رسالتي إلى "قيس(1) " و"ليلى(2) "
بقلم نجيبة الزاير، قاضية ومديرة الدراسات السابقة بالمعهد الاعلى للقضاء - كم شغفنا بقصة قيس وليلى التي تلاقفناها ونحن مراهقين، قصة حب تاريخية جمعت ليلى العامرية بقيس ابن الملوح في تلاقٍ حول مشاعر التقارب والتحابب الجميلة الفياضة، والتي حثت العشيقين للافصاح شعرًا والتعبير قافيةً، مجسدة في ابيات تناقلناها، وحفظنا البعض منها عن ظهر قلب. أبيات درّسها المعلّمون والاساتذة بالمدارس والمعاهد والجامعات. قلبين تركا عند تلاقيهما في انفسنا وعبر العصور،أثر العشق والشغف بينهما كمثال للتوق للحبّ الدائم والصادق.
فلكلّ مشاعره الخاصة التي يتقاسمها مع الحبيب، ولعل حبيبنا الذي يجمعها في هذا الوقت العصيب، هو وطننا، تونس الخضراء التي نتباهى بجمالها ورونقها وتنوع مواردها خارج حدود الوطن و في ثنايا أحشائنا. حب لهذا البلد نتقاسمه مع بعضنا البعض، وما من شك وبالخصوص مع رئيس الدولة السيد قيس سعيد رئيس الجمهورية التونسية، ووزيرة العدل السيدة ليلى جفال، ووزيرة البيئة السيدة ليلى الشيخاوي. والذين يمثلون المتلقّي الاساسي من خلال هذه الاسطر.
السيد رئيس الدولة، السيدة وزيرة العدل، السيدة وزيرة البيئة؛ تواجدكم بهذا البلد وعلى رأس رئاسة الدولة ووزارتين هامتين،(العدل والبيئة)، بهذه الحقبة الزمنية، يشكل لبنة يسجلها التاريخ في ميزان ايجابيات حضرتكم، بتلاقي حبكم لهذا الوطن، الذي تتحملون من أجله وزر مهامكم. هذا الوطن الذي بدت فيه البيئة هذه الايام تستغيث من الانتهاكات الكثيفة المسلطة عليها. بيئةٌ نازفةٌ جِراحُها، مترهِّلةٌ هياكلُها، تائِهٌ طريقُها، وغائبٌ إنصافها.
وعليه، وأمام الحالة التي عليها البيئة في تونس منذ صيف 2021، فاننا نتوق اليوم الى مزيد الاهتمام من قبلكم بمأسسة حماية البيئة، التي نصْبُو الى أن تنكب على تعزيز التكوين البيئي، (المبحث الاول) وعلى إحداث مؤسسات قضائية مختصّة في النزاعات البيئية (المبحث الثاني) وضرورة مراجعة للمؤسسات والهياكل المعنية مباشرة بحماية البيئة (المبحث الثالث).
المبحث الاول: فقدان التخصص في قانون البيئة من حيث التكوين
إنه ومنذ انخراط الدولة التونسية في عديدالاتفاقيات والمعاهدات الدولية والثنائية ومتعددة الاطراف، أضحى من المعلوم، انبثاق نزاع بيئي، كان محتشما في اوائل الثمانينات، حيث كانت جل القضايا المرفوعة لحماية البيئة امام المؤسسات القضائية التونسية يتعلق موضوعها بمشاغب الجوار وبكف الشغب وبتلوث الهواء من المداخن والافران والحمّامات العمومية، دون الخوض في أي قانون يتعلق بالذود عن حماية البيئة.
ويعزى هذا الصمت النزاعي بشأن إدراج الهاجس البيئي الى النصوص التشريعية البيئية المبعثرة، والى غياب مجلة لحماية البيئة، وخاصة الى عدم تلقي المحامين والقضاة تكوينا خاصا في مجال قانون البيئة. الا ان الانتهاكات البيئية تزايدت عددًا وخطورةً، ولكن تكوين جناحَيْ العدالة لا يزال يراوح تقيّده بنصوص كلاسيكية لا تعبأ بالمؤشرات والاهداف السبعة عشر للتنمية المستدامة(3) ولا بتغير المناخ، ولا حتى بتطور المبادئ العامة وآليات حماية البيئة الحديثة.
ويجدر بنا التذكير أنه ومن بين أهداف التنمية المستدامة، يتضمن الهدف السادس عشر (16) للامم المتحدة بخصوص التنمية المستدامة، " السلام والعدل والمؤسسات القوية". الا أن المؤسسات التي تحقق هذا العدل تفتقر الى تكوين الساهرين عليها والعاملين فيها، وتخصص فئة منهم في مجال قانون البيئة، وفي هذا الاطار، نشير الى القضاة والمحامين ذكرًا لا حصْرًا.
