قرن ونصف من الصّحافة في تونس: مسارات الحركة الإصلاحية والحرية والتعددية للدكتور الصحراوي قمعون
بقلم أ.د عادل بن يوسف - صدر في أواخر شهر مارس 2022 عن المغاربية للنشر بتونس، الكتاب التاسع للصّحفيّ والمسؤول السابق في قطاع الإعلام والكاتب، الدكتور الصحراوي قمعون بعنوان: «قرن ونصف من الصحافة في تونس: مسارات الحركة الإصلاحية والحرية والتعددية».
جاء الكتاب في طبعة أنيقة تضمّ 320 صفحة من الحجم المتوسط موزّعة على أجزاء وفق تقسيم كرونلوجي وهي تباعا: "فترة الحركة الإصلاحية (1860ـ1881): نشر الأفكار الإصلاحية: "، ثمّ "فترة الحماية الفرنسية (1881ـ1956): تنوّع وتعدّدية تحت الرقابة" وأخيرا " فترة الاستقلال (1956ـ 2020): أزمة التعددية وحرية التعبير".
وقد تضمّن الكتاب استعراضا تاريخيا لمسيرة الصحافة التونسية منذ إنشاء أول صحيفة تونسية وعربية وهي "الرائد التونسي" التي صدر عددها الأول يوم الأحد 04 محرّم 1277هـ/ 22 جويلية 1860م، ومثلت إحدى مظاهر الحركة الإصلاحية التحديثية بتونس التي انطلقت في عهد المشير أحمد باشا باي (حكم بين 1837 و 1855) وتواصلت لاحقا خلال حكومة الوزير الأكبر، الجنرال خير الدين التونسي (بين 1873 و 1877).
المُؤَلّف: مسيرة أربعة عقود مليئة بالعمل الصحفيّ والمسؤوليات في القطاع الإعلامي والإصدارات
ولد الدكتور الصحراوي قمعون مدينة أكودة بالساحل التونسي في 20 أوت 1957. زاول دراسته الابتدائية بالمدرسة الراجحية (أُحدثت سنة 1911) والثانوية بالمعهد الثانوي بالقلعة الكبرى. وإثر حصوله على البكالوريا آداب في جوان 1977 التحق بالمعهد العالي للصّحافة وعلوم الإخبار بتونس الذي تخرّج منه سنة 1981.
ومنذ خريف تلك السنة شغل عديد الخطط والمسؤوليات في قطاع الصّحافة والإعلام وهي تباعا: صحفيّ ورئيس تحرير بوكالة تونس إفريقيا للأنباء، فمدير ورئيس تحرير يومية الصّحافة (من سنة 2000 إلى سنة 2006) ثمّ مدير عام لمركز التوثيق الوطني (من سنة 2008 إلى سنة 2014).
كما صدرت له قبل هذا الكتاب 08 مؤلفات باللغتين العربية والفرنسية وهي تباعا:
• حركة الإصلاح والتحديث في تونس: حوارات صحفية مع القاضي الشيخ يوسف بن يوسف، سنة 2012.
• نساء رائدات في الحضارة العربية الاسلامية: من القيروان الي بغداد، 2013.
• الإسلام وتحرير المرأة : معركة الشيخ سالم بن حميدة، سنة 2014 (تُرجم إلي الفرنسية).
• حوار الشيخين في الإصلاح الاجتماعي وتحرير المرأة، سنة 2015.
• وكالة تونس إفريقيا للأنباء: من أجل إعلام موضوعي تعدّدي، سنة 2016 (تُرجم إلى الفرنسية).
• نويرة وبورقيبة: السلطة بين السياسة والاقتصاد والاستحقاق الديمقراطي، سنة 2017 (تُرجم إلى الفرنسية).
• تراث المدينة تاريخ مدين أكودة وأعلامها، سنة 2020.
و منذ سنة 2017 تولّى بعث وإدارة "منتدى الشيخ سالم بن حميدة" (1882-1961) بمدينة أكودة [مصلح اجتماعي أصيل أكودة، يعف باسم "فيلسوف الساحل" وأستاذ المصلح الكبير الطاهر الحداد بالمدرسة العرفانية ونصيره ضد المتزمتين عند صدور كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، بتقديمه له رفقة ابنته آسيا بكازينو البلفدير يوم 17 أكتوبر 1931]. و سرعان ما تحوّل هذا المنتدى إلى منبر فكري نشيط يستقطب المثقفين من كامل جهة الساحل بحكم النشاطات والتظاهرات الثقافية التي دأب على تنظيمها بمعدل نشاط كل شهر.
وفي سنة 2018 ناقش أطروحة دكتورا في الصحافة وعلوم الإعلام والاتصال تحت إشراف الأستاذ محمد حمدان بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس بعنوان "التعددية الإعلامية وعلاقتها الجدلية بالسلطة السياسية :قراءة في صحافة الثمانينات". وهو يدرّس منذ سنوات بصفة عرضية بمعهد الصّحافة وعلوم الإخبار بتونس.
