنية ووحدة الشعب والسلم الإجتماعية"، فيما كان قوامه السعيَ الحثيث من كلا القطبين المتوافقين، سرا وعلنا، إلى تكريس وتجذير رؤيتهما وقناعتهما لما يجب أن يكون عليه نمط المجتمع وهوية الدولة، برغم أن انتخابات ذلك العام، التي دارت حملاتها في جو من الشحن والعنف المسلطيْن على دعاة الدولة المدنية والنمط المجتمعي الحداثي، قد رجحت نتائجها، وبوضوح تام، خيار الشعب بغالبية ناخباته وناخبيه، على الدولة الحداثية الوطنية المدنية.
وهذا المسار من المفروض أن يتواصل للوصول، في يوم من الأيام إلى الدولة "العَلمانية" (بفتح العين). وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة تصحيح خطاء شائع وهو الحديث عن العِلمانية (بكسر العين)، لأن كلمة عَلمانية هي ترجمة للكلمة اللاتينية: Seculum والتي تعني العالم، ومنها أخذت كلمة Secularism والتي هي مرحلة أعلى من اللائكية في فصلهما للدين عن السياسة.
إنقاذُنا في كَنزِنا.. وكَنزُنا في ثراءِ وتنوعِ تاريخِنا!
لبلادنا تاريخ عريق وثقافات عديدة متنوعة وثرية، بما في ذلك ديانات مختلفة وعادات وتقاليد وفنون جميلة ومُبهجة إلى أبعد الحدود. فعلى مرِّ السنين وتعاقب الحقبات التاريخية وتردد العديد من الزائرين إلى بلادنا، أضفى كل ذلك غنا وزخما لا يمكن إختصارهما في الحقبة العربية الإسلامية فقط. وبما أن الدستور هو عقد إجتماعي بين كل المواطنين والمواطنات بجميع إختلافات لهجاتهم وألوانهم ولبلسهم التقليدي وخصوصيات أكلاتهم، وجب أن يتضمن توطئة تَحتفل بكل هذا الثراء على إختلافه وعدم حصره على فئة دون أخرى. وتضمُّن التوطئة هذا الإختلاف هو تعبير عن إحترام كل شعبنا وإعتراف لفخرنا بما يُهديه لأمتنا من ثراء وأصالة. كما يجب أن يعبِّر على إعتزازنا بأننا جزء من القارة الإفريقية، والمنطقة العربية وحوض البحر الأبيض المتوسط.
العناصر التي يمكن أن تضمها توطئة الدستور الجديد تعويضا للفصل الأول من دستور 2014
إذا كان تاريخ تجذر الدين الإسلامي في الشعب التونسي يبلغ من العمر أكثر من 1400 سنة، فإن مثلها أو أكثر من قَبلها قد شهد انتشار وتعاقب حضارات وديانات، مثل الديانة المسيحية على أنقاض الوثنية. والتي كان للقديس أوغسطينوس أو أغسطين، الأمازيغي الوثني الأصل الذي اعتنق الدين المسيحي ككثيرين من سكان البلد الأصليين في إفريقية وكامل الشريط الشمال إفريقي، إسهاماتٌ مهمة فيها بكتاباته باللغة اللاتينية والمجمّعة تحت عنوان كبير هو "إعترافات". وقد ضمّنها جملة من الأفكار المنفتحة والنيرة التي يرى كثير من دارسي مؤلفاته أنه كان لها أثر إيجابي في زرع فكر متحرر في التعاطي مع الديانة المسيحية. بل إنها كانت مقدمة لميلاد المذهب البروتستانتي غير المُتزمت لاحقا.
كما تمتاز تونس بأنها من أوائل البلاد التي شهدت تنامي جالية يهودية بها. حيث هناك من يرجعها إلى نحو 2600 سنة، وهناك مصادر أخرى تتحدث عن وجودها بتونس منذ القرن السادس قبل ميلاد المسيح. ويُعتبر كنيس "الغريبة" المُقام في جزيرة جربة منذ نحو 2500 سنة، أقدم معبد يهودي في إفريقيا وأحد أقدم المعابد اليهودية في العالم. ويأتي للحج إلى هذا المعبد كل شهر ماي، آلاف الحجاج اليهود من كل أرجاء العالم للزيارة والتبرك.
وممَّا يفخر به الشعب التونسي أن عراقة الدين الإسلامي على أرضه لأكثر من ألف و400 سنة، إلى جانب ما مرَّ على الأرض التونسية وعلى شعبها من حضارات وديانات متنوعة، جعلت كلها من تونس مُلتقى للحضارات ولتبادل المعارف والعلوم وترجمتها مما أكسب شعبها ميزات كثيرة رائعة، لعلَّ أهمها التسامح والإنفتاح على الآخر المختلف والتوق للتجديد وقبول التطور، والإسهام في تحقيق الإرتقاء البشري العام.
ومن أجل الحفاظ على كل هذه الفضائل والميزات، يستحق الشعب التونسي والدولة التونسية أن يكونا في مصاف الشعوب والدول المتقدمة الراقية في العالم بفضل ذكاء ووحدة أبنائها وبناتها، وأن يبلغا مرتبة الكونية، تراثا وحضارة وتقدما. لذلك فبقدر إعتزازهما بالإسلام، يفخران أيضا بثراء وتنوع إرثهما الحضاري الإنساني دون تحديد أو تضييق. وهو ما يؤهل الدولة التونسية كي تكون دولة مدنية ديمقراطية مُواطنية، ساقاها مُنغَرِستان في عمق هذه الأرض الطيبة، ورأسها شامخ، يناطح السحاب تطلعا إلى الأرقى والأبقى، بشعب متحد الصفوف، مادّ الأيادي لشعوب العالم المُحبة للسلام والحرية، من أجل بناء عالم بلا أحقاد ولا إستعباد أو إستغلال، يَعمُّ فيه الأمان والإخاء والرخاء.
خديجة توفيق معلَّى
- اكتب تعليق
- تعليق