وترجّل فارس آخر: رحيل الجامعي والوجه المعارض للسلطة بتونس، الأستاذ محمّد مواعدة
بقلم عادل بن يوسف - غادرنا صباح يوم الاثنين 16 ماي 2022 المناضل الوطني صلب الحزب الدستوري منذ الخمسينات والأستاذ الجامعي والوجه المعارض لنظام الحكم بتونس منذ مطلع السبعينات والمحلل السياسي والخبير في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والأمين العام السابق لحزب حركة الديمقراطيين الاشتراكيين (خلفا لمؤسّسها، الأستاذ أحمد المستيري) منذ سنة 1989، الأستاذ محمّد مواعدة وذلك بعد صراع طويل مرير مع المرض.
تعرّفت على الفقيد عن قرب بعد 14 جانفي 2011 وجمعتنا لقاءات عديدة في بعض التظاهرات السياسية الكبرى بتونس العاصمة... إلى أن دعوته إلى برنامجي الاذاعي "شهادات حيّة" بإذاعة المنستير فلبى الدعوة عن طيب خاطر وأجريت معه حوارا مطولا ببيته يمدينة أريانة يوم 23 أفريل 2014 تمّ بثّه على أربعة حلقات وذلك أيام الأحد 11، 18، 25 ماي و 1 جوان 2014. ورغم ملازمته الفراش حينها بسبب مرضه فقد استقبلنا بحفاوته وابتسامته المعهودتين ولم يدخر جهدا في الجواب عن جميع أسئلتنا بأدقّ التفاصيل وبصراحة لم أعهدها لدى غالبية السياسيّين بتونس المستقلة.
وبهذه المناسبة الأليمة رأيت من الواجب التعريف بالفقيد ورصد أهم المحطات في مسيرته الجامعية البحثية والسياسية الطويلة.
الولادة والنشأة والدراسة: بين الحامّة ونفطة وتونس العاصمة
ولد الأستاذ محمّد مواعدة يوم 17 أفريل 1938 بالحامّة وسط أسرة متوسطة الدخل أصيلة مدينة نفطة "الكوفة الصغير" (كما يحلو للبعض تسميتها) بالجريد التونسي. كان والده الناصر مواعدة مدير المدرسة الفرنسية – العربية بالحامّة. وقد شاءت الأقدار أن يتوفى والده وهو لا يزال في سنّ السابعة من عمره تاركا إيّاه رفقة والدته وشقيقته التي تصغره ببضع سنوات عرضة لضنك العيش وتقلبات الزمن وسوء معاملة خاله لهم.
زاول تعليمه الابتدائي بمدرسة نفطة والثانوي بتوزر ثمّ بتونس العاصمة بمعهد ابن رُشد التابع لجامع الزيتونة (شعبة العلوم) حيث نال جائزة رئيس الجمهورية مباشرة إثر إعلان النظام الجمهوري في 25 جويلية 1957.
سافر إلى سوريا لمواصلة تعليمه العالي في اختصاص العلوم. غير أنّ ظروفه العائلية قد أجبرته على العودة إلى تونس حيث واصل تعليمه العالي بالجامعة التونسية التي تخرّج منها كأستاذ في اللغة والآداب العربية.
وفي مطلع السبعينات ناقش بنجاح بكلية الآداب والعلوم الانسانية بتونس شهادة التعمّق في البحث في الحضارة العربية حول ابن موطنه برسالة وسمها: " الشيخ محمّد الخضر حسين: حياته وآثاره: 1873-1958 " تحت إشراف الأستاذ المنجمي الشملي. ولإعداد هذه الرسالة سافر وتنقل كثيرا بين تونس ومصر حيث استقرّ الشيخ الخضر حسين منذ الثلاثينات إلى أن عيّن شيخا لجامع الأزهر بأمر رئاسي من رئيس الجمهورية المصرية محمّد نجيب سنة 1952 وبقي في منصبه هذا إلى غاية سنة 1954. وقد حاضر الأستاذ محمّد مواعدة حول شيخ الأزهر وابن مدينة نفطة في عديد المنابر العلمية والثقافية داخل تونس وخارجها، مشرقا ومغربا.
مسيرة مهنية وبحثية مشوبة بالسياسة
بدأ محمّد مواعدة مسيرته المهنية كأستاذ للغة والآداب العربية في التعليم الثانوي بمعهدي الزهراء وحمام الأنف ثمّ كمساعد فأستاذ مساعد بالجامعة التونسية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية وبمعهد بورقيبة للغات الحية بتونس، مختصا في الآداب والحضارة العربية. كما تمّ تعيينه خبيرا في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. غير أنّ اهتمامه بالسياسة قد حال دون مواصلة مشواره الأكاديمي والبحثي.