كتابٌ يؤرّخ لتجربة التحديث و الصّحافة التونسية على حد سواء
يبرز المؤلف في بداية الكتاب مظاهر الحركة الإصلاحية بتونس التي شملت الحياة السياسية والدستورية بإصدار دستور عهد الأمان عام 1860 وقبلها قانون منع الرقّ عام 1846 قبل عدة دول أوروبية وقبل أمريكا، حسب المصادر التاريخية. وقد أشار المؤلف في مقدمة كتابه إلى أنّ بعض مؤرخي الصحافة التونسية يؤرخون لبداية الصحافة التونسية سنة 1838، أي تاريخ صدور أوّل صحيفة بتونس، "جريدة تونس وقرطاج" Il Giornale di Tunisi e Cartagine))، الصادرة باللغة الإيطالية ولسان حال الجالية الإيطالية المستقرّة بتونس منذ القرن 19م. غير أنّ "الرائد التونسي" ستكون أوّل صحيفة تونسية تصدر بالعربية، أي بلغة البلاد ولم يسبقها في ذلك على المستوى العربي سوى صحيفة "الوقائع المصرية" التي صدرت بالقاهرة سنة 1827، أي زمن حكم محمد علي باشا (1804-1849) رائد الحركة الإصلاحية بمصر التي ستكون نموذجا للحركة الإصلاحية الرائدة بتونس بداية من سنة 1840.
وعبر أجزاء الكتاب السبعة وفصوله العديدة، تناول المؤلف بأسلوب صحفيّ توثيقي لا يخلو من مرجعية تاريخية، وهي مسارات الصحافة التونسية وعلاقتها الجدلية بمحيطها السياسي والفكري خلال الفترات الثلاث لتاريخ تونس المعاصر: فترة الحركة الإصلاحية التحديثية لما قبل انتصاب الاستعمار الفرنسي (1860-1881)، ثم فترة الحماية الفرنسية ومعركة الحرية والنضال من أجل الانعتاق من الاستعمار (1881- 1956)، وأخيرا فترة الاستقلال الوطني أو تاريخ تونس المستقلّة (1956-2020)، التي يقسّمها المؤلف منهجيا إلى عشريات متتالية: الستينات، السبعينات، الثمانينات...، حيث أنه لكل عشرية منها ملامحها توجهاتها السياسية والإيديولوجية والاقتصادية المتناقضة وبالتالي تأثيراتها على الصحافة و المشهد الإعلامي عامة.
وهي كما بيّن المؤلف، عَشريّات تراوحت بين الانفتاح والانغلاق من جهة، وبين الآحادية والتعددية من جهة أخرى. وجدير بالتذكير أنّ الدولة الوطنية الفتية قد حاولت منذ مطلع الاستقلال إقامة توازن صعب المنال، بين رهانات التنمية وإشكاليات الديمقراطية والتعددية من ناحية و بين احترام حرية التعبير وضمان استقلالية الصحافة او التضييق عليها وانتهاكها من ناحية أخرى، سواء على مستوى الممارسة أو في النصوص القانونية التي تسيّر الصحافة في مختلف العهود والتي أفردها المؤلّف بابا بذاته في الكتاب.
وقد خصّص المؤلّف في هذا السياق، فصولا أخرى تناول فيها بالتفصيل المظاهر القطاعية للصحافة التونسية من خلال إفراد كل قطاع منها بفصل، تحدّث فيها عن مسارات كل من الصّحافة السياسية والنقابية والفكرية والأدبية والهزلية والجهوية والنسائية خلال مختلف الفترات المذكورة. كما توقّف عند كل ما قامت به الصحافة بمختلف توجهاتها الموالية أو المعارضة أو المستقلة من أدوار عدة لإسناد عملية التحديث والتعصير الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، إضافة إلى دور سلاح الصحافة الذي استعمل في كل الاتجاهات لإخراج تونس من حالة الاستعمار والتبعية إلى حالة الاستقلال والسيادة، وصولا إلى ضمان انتقالها من دولة سائرة في طريق النمو إلى دولة سائرة في طريق الديمقراطية المنشودة وما عرفته من هزات سياسية وعثرات وانتكاسات كانت الصّحافة عنصرا دافعا أو مثبطا فيها حسب الفترات.
و في هذا السياق خصّص المؤلف فصولا أخرى لتحليل الواقع الراهن للصحافة على ضوء التجارب السابقة متشرفا آفاقها المستقبلية. وقد اعتبر أنّ الصحافة التونسية قد عرفت منذ الاستقلال ربيعين للتعددية والحرّية، أولهما في ثمانينات القرن الماضي وثانيهما منذ 14 جانفي 2011. ولكنهما تُوّجا في نظره بفشل متفاوت على مستوى استمرارية حرية التعبير والتعددية السياسية والإعلام... فكانت التجربتان بالنسبة إليه "إضاءة وانفراجة وقتية في سماء ملبّدة بالغيوم" !