الفقرة1: غياب تكوين القضاة في قانون البيئة بالمعهد الأعلى للقضاء وللمحاماة
لقد أحدث المعهد الأعلى للقضاء بتونس بموجب القانون عدد 80 المؤرخ في 11 أوت 1985 كما تم تنقيحه وإتمامه بالقانون عدد 70 المؤرخ في 27 جويلية 1992(4)، والذي جاء بالفصل 3 مكرر لإضافة إمكانية تكوين مساعدي القضاء بذلك المعهد وبالقيام بنشاطات قضائية وقانونية به.
وبالرجوع إلى قرار وزير العدل المؤرخ في 18 جانفي 1989 المتعلق ببرامج الدروس وحصص التأهيل بالمعهد الأعلى للقضاء(5)، يتبين أنه يتم تدريس المادة المدنية والتجارية والعقارية والجزائية والمرافعات المدنية والتجارية والإجراءات الجزائية، كمواد أساسية نص عليها الفصل 4-أ، والمواد الثانوية وهي المنصوص عليها بالفصل 4-ب، وتتمثل في المادة الاجتماعية والتشريع الخاص بمهنة المحاماة والأطباء وآداب القاضي. كما أضاف قرار وزير العدل المؤرخ في 26 جوان 1993(6) والذي تضمن أن التكوين بالمعهد الأعلى للقضاء يتضمن تدريس الاتفاقيات الدولية وحقوق الإنسان بالفصل 1 و2 والآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان.
و الملاحظ، أنه ولئن تتولى ادراة التكوين المستمر بالمعهد المذكور القيام بدورات تكوينية وبحلقات نقاش وملتقيات في مجال حماية البيئة، إلا أن ذلك يكون بصورة عرضية أو موسمية، ولا يدخل تحت طائلة التكوين الاساسي للقضاة المتدربين.
فالتكوين الاساسي في مادة قانون البيئة من المفروض أن يتطرّق إلى دراسة المبادئ الأساسية لهذا القانون، والى مدى انخراط البلاد التونسية في النظم الدولية المتعلقة بموافقتها و إمضاءها ومصادقتها على معظم المعاهدات والاتفاقيات والبروتوكولات الدولية و الإقليمية والثنائية، المتعلقة بالبيئة(7)، سيما فيما يتعلق بالجهاز التشريعي المخصص لهذا المجال الشاسع. إنّ المجال البيئي المتكون من عديد العناصر البيئية(8)، والذي يلامس كل الحقوق وجل المجالات التشريعية؛ بعدما أضحى الحق في البيئة حقا من حقوق الإنسان الأساسية بمقتضى الفصل 45 من دستور 27 جانفي 2014، والفصل 42 المتعلق بالحق في البيئة الثقافية والفصل 44 المتعلق بالحق في الماء، وبعد تكريس الدستور للتنمية المستدامة(9) بالديباجة وباحداث هيئة التنمية المستدامة وحقوق الاجيال القادمة بمقتضى الفصل 129 من ذات الدستور.
كما يفترض ان يكون تدريس مادة القانون والحقوق بالمعهد الاعلى للقضاء، موضوع مراقبة وفروض وتقييم للقضاة المتدرّبين، تهيئة لجيل يؤسس لتكريس التنمية المستدامة وحماية البيئة والذود عن الحقوق الملازمة والمرافقة لحماية هذه الاخيرة(10) في تونس، في مواجهة التغير المناخي والانتهاكات المسلطة على البيئة في عديد المدن التونسية لعل مدينة صفاقس وقابس والقيروان، نماذج حية لذلك. وـاسيسا ايضا لمسك هذا الجيل وتسييره لمؤسسات بيئية متخصّصة.
وتجدر بنا الاشارة الى توفر بعض الدراسات النادرة التي ينجزها القضاة من خلال مذكرات ختم الدروس بذلك المعهد، والتي تكون منجزة بالمجهود الخاص للقضاة المتدربين بمساعدة إدارة المعهد ومن يسهر على تأطيرهم في إنجاز هذه الأعمال والتي تضل نادرة.
