إلى روح العربي الملاّخ، ذاك الرجل الذي جسّم الفضيلة
بقلم حبيب الملاّخ - ودّعنا مؤخّرا، عمّي العربي الملاّخ في سنّ الثانية والتسعين. كتب صديقي محمّد الهادي زعيّم في مراسلة تعزية وجّهها إليَّ بمناسبة هذا الرّحيل : " إنّ من عايش الرجل ورافق مسيرته، هو الذي يكون دون غيره، قادرا على تقييم جسامة هذا الحدث الفاجعة. هذا قرن من الزمن ينصرف." فعلا، حقّق المرحوم العربي الملاّخ، طوال حياة شيخ أدرك التّسعين، نجاحا باهرا في مسيرة مثاليّة أبهر بها كلّ من تابع مساره المدرسي والجامعي أو كذلك دربه المهني والسياسي.
وُلد العربي الملاّخ برأس الجبل في غرّة أفريل سنة 1929 وتعلّم بنجاح في المدرسة الفرنسية العربية بالبلدة، ثمّ في المعهد الصادقي، قبل أن يلتحق بكلية الصيدلة في مرسيليا حيث تحصّل على ديبلوم صيدلاني سنة 1955. وإذ كان وطنيا متحمّسا، ناضل العربي الملاّخ كتلميذ بالثانوي أوّلا ثمّ كطالب صلب الحزب الدستوري الجديد، من أجل استقلال البلاد. وكمناضل من الرعين الأوّل، تقلّد في بداية سنوات 1950 خطّة مساعد للكاتب العام في الشعبة الدّستوريّة بمرسيليا ثمّ خطّة كاتب عام لفرع الإتحاد العام لطلبة تونس بمرسيليا. ولمّا استقّر بمدينة منزل بورقيبة كان الصّيدلاني الشّاب محبوبا لكرمه وحبّه للنّاس، وقد ساهم بحماس شديد وبكثير من التّفاني، في الحياة السياسيّة بالمدينة.
وإذ كان مناضلا قاعديّا في صلب الشعبة الدّستوريّة بالمدينة، سرعان ما انتُخب في بداية السّتينات عضوا بمكتب تلك الشعبة وعضوا في المجلس البلدي لمدينة "فرّيفيل" سابقا. كان حرصه الشّديد على احترام القيم وكذلك وطنيّته التّي اعتبرت دوما قدوة، علاوة على حرصه المتواصل على المصلحة العامّة، عوامل مَكَّنته من أن يُنتخب سنة 1965 كاتبا عاما للجنة تنسيق الحزب الاشتراكي الدّستوري ببنزرت، وظلّ في تلك الخطّة إلى أكتوبر 1973. في ذلك التاريخ، عُيّن ضمن حكومة الهادي نويرة الثانية، كاتب دولة لدى وزير التجهيز مكلّفا بالسّكن. لقد كان بصفته تلك، مؤسّس الوكالة العقاريّة للسّكنى سنة 1974 والصندوق الوطني للادخار السكني، أي بنك الإسكان حاليّاّ، وقد مكّنت المؤسّستان العديد من التونسيين من الطبقة المتوسطة وحتّى من الطبقة ذات الإمكانيّات المتواضعة، من اقتناء مقاسم مُعدّة للبناء، بيعت بأسعار ذات هامش ربح ضعيف ومن التّمتّع بقروض مخصّصة للبناء أو لاقتناء مسكن، وُظّفت عليها نسب فائدة تفاضليّة.
انتُخب العربي الملاّخ نائبا بالبرلمان بين سنتي 1969 و1989 وكاد يكون ذلك بلا انقطاع، وقد برز بنشاطه الفيّاض ومقترحاته الوجيهة صلب لجان البرلمان حيث غالبا ما كان مقرّرا أو رئيسا و صلب مكتب المجلس البرلمانيّ. لقد كُلّل هذا المسار السياسي البارز بتعيينه سنة 1977 عضوا في المكتب السّياسي للحزب الاشتراكي الدّستوري كما انضّم الى لجنته المركزيّة لمدّة قاربت العقدين. وقد كان خلال تلك الفترة متشدّدا للغاية إذا ما تعلّق الأمر بالمصلحة العامّة ولم يكن بالمرّة يتردّد في الدفاع عن مواقفه والتعبير ضمن هذا الهيكل، عن معارضته بشجاعة للإجراءات التّي كان يعتبرها كارثيّة بالنسبة الى البلاد،على غرار إلغاء تعويض أسعار الحبوب ومشتقاتها، بضغط من صندوق النقد الدولي في نهاية شهر ديسمبر 1983. كما لم يكن يتردّد في التحذير مما يُحتمل أن تُحدثه مثلُ تلك الإجراءات من اضطرابات شعبيّة. وسيُثبت التاريخ في الحين أنّه كان فعلا على حقّ. فمن 29 ديسمبر 1983 إلى 6 جانفي 1984، اندلع حريق ثورة الخبز في كامل البلاد. وكمسيّر ماهر أسّس العربي الملاخ في بداية الثمانيات (1980) شركة بعث عقاري فمكّن العديد من المواطنين، بفضل أسعار مناسبة وفي المتناول، من اقتناء مساكن ذات جودة عالية، فكانوا له بذلك معترفين بالجميل.
برحيل العربي الملاّخ، فقدت تونس أحد رجالها العظماء وأحد بناة الدولة الوطنيّة وأحد أوفى إطاراتها.
يمثّل حبّ الوطن والعائلة واحترام القيم الفاضلة، المُستوعَبة عن اقتناع ولا المُسقطة دغمائيا، مكسبا ثمينا يُورّثه الأب لابنه أو ابنته وينقله الأخ الى الأخ الأصغر ويُلّقنه العمّ الى ابن أخيه أو أخته، وكذلك الصديق الحقيقي الى صديقه.
تحيّة انحناء نُقّدمها اليك ! أنت يا من حذق كيف يٌمرّر إليّ وإلى غيري،إرث أبيك الهادي وإرث أبيك الروحي، أخيك وصديقك الحميم، والدي منصف الملاّخ.
إنّ فضائلك التّي لا حصر لها وتفانيك المثالي لصالح الوطن والعائلة، وحبّك للآخر بقدر لا مثيل له - إذ أنّ العيش من أجل الآخر كان لك مصدر سعادة لا توصف – هي قيمٌ أضاءت لنا الطريق.
فشكرا لك إذ رافقتنا على الدّرب، وشكرا لحضورك المتواصل معنا في كل مكان لتُشجّعنا وتسهر على راحتنا.ها نحن اليوم، وإذ رحلت الى عالم أرحب، أضحينا ندرك عمق الفراق الذي تركته. كلّ الرحمة لروحك الطاهرة.
حبيب الملاّخ
- اكتب تعليق
- تعليق