مخاطر عديدة تهدّد الصحافة في تونس اليوم
استعرض المؤلّف المخاطر التي تتهدد الصحافة اليوم بتونس أمام انسحاب الدولة من المشهد الإعلامي والصحفيّ في العشرية الأخيرة بحجّة ضمان حرّية الإعلام، وهو ما يفتح المجال أمام سيطرة "لوبّيات" المال المشبوه والأحزاب المتغوّلة والمتنفّذة على مصير حرّية الصحافة المستقلة والجادة وخاصة حِيال تنامي الفوضي الإعلامية وسيطرة التفاهة على الكثير من المضامين الصحفية السائدة والمنتشرة كالنار في الهشيم. ولنا في التقرير السنوي الذي نشرته منظمة «مراسلون بلا حدود» يوم الثلاثاء 03 ماي 2022 - تزامنا مع الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة – والإعلان عن تراجع تونس بـ21 مرتبة في التصنيف العالمي لحريّة الصحافة لسنة 2022، حيث تقهقرت من المرتبة 73 إلى 94 عالميا (من أصل 180 دولة)، تأكيد واضح لما ذهب إليه الكاتب في مؤلفه هذا.
فقد بيّن ذلك بالتفصيل، داعيا الدولة إلى تحمّل مسؤوليتها الكاملة وتقديم الدعم اللازم للصحافة الجادة والنوعية على غرار ما هو معمول به في البلدان الديمقراطية العريقة في كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا...، حيث تقدم فرنسا مثلا كل سنة مساعدة تبلغ نصف مليار يورو إلى 326 صحيفة ومجلة. وتأتي صحيفتَا "ليبيراسيون" (Libération) و "أوجوردوي" (Aujourd’hui) على رأس القائمة، حيث حصلت كل منهما على أكثر من 7 ملايين يورو، تلتها "لوفيغارو" (Le Figaro) بمبلغ 5 مليون يورو و"لوموند" (Le Monde) بخمسة مليون يورو. كما حصلت وكالة الأنباء الفرنسية العالمية "ا.ف.ب" (AFP) على مبلغ مائة مليون يورو في شكل اشتراكات المؤسسات الرسمية الفرنسية في الخارج. وهو مبلغ يمثل 40 % من رقم معاملاتها حسب الإحصائيات التي أوردها المؤلف حسب مصادر وزارة الاتصال الفرنسية.
وعلى ضوء مثل هذه المعطيات، تطرّق المؤلف إلي هشاشة الأوضاع الحالية للصّحافة والصحفيّين والصحفيّات، خاصة في مجال التشغيل والأجور، إلى جانب الأوضاع الهيكلية للصحافة وسبل تحقيق انتقالها من الورقي إلى الرقمي، "ضمانا لاستمرارها واندراجها في عصر الميديا الجديدة و ما بعد الميديا" كما جاء في الكتاب.
مُلحقٌ ثريّ بعناوين والصحف والمجلات الصادرة بتونس على امتداد نصف قرن
بعد الجانب التاريخي والتحليلي الوصفي المسهب لأوضاع الصحافة، قام الكاتب في خاتمة فصوله بإدراج ملحق ضافٍ في شكل دليل شامل وموجزٍ لعناوين الصّحف والمجلات الصادرة بتونس عل امتداد قرن ونصف والتي تزيد عن 500 عنوان باللغة العربية، حَوْصَلَ فيه بشكل موجز للغاية إجمالي هذا التراث الصحفي التونسي الصادر من سنة 1860 إلى سنة 2020.
وقد احتوى الدليل في ثناياه على أكثر من 1.000 اسم من أجيال الصحفيّين والصحفيّات البارزين والبارزات، ومن رؤساء التحرير ومديري وباعثي الصّحف، ومن رجالات السياسة والفكر والإبداع، ممّن ساهموا بأقلامهم في إثراء مسيرة الصحافة التونسية وحملوا لوائها طوال تلك الفترة الطويلة من الزمن.
وتمّ توشيح الكتاب بصور منتقاة للعناوين الصحفية البارزة والمؤثرة في المشهد الصحفيّ أو السياسي خلال تلك الفترات، "سعيا إلى تقريب المعلومة التاريخية من جيل الصحافة الحالي وربط الماضي بالحاضر والمستقبل توثيقا للذاكرة الصحفية الوطنية"، كما جاء في مقدمة الكتاب.
يقيننا أنّ القارئ العادي والباحث والمدرّس المتخصّص سيجدون بالتأكيد ضالتهم في إصدار الدكتور الصحراوي قمعون، الذي لا يمكن الاستغناء عنه في البحوث المتصلة بتاريخ الصحافة ومحيطها السياسي والأيديولوجي والاقتصادي - الاجتماعي والثقافي...، منذ فترة السابقة للحماية إلى غاية ما بعد ثورة الحرية والكرامة، التي كان من أهمّ شعاراتها ومطالبها المتأكّدة حريّة التعبير ورفع الرقابة على التفكير !
وأملنا أكبر أن يُفرد الباحث المحترف الصحراوي قمعون الصّحف الصادرة بمختلف جهات البلاد التونسي، أي ما يعرف بالصّحافة الجهوية والمحليّة، كتابا آخر.
أ.د عادل بن يوسف
(جامعة سوسة)
- اكتب تعليق
- تعليق