الفقرة2: غياب مادة قانون البيئة في تكوين المحامين بالمعهد الأعلى للمحاماة
أحدث المعهد العالي للمحاماة بتونس بمقتضى القانون عدد 30 المؤرخ في 30 ماي 2006، المنقح والمتمم للقانون عدد 87 المؤرخ في 7 سبتمبر 1989، والمتعلق بتنظيم مهنة المحاماة، وباعتبار، أنه للمحامي دور هام جدا، إذ أنه لا فاعل في إرشاد المتقاضي والدفاع عن كافة حقوقه وحرياته حتى ولو كان مذنبا، فهو الذي يقوم بمؤازرته وتفسير وضعه للقضاء ومحاولة تبرئته أو التخفيف عنه بشتى الوسائل التي يقدمها له من خلال هذه المهنة الحرة في ممارستها، وفي وأشكال وطرق الدفاع. بل وأيضا لأن المحامي له دور أهم في بسط المعطيات وتهيئة ملف الدفاع والبحث عن المؤيدات والأساس القانون الذي يركز عليه دعواه، سيما اذا كانت الدعوى بيئية.
كذلك الشأن إذا كان موضوع الدعاوى المرفوعة موضوعا بيئيا، فان المحامي يكون معنيا شخصيا بالدفاع عن حماية البيئة لا فقط كلسان دفاع، بل وأيضا كمواطن له الحق في بيئة سليمة كيفما ذكر أعلاه.
ولابد من التذكير بأنه ومنذ إحداث المعهد الأعلى للمحاماة، أضحى تخرج المحامي ومباشرته لمهنته يخضع إلى تكوين وتدريب بذلك المعهد، ولقد صدر الأمر 2259 المؤرخ في 31 جويلية 2009(11)، كما تم تنقيحه بمقتضى الأمر عدد 43 المؤرخ في 13 جانفي 2015(12)، بتنظيم الدراسة والتكوين، كما ضبط قرار وزير العدل وحقوق الإنسان ووزير التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا المؤرخ في 7 أوت 2009 مكونات برنامج تلك الدروس وذلك التكوين.
وبالرجوع للفصل 3 من القرار السابق الذكر، نلاحظ أن المحامي المتدرب يتلقى تكوينا بالسنة الأولى والثانية في عدة مواد قانونية سنوية (الفصل3-1) وأيضا مواد قانونية سداسية(13).
ولكنه، لا يتم تكوين المحامي المتدرب في مجال قانون البيئة، ولا فيما يخص المبادئ الأساسية لقانون البيئة بالرغم من بعض المحاضرات، وعند مباشرته لمهنة المحاماة، فإن ذلك لا يكون إلا بصورة عرضية، فيتناول المحامي القضية التي يباشرها باجتهاده الخاص والفردي. كما يسعى بعض المحامين الى تلقي تكوينا خاصا في قانون البيئة او يكون عضوا في إحدى الجمعيات البيئية. حال انه كان من المفروض تلقيه تكوينا اكاديميا بمعهد المحامات وتقييم ذلك التكوين ليصبح من خريجي معهد المحاماة فئة متخصصة من المحامين في النزاع البيئي سواء لدى القضاء العدلي او الاداري.
وعليه، نلاحظ ان عديد المحامين يؤسسون الدعاوى البيئية على مشاغب الجوار مناط الفصول 99 و100 من مجلة الالتزامات والعقود او على اساس كف الشغب ورفع مضرة الى غير ذلك من الاسس القانونية المحاذية لحماية البيئة، وغالبا ماكان المحامي لا يغوص في جانب الحق في البيئة المنصوص عليه بالدستور، ولا في الاتفاقيات الدولية المنخرطة فيها الدولة ولا في خضم المبادئ الأساسية لقانون البيئة، والمدرجة ضمن عديد النصوص التشريعية، عدا في السنوات الاخيرة التي زاد رقم النزاعات البيئية وبدا بعض المحامون يهتمون بصورة خاصة بهذا النوع من النزاعات. وبالتالي، يكون تكوين هؤلاء المحامين من \انه التي فتح "أجنحة" التقاضي و الالمام بالاليات البيئية الشاملة من حيث المقوّمات والاجراءات.
فان التكوين الذي يتلقاه المحامي في قانون البيئة بمعهد المحاماة يمكنه من الابداع في تهيئة الملفات والمرافعات وتحرير طلباته بالتقاري التي يقدمها للمحاكم، فتصقل قدراته، وتصبح اعمال المحامي المتكون في مجال البيئة والاحكام المعللة والمسببة من قاضي تكون ايضا في هذا المجال، لبنة لتكريس فقه قضاء بيئي بتونس من جهة، ولابراز الحق في البيئة كحق من حقوق الانسان الاساسية.