من مناضل بالحزب الدستوري الحاكم منذ مطلع الاستقلال إلى مناوئ صلبه فمعارض له منذ مطلع السبعينات
بدأ محمّد مواعدة مسيرته السياسية منذ أواخر الستينات كمسؤول جهوي في لجنة التنسيق الحزبي بمدينة قفصة ثمّ كاتبا عاما على رأسها. وكان من أنصار التيار الديمقراطي والرأي المخالف داخل الحزب الدستوري الحاكم وهو ما كلفه الرفت من الحزب في أعقاب مؤتمر الحزب "المنستير 2" المنعقد في سبتمبر 1974.
كما كان من المنخرطين والنشطين الأوائل في اتحاد الكتاب التونسيين عقب تكوينه في سنة 1971 ومن مؤسّسي الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان في ماي 1977 ثمّ حركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين سنة 1978... وقد كلفه هذا النشاط الحقوقي والسياسي المعارض للحزب الحاكم آنذاك عديد المضايقات من قبل أجهزة البوليس السياسي زمن حكم بورقيبة.
من معارض إلى مهادن لنظام بن علي
بعد ابتعاد الأستاذ أحمد المستيري عن حركة الديمقراطيّين الاشتراكيّين في بدايات فترة حكم بن علي، تولّى الأستاذ محمّد مواعدة الأمانة العامة للحركة من سنة 1989 إلى غاية سنة 1995. فكان معارضا ثمّ مهادنا لنظام بن علي مرارا وتكرارا، حيث كلفه زين العابدين بن علي شخصيا بعديد المهام، داخل البلاد وخارجها: بليبيا والعراق... الخ، حيث تمكن من لقاء الرئيسين صدام حسين والعقيد معمّر القذافي وتسليمهما رسالتين شخصيتين من بن علي.
وفي أكتوبر 1995 تمّ إيقافه ومحاكمته بتهمة "إقامة علاقات استخباراتية مع عناصر في الخارج" (بليبيا تحديدا).
وفي سنة 1996 صدر ضده حكم بالسجن لمدة 11 سنة.
وفي سنة 1999 تمّ الإفراج عنه، لكن سرعان ما أُعِيدَ إلى السجن في 19 جوان 2001 بتهمة مخالفته قرار الإفراج الشرطي وإقامة علاقات مع حركة النهضة الإسلامية المحضورة، وبقي في الزنزانة رقم 7 بشكل انفرادي لمدة سنة و 3 أشهر. وخلال هذه الفترة قام بوليس بن علي التنكيل بأفراد عائلته ممّا تسبّب في إصابة زوجته بالقصور الكلوي وتعطّل المسيرة الدراسية لأبنائه الذين كانوا حينها في التعليم الثانوي ولم يتمّ الإفراج عنه إلاّ يوم 14 جانفي 2002 إثر دخوله في إضراب جوع وحشيّ بالسجن.
من معارض لبن علي إلى نائب بمجلس المستشارين
في منتصف سنة 2008 وقبيل الانتخابات التشريعية والرئاسية لخريف سنة 2009 اتصل به ذات يوم بن علي هاتفيا ليعلمه أنه قرّر تعيينه نائبا بمجلس المستشارين المحدث مؤخرا بتونس.
ورغم قبوله بهذا المنصب فقد كان كثيرا ما ينتقد نظام بن علي داخل المجلس وهو ما كلفه اللوم والعتاب الشديد من قبل رئيس المجلس، الأستاذ عبد الله القلاّل وبن علي شخصيّا، سواء بالهاتف أو مباشرة خلال المناسبات الرسمية.
عودة من جديد للمعارضة بعد 14 جانفي 2011
بعد ثورة الحرية والكرامة لازم الأستاذ محمّد مواعدة الصمت طيلة أكثر من سنة بسبب الاتهامات الموجهة لنواب مجلس المستشارين ووصفهم بـ "الأزلام" ليعود من جديد إلى الساحة السياسية بالظهور في عديد المنابر الإعلامية ثمّ التفرّغ لكتابة مذكّراته التي رأت النور في جويلية 2014، تحت عنوان: "قصتي مع بن علي أو في صناعة الطاغية"، منشورات »كارم الشريف «التي تلخّص مسيرته المهني والنضالية والسياسية الطويلة صلب الحزب الحاكم والمعارضة منذ الستينات إلى غاية سنة 2011.
رحم الله الفقيد ورزق ابناءه وحركة الديمقراطيين الاشتراكيّين و الطبقة السياسية الوطنية جميل الصبر والسلوان.
بقلم عادل بن يوسف
- اكتب تعليق
- تعليق