وعليه، فإنه على الساهرين على سيرورة الدولة في هذه الفترة، وعلى راسهم السيد رئيس الجمهورية السيد قيس سعيد، والسيدتين الوزيرتين ليلى جفال وليلى الشيخاوي اصدار النصوص الكفيلة بتنقيح التشريع الخاص بتكوين القضاة والمحامين بالمعهدين المذكورين وعيا منهم بأن الحق في البيئة حق من حقوق الإنسان ،تطبيقا للاتفاقيات الدولية المنخرطة فيها الدولة التونسية ولمبادئ التنمية المستديمة وبنود الدستورلسنة 2014.(14)
نجيبة الزاير
قاضية ومديرة الدراسات السابقة بالمعهد الاعلى للقضاء
(1) المتلقي المفروض لهذا المقال هو السيد قيس سعيد رئيس الجمهورية التونسية
(2) توجه كاتبة المقال هذا الاخير للسيدة وزيرة اعدل السيدة ليلى جفال والى السيدة وزيرة البيئة السيدة ليلى الشيخاوي
(3) https://www.fao.org/sustainable-development-goals/indicators/ar;
ان اهداف التنمية المستدامة هي القضاء على الفقر والقضاء التام على الجوع والصحة الجيدة والرفاه، والتعليم الجيد،والمساواة بين الجنسين، والمياه النظيفة والنظافة الصحية، وطاقة نظيفة باسعار معقولة، والعمل اللائق مع النمو الاقتصادي، والصناعة والابتكار والهياكل الاساسية، والحد من أوجه عدم المساواة، ومدن ومجتمعات محلية مستدامة، واستهلاك وانتاج مسؤولين، والعمل المناخي، والحياة تحت الماء والحياة في البرّ، والسلامة والعدل والمؤسسات القوية، وعقد الشراكات لنحقيق الاهداف.
(4) الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد50، الصادر بتاريخ 31 جويلية 1992،ص.924.
(5) الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد6، الصادر بتاريخ 27 جانفي 1989،ص.124-125.
(6) الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 51، الصادر بتاريخ 9جويلية 1993،ص.958.
(7) Leila Chikhaoui « Les conventions internationales relatives à la protection de l’environnement » ;position de la Tunisie ; in ; mélanges en l’honneur de la professeure Soukeina Bouraoui, CPU, Tunis.2018,p.509 ; Nejiba Zaier, Les conventions internationales du patrimoine culturel, Editions Latrach ; Tunis, Octobre.2021.
(8) نجيبة الزاير،قانون البيئة، مجمع الاطرش، تونس.2020؛ ;
Ferchichi Wahid, la protection de l’environnement en droit Tunisien, Cejj,Tunis.2013 "
نجيبة الزاير، "حماية البيئة في القانون التونسي" رسالة التخرج من المعهد الاعلى للقضاء،تونس.1990-1991.
(9) Hafidha Chekir, Introduction au droit de l’environnement, Groupe Latrach, Tunis.2017, Leila Chikhaoui, Droit de l’environnement, ENA,Tunis.1998.
(10) نجيبة الزاير، حماية البيئة بين القانون وحقوق الانسان، مجمع الاكرش للكتاب المختص، تونس.2019،ص.215 الى 234.
(11) الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد65 الصادر بتاريخ 14 أوت 2009،ص.2924-2929.
(12) الرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 277 الصادر بتاريخ 27 جانفي 2015، ص.277-278.
(13) المواد السنوية التي تدرس بالمعهد الأعلى للمحاماة هي التي وردت بالفصل 3-1 من القرار المذكور أعلاه، والتي تشمل مادة المرافعات المدنية والتجارية، ونزاعات الاختصاص وطرق الطعن والإجراءات الجزائية و القوانين المتعلقة بالنيابة العمومية والمحاكم الزجرية وتنفيذ العقوبات،أما المواد السداسية التي تلقاها المحامي المتدرب، فهي مادة القانون الجزائي والعقاري وقانون المسؤولية المدنية والتامين والنزاعات والقانون الدولي الخاص والمتعلق بالمحاسبة التجارية وأيضا القانون البنكي وقانون القروض والشركات التجارية وقانون إنقاذ المؤسسات والتفليس والتصفية العدلية، وكذلك قانون الفرائض وقانون العقل والنزاعات التنفيذية والقانون الجبائي والإجراءات والنزاعات الإدارية وتقنيات المرافعة والطب الشرعي واللغة الانكليزية.
(14) المعهد الأعلى للقضاء والمعهد الأعلى للمحاماة.
- اكتب تعليق
- تعليق